شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"أتمنى أن تُشل، وتعجزَ عن فتح باب السيارة"... عن الحس بالسماجة وسلطة الإحراج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 15 يناير 202110:59 ص

تسخر الكاتبة السورية رشا عباس، في مجموعتها القصصيّة "كيف تم اختراع اللغة الألمانية"، من حسّ الدعابة لدى "أجدادنا بشأن المواضيع الجنسية"، وتضرب مثالاً عن النكات المضحكة: رأى الخليفة جارية في السوق فأعجبته، سألها: هل أنت بكر أم أيش؟ فقالت له: أنا أيش يا أمير المؤمنين.

الاتفاق مع عباس في هذه السخرية ينبع من السياق الذي تذكر فيه النكتة وصوت الكاتبة نفسه، خصوصاً أن حساسيتنا للضحك تختلف في كل دقيقة، ناهيك عن قرون عديد، لتظهر نكتة "أيش" سمجة، سطحية، أو تقارب دعابة السُذّج، خصوصاً أن ناطقها "أمير المؤمنين"، صاحب السلطة، ورواية هذه "النكتة" في وقتها المجهول قد تستدعي الضحك، لأن إحداهن "تظارفت" على أمير المؤمنين، أما قراءتها في كتاب عباس، فيكشف لنا عن طاقة السماجة التي وظفتها عباس أدبياً وكشفت مواطنها لدى الآخر.

لكن، هل هي فعلاً مضحكة، تلك النكتة التي اقتبستها عباس، أم تستفز فينا، إن قرأناها معلقة في الهواء، حساً بالغرابة ورغبة بالصفع، ولو كان راويها الخليفة نفسه؟

تسخر الكاتبة السورية رشا عباس من حسّ الدعابة لدى "أجدادنا بشأن المواضيع الجنسية"، وتضرب مثالاً عن النكات المضحكة: رأى الخليفة جارية في السوق فأعجبته، سألها: هل أنت بكر أم أيش؟ فقالت له: أنا أيش يا أمير المؤمنين

المثير للاهتمام أننا أحياناً مضطرون للضحك أو "اصطناع الضحك" منعاً للإحراج، ضمن سياقات علنيّة تُذكر فيها هكذا نكات، حكايات أو حتى عبارات، ومن "الغريب" عدم الضحك عليها ومن المحرج تجاهلها، خصوصاً أنها تكشف لنا عن حسّ بـ "السماجة" يتلبس ناطقها ومن المحرج الإشارة إليه، تلك السماجة التي إن فتحنا المعجم، نقرأ فيه أنها تعني ما لا ملح فيه وغير مستساغ.

الإحراج هنا يظهر كسلطة اجتماعية من نوع ما، وأيضاً نوع من التأدّب، خصوصاً حين نكون أمام ما هو "سمج"، والذي قد يتحول إلى مُضحك في حال "تمليحه"، كما فعلت عباس حين اقتبست تلك النكتة.

الأهم أن أثر هذا "الإحراج" أدائي نوعاً ما، كونه إما يكشف سماجة الآخر، أو سماجتنا الشخصية، هو تأثير تفعّله في الحالات التي سنناقشها، كلمة أو مجموعة كلمات، لا تدّعي الجدية، لكنها تفرض علينا رداً ما أو تأكيداً، سواء كان سينيكياً أو حقيقياً، لا ينفي سلطة الإحراج وآثاره، بل يحاول إخفاءه بأسرع وقت ممكن، تجاوزاً لتهمة السماجة.

أخبرني صديق لي مرة بأن "مثقفينا سمجون، لا حس داعبة ولا كوميديا، مجرد ثقل دم"، لم أوافقه مباشرة، إلا حينما قرأت تعليقات العديد من الشخصيات الثقافية على فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالانتخابات عام 2017، وكانت النكتة المتكررة لدى الكثير من "مثقفينا" هي "ماكرون ولا مَعكرون؟".

-صمت-

من وجهة نظر أخرى وبخصوص "معكرون"، لا أدري بدقة مدى تطورت حساسيتنا البلاغية تجاه التلاعب بالكلمات وتبديل حروفها، وقرار البعض إهمال هذا التبديل كأسلوب للتعبير، ربما الأمر ذاتي جداً، لكن أليست قصيدة "صوت صفير البلبل" سمجة؟ وكذلك التعابير الشعرية مثل "تنهد النهد" و"زهر الزمهرير"؟كل مرة أقرأ العبارة السابقة والتلاعب اللغوي المرتبط بها يموت جزء من كياني الهش والساخر، خصوصاً أنني اضطررت للضحك عدة مرات حين سمعتها منطوقة أمامي، محاولاً إخفاء القيء المتجمع أسفل حلقي، بسبب السماجة التي تفعّلت لدى قائلها، هذه الرغبة تنتابني بصورة دورية حين أقرأ التعليقات على ما أكتبه من مقالات، بعضها محرج لمن يقوله، بل وسمج، واحدة فقط ما زالت مؤثّرة، لا سماجة فيها، كان نصّها: "أتمنى أن تُشلّ، وتعجز عن فتح باب سيّارة".

الإحراج وعري الآخر

الجانب الأول لسطلة الإحراج، أو فخ الإحراج اللغوي، الذي تتفعّل إثره السماجة، يرتبط بكشف الأخيرة لإيقاع الآخر، الزمن الذي يتحرّك ضمنه وتسلسل أفكاره التي أظهرت المفارقة اللغوية، فالسماجة إن ظهرت قد تبدو أحياناً مثيرة للشفقة أو الحنق، ولا يمكن تجنبها والإحراج المرافق لها.

نتلمّس ملامح هذه المقاربة في لقاء مع نجيب محفوظ بمناسبة عيد ميلاده الـ 93. محفوظ هنا عجوز، ويسأله المحاور قائلاً إنه قال في ميلاده التسعين: إننا "عشنا وشفنا العجب"، وأما الآن وهو في الثالثة والتسعين فما الذي يمكن أن يقوله، فيجب محفوظ: "مش قادر أشوف العجب!"، فيضحك محفوظ ويضحك من حوله ملء أشداقهم.

نعم هي نكتة، لكنها لا تستدعي الضحك الهائل الذي تردد في الخلفية من حول محفوظ، خصوصاً أننا لا نعلم أن كانوا يضحكون مجاملة أو حقيقة، ولا نقول هنا السماجة تامّة الحضور، لكنها -وربما في عقلي فقط- فعّالة.

إن افترضنا وجود السماجة، فهي تكشف حقيقة الضحك، بوصفه أسلوباً لعدم إحراج محفوظ نفسه الذي "أظنّه" استغرب ممن حوله، وظهرت سلطة هذا الإحراج في ضحكات الجميع، الموقف بأكمله يثير داخلنا حسّاً بالغرابة والإحراج، وتهمة بالسماجة لا نعلم بدقة بمن نلصقها، بمحفوظ أو بمن حوله.

لا توجد قاعدة عامة للإحراج ولا توليد السماجة، هي حيثيات تختلف ضمن كل حالة، إذ لا يمكن القول إن هناك "سوسيولوجيا الإحراج"، بل مجرد حالات متفردة قد تتكرر و يختلف تأويلها من شخص لآخر

الإحراج وعري الذات

الإحراج ذو أثر انعكاسي، إذ يكشف الذات نفسها أحياناً، ويشير إلى خجلنا وضعفنا وخوفنا من أن نَفضَح عيوبنا أمام الآخر، بصورة تتركنا نحن كسمجين، لا ذاك المواجه لنا. هنا استعيد القصة القرآنية الخاصة بالجدال والتحدي بين إبراهيم ونمرود الملك الذي تجبّر في الأرض، فضمن النص القرآني الذي سنقطعه على شكل حوار نقرأ المواجهة بالشكل التالي:

إبراهيم: "رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ"

نمرود: "أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ"!

لا يشير النص القرآني إلى نبرة نمرود، ولا الزمن بين السؤال والجواب، هل فكّر نمرود برده، أم كرر ما سمعه أمامه؟ لكن يوفر لنا النص سخرية دفينة من جواب نمرود في بداية الآية: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ". هناك إحراج ما هنا، إذ يشير القرآن إلى ضرورة الاعتبار مما حدث، والذي أظنّ، بخيال منحرف، أنه ضرورة تجنب السماجة، وعلينا أن نعتبر من السمجين، فابراهيم تحدّى النمرود الذي فوجئ وأحرج من تصريح إبراهيم، ولم ينته الأمر عند الجواب الساذج الذي أطلقه، بل وجد نفسه محرجاً، عارياً ومضطراً لإثبات وجهة نظره عبر استعراض ساخر للسلطة، وبـسماجة وجد نفسه مضطراً لقتل شخص والعفو عن الآخر، كي يثبت ادّعاءه وتلاعبه اللغوي: "أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ".

سياسية الإحراج

المثير للاهتمام في الإحراج أنه لا يكشف عن كذب بل حقيقة، أشبه بلحظة عري الذات التي تؤدّي جديّتها ولياقتها إلى الوقوع في فخ الإحراج، هو يكشف أن ما يحدث مجرّد أداء، ويجب عدم تجاوز قوانينه وأعرافه "منعاً للإحراج". المثال الساخر على ذلك، نراه في واحدة من أول المظاهرات في سوريا عند مدخل سوق الحميديّة في دمشق، فحين مجيء وزير الداخلية حينها، سعيد سمور، أطلّ من سيارته وقال للجموع: "عيب يا شباب، هي مظاهرة...!".

"مثقفينا سمجون، لا حس داعبة ولا كوميديا، مجرد ثقل دم"

مذهل هذا الرد، فهو بما معناه يقول: أيها المواطنون لا تتجمعوا لأن هذا عيب ومثير للإحراج أمام سيادة الرئيس، فلا تكونوا سمجين، نحن نخرج في مسيرات لا في مظاهرات. هذا الاتهام بالعيب منعاً للإحراج يكشف سخرية الطاعة والانصياع، ويكشف الحقيقة الدفينة، والتي تُخبّأ فقط لأنها معيبة، وتحرك في أولئك المحرجين، كحالة سعيد سمور، ردود أفعال سمجة، كشفت لاحقاً طبقات من الظلم والقمع.

ميوعة السماجة

لا يوجد قاعدة عامة للإحراج ولا توليد السماجة، هي حيثيات تختلف ضمن كل حالة، إذ لا يمكن القول إن هناك "سوسيولوجيا الإحراج"، بل مجرد حالات متفردة قد تتكرر و يختلف تأويلها من شخص لآخر، ومن السهل جداً الوقوع في فخّها، وربما الأمر كله أسلوب قراءة ومشاهدة للعالم، إذ يمكن التسامج وتخيل "عبد الفتاح كيليطو" يقرأ نكتة أيش، ويتحفنا بحكايات وحذلقات لغوية حول معانيها الدفينة، وأن الأيش كلمة كانت تستخدم في العصر العباسي، أو كلمة سريّة بين الخليفة والجواري تعني الخبرة في النيك والرهز، وأن أمير المؤمنين كان يرسل رسالة سريّة لهذه الجارية معناها أنه سيلحق بها بعد إنهاء جلسته.

الإحراج ذو أثر انعكاسي، إذ يكشف الذات نفسها أحياناً، ويشير إلى خجلنا وضعفنا وخوفنا من أن نَفضَح عيوبنا أمام الآخر، بصورة تتركنا نحن كسمجين، لا ذاك المواجه لنا

وقد يشير كيليطو أيضاً أن هذه الجارية بالذات التي لا يعرف اسمها غيره، كانت المفضلة لدى أمير المؤمنين، وكان يسألها ذلك أمام صديقاتها ليغيظهن في دعوة سريّة لتحسين قدراتهن الجنسية، لأن أمير المؤمنين يفضّل الخبرة على البراءة، ليختم كيليطو هذه القصة لاحقاً، بأن هذه الجارية نفسها ألّفت كتاباً بعنوان "الآه في فن الباه"، أفردت فيه فصلاً لتشرح اللغة السرية لهارون الرشيد مع جارياته، لكن للأسف، هذا الكتاب لم يصلنا، لأن نسخته الوحيدة احترقت في بيت الحكمة، حين سقطت بغداد على يد المغول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard