في مثل هذه الأيام من العام الفائت حملتُ بتوأمٍ، وصلني منه "فارس"، بينما لم يُكتب للآخر الاستمرار. كانت شهوراً غريبة وثقيلة، حمْلٌ بجنينٍ حيّ وآخر ميت، كورونا وإغلاق وحجر منزلي، التزاماتُ العمل والحياة التي منحتني أخيراً فرصة لفرح، بدأ مع صرخة طفل ملأت غرفة العمليات وفجرت قلبي بدفقٍ من الحب لا ينتهي، تلك الصرخة هدأتْ حالما لامس خدُّه خدي... لحظةٌ تساوي ألف عمر، لحظةٌ نقلتْ حياتي إلى عتبات أخرى، حيث الحب والسهر والمتعة والتعب، مزيجٌ فوضوي أعجز عن تفسيره...
فيض حبّ وأسئلة كثيرة
أفكرُ ملياً بما أشعر بعدما أصبحت أُمّاً، لكني أجده عصيّاً على الفهم، ما أدركه أن حبّاً جمّاً يملؤني، ويملؤني معه الكثير من القلق والتعب، يعززه زلزال الهرمونات التي تلوّح بالمشاعر والمزاج يُمنة ويُسرى، حسبما قرأت، فعند الولادة يرتفع هرمون الأوكسيتوسين المسؤول عن غريزة الأمومة ويرتفع معه القلق الذي يدفع الأم لاستشعار أي خطر في عالم طفلها.
لكل أم حكاية ترويها وهذه حكايتي التي ربما تحمل في طياتها ألف حكاية، المهم أني أعيشها بقلب ممتن وراضٍ.
على ضفة مقابلة، ينخفض بقوة هرمونا الأستروجين والبروجسترون المسؤولان عن إنتاج الدوبامين والسيروتونين، وهما ناقلان عصبيان في الدماغ، مهمان للشعور بالهدوء والسعادة خلال الحمل. لعل ذلك ما يفسر أفعوانية المشاعر التي أعيشها خلال الأشهر القليلة الفائتة.
يقولون عندما تصبحين أمّاً تشعرين بعطاءات أمك وأمهات العالم، كم تعبْن حتى كبرنا، وكم ضَحيْن وكم وكم، يحدث ذلك إلى حدٍّ ما، لكن يقيني أن فعل العطاء جزءٌ أصيل من ممارسة الأمومة، ويتجاوز الإنسانية.
شاهدتُ في وثائقيٍّ إحدى أنواع أنثى الأخطبوط تبيض وتحتضن بيوضها خوفاً من اقتراب أي حيوان بحري، وفي سبيل ذلك تمتنع عن الأكل حتى تموت تزامناً مع خروج أبنائها للحياة.
الأمر الذي ألحّ عليَّ وشغلني، كمّ الحب الذي يتدفق من الأم، فيضٌ من المشاعر القادرة على احتضان الكون في قلبها الذي يتحول منذ لحظة الولادة إلى بلورة هشّة لا أبعاد لها. أسأل نفسي: أهكذا تشعر أمي اتجاهي رغم أني بلغتُ الأربعين من العمر، أهكذا تشعر الأمهات اللواتي ملأن بيوتهن أولاداً؟! إذن أيّ أسى أصاب أمي عند فقدها أخي منذ عقدين من الزمن، وأيّ وجع ألمَّ بها عندما اغتربتُ عنها وعن البلاد؟!
أسئلة أخرى كثيرة راودتني بعد الولادة حول المغزى من الوجود وحتمية الحياة والموت، حول هويتي كأم وإنسانة هي صورةٌ لله في حياة شخص آخر صغير، أحملُه فأنسى كل شيء إلا هو، أشمُّ رائحته التي تشبه أولَ الخليقة، رائحةَ الطبيعة البِكر قبل أن يمسّها إنسان. أهدهده فيرتاح وأطمأن، أغني له فيبتهج وأسعد، ثم يغفو فأضعه في سريره، أراقبه، مغمضُ العينين ومبتسم، الأسطورة تحكي أنه يحدّث ملائكته، بينما اعتقادي أنه يستذكر أخاه الذي جاوره تسعة أشهر ولم يكمل معه الطريق.
في مثل هذه الأيام من العام الفائت حملتُ بتوأمٍ، وصلني منه "فارس"، بينما لم يُكتب للآخر الاستمرار. كانت شهوراً غريبة وثقيلة، حمْلٌ بجنينٍ حيّ وآخر ميت، كورونا وإغلاق وحجر منزلي، التزاماتُ العمل والحياة التي منحتني أخيراً فرصة لفرح
وجع وانتظار طويل
إحدى تعريفات الموت التي قرأتها أنه "خسارة حياة الشيء، وفقدان قدرته على إدامة نفسه باستخدام عملياته الحيوية"، ذلك ما حدث مع الجنين الذي حملته. كنت في شهري الرابع وفي أوج نشاطي وفرحي، عندما أخبرني طبيبي أن أحد الجنينين غير مكتمل، وطلب صورة أشعة رباعية الأبعاد، كان علينا إنجازها بأسرع وقت، غير أن الإقفال وظروف جائحة كورونا أعاقت الأمر، جميع مراكز الأشعة مغلقة ولا تعمل إلا بموعد مسبق وبعدد محدد من المرضى، أنجزنا الصورة بعد أيامٍ كانت الأطول والأصعب في حياتي.
علِمنا أن به عيوباً خلقية تجعله غيرَ قابل للحياة، بينما أخوه بصحة جيدة، كان لدينا خيارُ إيقاف حياته كي لا يزيد تعبه وليستمر الآخر طالما أنه بخير، لكن الحمل استمرّ كما هو، بعد اقتراح الأطباء أن تكمل الطبيعة مجراها. أما أنا فكنت كما الواقف على خيط رفيع لا بداية له ولا نهاية، بينما الوقت يمضي بطيئاً ثقيلاً...
انقضى شهرٌ عشته بأدنى قدرة على الحياة، أرسم سيناريوهات وخططاً لما ستحمل الأيام والأشهر القادمة، آملة ألا يطول عذاب هذا الكائن وعذابي معه، لأصل شهري الخامس وقد توقف نبضه، حسم أمرَه وقرّر الرحيلَ وترْكَ المساحة لأخيه، الذي بدأ يكبر بينما هو يضمر ويضمر أكثر، بكيت عليه وودعته، لم أعرف جنسه كيلا أحزن أكثر.
فكرتُ كثيراً كيف مضى حملي بجنين حيّ يكبر، وآخر ميت يتلاشى كلما مر الوقت، كيف اختصرتُ الكون في أحشائي. الموت والحياة الحقيقتان الوحيدتان، غير أن الموت كما قال الفيلسوف الأمريكي توماس ناغل Thomas Nagel شرٌّ، لأن استمرار الحياة يجعل الأشياء الجيدة دائماً متاحة، وذلك ما حصل عندما شغلني "فارس"، منذ كان جنيناً يركل بطني ويتحرك فيه كغيمة، كنتُ أحدّثه وأسمِعُه الموسيقى، بينما أرتب أغراضَه وأنا أحلم بأن يحلّ وقتُ استخدامها. ها نحن نستخدمها الآن ونملؤها بالحليب و"الشخاخ"...
علِمنا أن به عيوباً خلقية تجعله غيرَ قابل للحياة، بينما أخوه بصحة جيدة، كان لدينا خيارُ إيقاف حياته كي لا يزيد تعبه وليستمر الآخر طالما أنه بخير، لكن الحمل استمرّ كما هو، بعد اقتراح الأطباء أن تكمل الطبيعة مجراها. أما أنا فكنت كما الواقف على خيط رفيع لا بداية له ولا نهاية، بينما الوقت يمضي بطيئاً ثقيلاً...
لكل أم حكاية
لكل أم حكاية ترويها وهذه حكايتي التي ربما تحمل في طياتها ألف حكاية، المهم أني أعيشها بقلب ممتن وراضٍ. امتنانٌ يعبّر عنه زوجي أيضاً دون أن يخفي أن تجربة الأبوة صادمة بالنسبة له، وأن الطفل يعيدُ تشكيل حياتنا بل وشخصياتنا أيضاً، غير أن طاقةَ الحياة والقدرة على الاستمرار برفقته لا أمدَ لها.
نجلس ونتحدث حول كيفية تنشئته، وكيف سنبني فيه إنساناً قوياً ومستقلاً، يُقدّرُ جمالَ الحياة ويَقدِرُ على متاعبها، يُمضي جلّها مع الموسيقى والطبيعة والكتب، غيرَ ساعٍ إلى مراتب أو أموال أو جاه، يحب نفسَه ويمجّد ما بين يديه ويسعَد باختياراته، ولا يضنّ بالخير والفرح على أحد، فبهما يغدو الكون أفضل، وسيعودان له حتماً حتى لو بعد حين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي