دائماً ما يوجّه إليّ السؤال: "بتشجّع نادي إيه؟".
ودائماً ما تكون الإجابة واحدة وثابتة: "لا أشجّع أي نادٍ". تلك الإجابة تُربك السائل، فلا أحد في مصر، وربما في العالم أجمع، ليس لديه نادٍ يشجّعه. لعل هناك فئة نادرة ليس لها علاقة بكرة القدم.
غير أن علاقتي بكرة القدم مختلفة تماماً. أذكر حين كنت في الثامنة من عمري، وتحديداً في عام 1990، كانت هناك مباراة هامة بين المنتخب المصري والمنتخب الجزائري، في نهائي التصفيات للصعود إلى كأس العالم. وقتها بدت القاهرة وكأنها تستقبل أهمّ حدث يمرّ بها على الإطلاق: الجميع يستعد ويترقب الحدث منذ الصباح الباكر، حتى خالي الذي لم يكن له أي اهتمام يُذكر بتلك اللعبة، كان حريصاً على مشاهدة المباراة، كل أفراد العائلة التفوا حول التلفزيون وقد دبّ فيهم حماس معدٍ.
لم أكن أعرف السر وراء هذا الاهتمام المبالغ به، حتى جاء هدف حسام حسن، لتهتز الشبكة وتهتز معها القلوب الفرحة، بهجة عارمة تكتسح الجميع. ليلتها اختبرت لذة السعادة الجماعية، الجميع بلا استثناء يتقافز ويرقص من نشوة النصر، الحناجر تهتف بأعلى صوت: "جوهري... جوهري"، كأنه عرس للشعب المصري. تساءلت: كيف لمباراة أن تجعل شعباً كاملاً يعيش في سعادة بالغة؟
بعدها بعدة أعوام، وكانت هناك مباراة بين الأهلي والزمالك في نهائي الدوري الممتاز. لعل ذلك حدث في عام 1993. فاز الأهلي بثلاثة أهداف نظيفة، وفي ظل احتفال جمهور الأهلي بالشارع، اقتحمت صرخات قادمة من البيت المجاور لنا، ثم حضرت سيارة الإسعاف، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها تلك السيارة بالشارع، لتنقل والد صديقي "سُكر" إلى المستشفى، والذي أصيب بشلل نصفي بعد المباراة. لقد كان زملكاوياً مخلصاً للزمالك، لم يتحمل الخسارة الفادحة وكأنه خسر أحد أبنائه، فكان مصيره مواصلة الحياة على كرسي متحرك... تساءلت: كيف يمكن لمباراة بأن تصيب رجلاً بشلل دائم؟ وقتها قررت أنني لن أشجّع نادياً بعينه، وأنني سأشجع اللعبة الحلوة دوماً.
جارنا كان زملكاوياً مخلصاً للزمالك، لم يتحمل الخسارة الفادحة وكأنه خسر أحد أبنائه، فكان مصيره مواصلة الحياة على كرسي متحرك... تساءلت: كيف يمكن لمباراة بأن تصيب رجلاً بشلل دائم؟
وكانت الألعاب الحلوة في العام التالي، حيث مونديال كأس العالم 1994، وكان فريق البرازيل هو المفضل للشعب المصري، خاصة مع وجود الثنائي بيبيتو وروماريو. تأثرنا كثيراً باللاعبين حتى أننا كنا نحلق شعرنا على طريقتهم، نحاكيهم في اللعب بالشارع ونستعير أسماءهم لنطلقها على أنفسنا، ولا يمكن أن أنسى أبداً الرقصة الشهيرة للثنائي بعد كل هدف، وهي رقصة قدمها اللاعب بيبيتو إلى ابنه الرضيع، والذي أنجبه قبل أيام من مباراة البرازيل وهولندا، وصارت هذه الرقصة طقس احتفالنا بكل هدف نحققه في مرمى الخصوم.
أما كأس الأمم الأفريقية في 2010 فقد كان له واقعة متميزة. ليلة مباراة مصر وغانا، كانت شقيقتي الصغرى تضع ابنها الأول بالمستشفى، في الوقت الذي كان جميع العاملين يتابعون بشغف المباراة، كانت هي تعاني من أوجاع الوضع. كان صراخها يتزامن مع صيحات المشجعين، أذكر أن الطبيب طلب منها أن تدعي للمنتخب، وبعد الدعاء بلحظة جاء هدف محمد ناجي جدو، وهكذا احتفل الجميع بالمباراة والمولود الجديد الذي أطلقوا عليه لقب "جدو"، فأصبح هذا اللقب ملازماً له حتى يومنا هذا.
هناك دروس عديدة أخرى تعلمتها مع مباريات كرة القدم. حين كنت شيخاً ملتزماً كان الشيوخ يرددون علينا مقولة هامة: "رجل لديه همة قادر على إحياء أمة"، تلك المقولة وجدت لها تطبيقاً عملياً في مباراة كأس العالم للقارات، بالأخص مع المنتخب المصري ضد نظيره الإيطالي، وإيطاليا حينها كانت حاصلة على كأس العالم، ليلتها قدم حارس المرمى عصام الحضري مباراة أسطورية، حتى أن الكثير من المشجعين كانوا على يقين أن الحضري يواجه إيطاليا منفرداً. ذلك الرجل استطاع أن يكون سداً منيعاً وقوياً، لعل ذلك ما دفع الشعب المصري بأن يطلق عليه "السد العالي".
هذا النجاح الفردي، وبعيداً عن المؤسسات والأندية، كان له حضور أيضاً عند اللاعب محمد صلاح، ذلك اللاعب الذي لم يلتحق بالنادي الأهلي أو الزمالك، واحترف بشكل مباشر في الدوري الأوروبي، كان ولا يزال علامة مميزة في تاريخ الكرة العالمية، وكأنه أصبح مؤسسة كاملة بحد ذاته. حتى اليوم يشجع الشعب المصري فريق ليفربول في كل مبارياته، يحزن عند خسارته ويحتفل بنجاحه، ليس حباً في الليفر إنما حباً في صلاح، وكأن نجاح هذا اللاعب هو نجاح لكل مصري أصيل.
ولكن، هذه البهجة أفسدتها السياسة مع الأسف، سواء كانت داخلية أو خارجية. أبو تريكة مثلاً، أسعد المصريين بأهدافه التي لا تحصى، ثم أعلن في مباراة مصر والسودان أنه متعاطف مع غزة... ومن منا ليس متعاطفاً مع غزة؟ غير أنه تعرض للأذى والاتهام بالخيانة، بل والعمالة لحساب دول معادية لمصر وانتمائه للإخوان. كل هذا مفهوم بالنسبة للسلطة المصرية، أما غير المفهوم، بالنسبة لي على الأقل، انقلاب المشجعين ضده. لقد نسوا أو تناسوا أخلاقيات اللاعب الماهر المحترم، ومحوا تاريخه الكروي بلا أي جُرم، بل بسبب تضامن إنساني!
لم أعد أهتم بمباريات كأس العالم للأندية، ولم أفرح بفوز الأهلي على الفريق القطري، ولم أحزن على خسارته أمام بايرن ميونخ الألماني، فلكل مباراة ظروفها الخاصة، أما ظروف هذا الوطن فهي من سيئ إلى أسوأ
مع ذلك فإن مأساة أبو تريكة لا تعتبر بضخامة مجزرة الألتراس ببورسعيد في عام 2012، حيث قُتل فيها ما يقارب الـ 72 مشجعاً لنادي القرن، وكان من بينهم صديقي محمود عارف الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره. الجميع يعرف العداء بين الشرطة والألتراس، ودور الألتراس في حماية ثورة يناير، والدخلة الشهيرة التي غنوها أمام علاء مبارك. كانت المجزرة بدافع الانتقام من ناحية، وبدافع خلق حرب أهلية بين محافظة بورسعيد وجمهور الأهلي العريض من ناحية أخرى، مؤامرة خسيسة وواضحة راح ضحيتها العشرات من الشباب. تلك الواقعة كانت الفيصل بيني وبين تشجيع أي نادٍ، ثم جاءت مذبحة مدبرة أخرى لتحصد ألتراس الزمالك، فيدفع 22 شاب مصري فاتورة السلطة المتغطرسة، بأرواحهم البريئة.
لقد كانت لعبة كرة القدم تقدم لنا بهجة صافية، سعادة من القلب وفخر ببلدنا في الماضي، واليوم لم نأخذ منها غير حسرة في النفوس وحزن دفين، وخزي من سلطة استغلتها من أجل الثأر والانتقام الغاشم. لم أعد أهتم بمباريات كأس العالم للأندية، ولم أفرح بفوز الأهلي على الفريق القطري، ولم أحزن على خسارته أمام بايرن ميونخ الألماني، فلكل مباراة ظروفها الخاصة، أما ظروف هذا الوطن فهي من سيئ إلى أسوأ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...