ثمّة صراعات طويلة خضتها في فتراتٍ مختلفة من حياتي، من أجل شعورٍ بالحرية أكثر عمقاً وواقعيّة، كانت لمعظم القرارات أثمان كبيرة بعض الشيء، إلا أنني لم أتردّد لحظةً في دفعها بكامل الفخر والاعتزاز بنفسي. أعتقد أن الفترة التي يمكنني مراجعة قراراتي بها قد مرّت، أو أنني لم أعد بحاجتها؛ إن التطوّر الذي أصابني في مسألة القرارات وصل إلى قرار الأمومة؛ لقد اتخذت قراري هذا بما أحبّ أن أسمّيه: كامل الوعي والمسؤوليّة والحبّ، واندفاعي تجاه القرار كان بمحض الغريزة الإنسانيّة والسيرورة الطبيعيّة لحياة المرأة، كانت اللحظة الأجمل بالنسبة لي هي تلقّي الخبر من الممرّض في المختبر، وبعدها حين شاركته مع شريكي والآخرين.
اللحظة التي نُعلن فيها كأمهات
في لحظةٍ واحدةٍ تتحوّل إحدانا من مفردٍ إلى ثنائي، نستيقظ صباحاً نساءً عاديّات وننام على خبر أننا دخلنا في طريق الأمومة. أتذكّر الآن حديثنا، أنا وزوجي، عن مشروع الحمل والإنجاب، لقد كان ظرف حياتنا في أوّل زواجنا معقّداً بعض الشيء وبعيداً كلّ البعد عن الاستقرار، كنا نضحك إذا تحدّثنا عن الموضوع، ونخطط دائماً لحياةٍ طبيعيّة أوّلاً، نعيش فيها سوياً في البيت ذاته (لأنه في فلسطين وأنا في الأردن) من ثم نفكّر بالحمل. جاء الحمل مباغتاً في فترةٍ نصفيّة بين الخوف والطمأنينة، لكنني فرحت جداً وتعاظم بداخلي شعور أنني مكتملة: امرأة متمتّعة بكامل قدراتها، خصبة، ولّادة، هذا بالضبط ما شعرتُ به، وما لم أفسّره أنني لم أفكّر لحظة قبل هذه التجربة في سؤال النقص أو الكمال.
أنا الآن في منتصف هذه التجربة، أي أنني لم اختبرها بالكامل لأقدّم وجهة نظري أو تقييمي لها، إلّا أنني بالتأكيد قد تخطيتُ المرحلة الأصعب؛ الثلث الأوّل من الحمل هو الأصعب، تغيير هائل ومفاجئ في الهرمونات، تغيير في شكل وتركيبة الجسد، في الطباع والحواس والمشاعر، كأن شخصاً جديداً وُلد للتوِّ بشكلٍ مختلفٍ وطباعٍ غريبةٍ وصفاتٍ لم تكن مألوفة من قبل. تبدأ الرحلة بالكثير من النصائح، الأم تقدّم جملة من النصائح والتحذيرات والواجبات والممنوعات، الزوج يبالغ في خوفه من كلِّ حركة، المحيط النسوي وتجاربه المتنوّعة في الحمل والوحام والإنجاب.
حامل ومدخّنة
كامرأةٍ مدخّنة كانت أكثر التحذيرات تخصّ التدخين وعلاقته بالأمراض التي يمكن أن تصيب طفلي وتؤثّر على جيناته ونموّه، والكثير الكثير، هذا ما جعلني أشعر بالإحباط والانزعاج في الشهر الأوّل من الحمل، حيث أنني كنت في كلّ مرّة أشعل بها سيجارتي أحزن، وتنتابني مشاعر سلبيّة تتمحور حول أنني أم غير مسؤولة، وأنني كما تسمّيني أمي: لا أحب طفلي كما يجب، وأنني آخذ قرارات بشأن شخص آخر أحمله في أحشائي، وهكذا بدأت دوّامة الأسئلة النهاريّة والليليّة، والمخاوف الدائمة على صحّة طفلي تطاردني؛ في بعض الليالي كنت أتابع فيديوهات يوتيوب عن أضرار التدخين على سلامة الجنين، ليلتها كنت أمتنع عن سيجارة السرير، وفي ليلةٍ ثانية كنت أتجاهل كلّ الأفكار التي من شأنها أن توتّر علاقتي بالسيجارة.
فجأة في لحظةٍ واحدة ما كنت أفهمها، كرهت التدخين ورائحته، كرهت رائحة عطري المفضّلة، بدأت الروائح المفضّلة لدي تثير مشاكل كبيرة، لم أعد قادرة على الطبخ، بالتالي أصبحت هواجس التقصير تلاحقني، ما هذه الفترة العصيبة التي أمرّ بها؟
الأم تخطئ أيضاً
ثمّة صورة عن أمي بدأت تتوضّح الآن بالنسبة لي، كأنني بدأت أكشط صفات الحكمة والملائكيّة والعصمة عن الأخطاء عن صورة أمي في رأسي، لا أعلم من الذي جعلنا نعتقد أن أمهاتنا بعيدات عن الأخطاء بحقّ أنفسهن وبحقنا؟ من قال إن أمي لم تبك كثيراً في حملها وتلم نفسها مثلاً على هذه الخطوة؟ من قال إن اللحظة التي تقرّر بها المرأة أن تنجب هي لحظة مسؤولة، طالما أن هرموناتنا تتحكّم فيما يصدر عنا فعلاً! لا بدّ أن الحياة التي تتحكّم الهرمونات بها حتى الخمسين متعبة بالفعل..
فكرة التغلّب على ما عرفناه عن أجسادنا كنساء، ومهمّتنا كضمان للبقاء البشري صعبة بعض الشيء، إن كلّ المحاولات التي تُعنى بالتغلّب على القوالب المجتمعيّة والثقافيّة لا تنجح بنسبةٍ كبيرة... هذه النقطة يمكنها أن تفسّر رغبتنا بالأمومة، ومحاولتنا الدائمة لتحرير هذا المفهوم من طابعه الأبوي.
كأمهات لا نملك سوى الحبّ لأطفالنا الذين جاؤوا لأننا نبحث عن الأمان والثقة والديمومة، لذا لم يعد يغريني أيّ مما قيل سابقاً من نساء متحرّرات عن رأيهن في تجربة الولادة، إننا كنساء نشترك في فعلةٍ غير مسؤولة من أجل أن نصبح مسؤولات.
اخترت أن أصبح أماً
فكرة التغلّب على ما عرفناه عن أجسادنا كنساء، ومهمّتنا كضمان للبقاء البشري صعبة بعض الشيء، إن كلّ المحاولات التي تُعنى بالتغلّب على القوالب المجتمعيّة والثقافيّة لا تنجح بنسبةٍ كبيرة، المهمّ أن تظلّ المحاولات، هذه النقطة يمكنها أن تفسّر رغبتنا العارمة بالأمومة، ومحاولتنا الدائمة لتحرير هذا المفهوم من طابعه الأبوي والسلطوي؛ على الرغم من أن العلم يتطوّر من أجل الحفاظ على قدرتنا الإنجابيّة، لقد أصبح بمقدورنا أن نجمّد بويضاتنا لنستخدمها وقت الحاجة، فأفضل جملة يمكن لواحدتنا أن تقولها هي: اخترت أن أصبح أماً، وسأكون مسؤولةً عن أمان وحماية الطفل الذي سأقدّمه للحياة.
التجربة لم تكتمل بالنسبة لي، لكنني اتخذت قراراً أنانيّاً مثلي مثل جميع الأمهات والآباء في العالم، إننا كأمهات لا نملك سوى الحبّ لأطفالنا الذين جاؤوا لأننا نبحث عن الأمان والثقة والديمومة، لذا لم يعد يغريني أيّ مما قيل سابقاً من نساء متحرّرات عن رأيهن في تجربة الولادة، إننا كنساء نشترك في فعلةٍ غير مسؤولة من أجل أن نصبح مسؤولات، بعض المشاعر اللذيذة والهائلة على الروح والنفس تأتي من قراراتٍ غير صحيحة، أو على الأقل قرارات يمكن الحكم على صحّتها أو خطأها بعد فترةٍ طويلةٍ من الزمن، ربما حين يصبح عمر ابني أو ابنتي عشرين عاماً، ويصبح بمقدوره أن يغفر لي خطأي مثلما غفر الكثير من الأبناء أخطاء أمهاتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون