على كل الأصعدة، إلا قليلاً، كان عام 2020 هو الأسوأ. مشاهدة الأفلام وقراءة الكتب من هذا القليل المستثنى، ولعلي كنت أنتظر ظرفاً قاهراً ليتيح الوقت لإنجاز الكثير مما تأجّل، وأحتاج إلى ضرب يومي في ثلاثة، فيصبح اثنتين وسبعين ساعة، أقل ما يمكن لفضّ ازدحام الكتب فوق المكتب والأرفف، وعلى الأرض في الزوايا ما يلبث أن ينهض. ودائماً يسألني "آدم" ابني عما إذا كنت قرأت كلّ هذه الكتب؟ وعلى الفور أجيب بالنفي: "ولا نصفها، ربما النصف أو أزيد قليلاً". وتظلّ الكتب التي لم نقرأها تتحدى قلّة حيلتنا، وتذكّرنا بقصر الأعمار، وأن ما نحصّله ونحيط به قطرة في بحر "كلمات ربي" وعلمه.
أتأمل سنة كورونا الكبيسة، فأكاد أشكرها على المئات من الأفلام، القديمة والحديثة، القصيرة والطويلة، من الشرق والغرب، شاهدتها للمرة الأولى أو أعدت مشاهدتها، في يوتيوب أو في مهرجانات قليلة سمح بها الفيروس، بشروط وقائية. وأنظر إلى الآثار الكارثية للوباء، وأعداد ضحاياه، فأسارع إلى لعنِه. لا يشفع لوباء كونيّ أصاب العالم بالشلل، ووزّع الجنازات بغير عدل، أن يذهب مصحوباً بأي امتنان، ولو أنه أتاح لي قراءة 75 كتاباً، لعلها تزيد كتاباً في الأيام الباقية من السنة بعد كتابة هذه السطور. أعمال تجمع بينها الرغبة في إزاحة السأم، والاستمتاع بما تبقى من حياة ليست مضمونة، وشوق الروح إلى ما تصبو، وهو كثير.
بدأت بإعادة قراءة "إغاثة الأمة بكشف الغمة" للمقريزي. استعداداً لكارثة، أو تحصيناً للنفس منها، مهما يستبدّ كورونا فلن يضرب مصر ببلاء كأيام المعز لدين الله الفاطمي: "وفشت الأمراض، وكثر الموتى حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم، فكان من مات يطرح في النيل". أما الشدّة المستنصرية فاستمرّت سبع سنين، منذ عام 457 هجري (1065 ميلادي)، واختفى القوت، "وأُكلَت الكلاب والقطط حتى قلّت الكلاب، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير. وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وتحرّز الناس، فكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم سَلَب وحبال فيها كلاليب، فإذا مرّ بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه."
أتأمل سنة كورونا الكبيسة، فأكاد أشكرها على المئات من الأفلام، القديمة والحديثة، من الشرق والغرب، شاهدتها للمرة الأولى أو أعدت مشاهدتها، في يوتيوب أو في مهرجانات قليلة سمح بها الفيروس، بشروط وقائية
من حصاد إعادة القراءة: "البيضاء" و"لغة الآي آي" ليوسف إدريس، و"أصوات" لسليمان فياض، و"صوت أبي العلاء" لطه حسين، و"مدام بوفاري" لفلوبير، وترجمة محمد مندور، وخمسة أعمال لساراماغو، و"هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه، ولا تفوتني تحية المترجم علي مصباح على المقدمة والهوامش، و"مذكرات نجاتي صدقي" إعداد حنا أبو حنا، و"موت صغير" (591 صفحة) لمحمد حسن علوان، و"الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي. ومن الكتب الحديثة "القاهرة أو زمن البدايات" أوجز السير الروحية الرهيفة للقاهرة لسيف الرحبي، و"لما البحر ينعس" لرءوف مسعد وتقديم يوسف فاخوري، و"البينية في التخييل السردي.. قراءة تأويلية في مشروع ربيع جابر"، ولا أظنّ ربيع سيحظى بمثل كتاب الدكتورة سمية عزام.
من الأعمال الجديدة اللافتة: "الإمبريالية والهِشّك بِشّك... تاريخ الرقص الشرقي" لشذى يحيى، و"السينما الإفريقية المعاصرة وسينما الشتات"، تأليف أنجلي برابو، ترجمة سهام عبد السلام ومحمد مراد، و"أبطال الروايات الناقصة" مختارات شعرية مخطوطة لمحمود قرني.
وأتوقف أمام كتابين ترجمها الدكتور رفعت السيد علي: "شعرية إبليس... اللاهوت السردي في القرآن" (470 صفحة) تأليف ويتني س. بودمان، و"المستشرق... في فضّ غموض حياة غريبة" (620 صفحة) تأليف توم ريس. الكتاب الأخير تلزمه وقفة طويلة، ستكون أقلَ تفاؤلاً بمستقبل مصر السياسي، فالمؤلف يضعنا في قلب الفوضى التالية للثورات والهزائم (روسيا 1917، ألمانيا وتركيا بعد الحرب العالمية الأولى)، وهو يتقصى سيرة وهوية مؤلف رواية "علي ونينو".
في تحكيم المسابقات لا تمضي الأمور دائماً بمعايير لاختيار الفائز. هناك إبداع يخطف القلب، ويذهب بالمحكّم إلى مقعد القارئ الذي عليه أن يستمتع، وينسى التحكيم. ليس من حقي الإشارة إلى مجموعتيْ قصص لفائزيْن لكيلا يدلّ التصريح على اسم جائزة لم تعلن أسماء محكّميها، وأكتفي بذكر أعمال لم يحالفها الحظّ، بسبب ذائقة لجنة تحكيم في ظرف كورونيّ، ولكنها جديرة بالحفاوة، وباهتمام نقدي مستحقّ. لا تحتاج إلى الإشادة قصص "كان ياما كان" لمحمد عبد النبي، و"العازف" لهاني القط، "الجِمال مطمَـئنة" لحجاج أدّول. أحيي ثلاث مجموعات لا أعرف مؤلِّفاتها: "رأس متسعمل للبيع" لشيرين فتحي، و"كلّ علب الشيكولولاتة" لسارة شحاتة، و"سارقة الابتسامات" لأماني خليل.
أثناء كتابة هذا المقال، وأنا أبحث عن الكتب في أماكن متفرّقة، سألني "آدم" مرة أخرى: "متى تقرأ كلّ هذه الكتب؟" وقلت: "سيأتي الوقت. وكنت مهموماً بالبحث عن مكان أضع فيه كتاباً جديداً، بإنزال كتاب من تلك التي تتحدى القارئ طالما لم تُقرأ بعد. وأحياناً لا تقرأ إلا وقت التخلّص منها لفضّ زحام المكتبة. وفي العادة يقع الاختيار على الطرف الأضعف، وهو الكتاب الذي تكون العودة إليه نادرة، وخصوصاً لو كان أكثر إفادة لآخرين.هكذا أنزلت كتاب "النقد الأدبي الأمريكي... من الثلاثينيات إلى الثمانينيات" الصادر في نيويورك عام 1988، تأليف فنسنت ب. ليتش، ترجمة محمد يحيى ومراجعة وتقديم ماهر شفيق فريد.
وأتوقف أمام كتابين ترجمها الدكتور رفعت السيد علي: "شعرية إبليس... اللاهوت السردي في القرآن"، و"المستشرق... في فضّ غموض حياة غريبة" (620 صفحة) تأليف توم ريس. الكتاب الأخير تلزمه وقفة طويلة، ستكون أقلَ تفاؤلاً بمستقبل مصر السياسي
منذ صدور الكتاب عام 2000 عن المشروع القومي للترجمة بالقاهرة، وهو يجاور كتباً نقدية قرئت أو تنتظر. والآن، لاحتياجي إلى مكان عزيز في المكتبة، رأيت أن أوثر به الدكتورة سمية عزام لأنه يدخل ضمن اهتمامها، ويقع في "المابين"، حيث تتفاعل حقول معرفية ومناهج نقدية ومدارس فلسفية انتقلت من جغرافيتها، ثم نمت في أرض جديدة، ويمثلها فصول منها: "مدرسة فرانكفورت في أمريكا خلال الثلاثينيات"، "الفلسفة الأوروبية في أمريكا: الموجة الأولى والثانية"، "النقد الظاهراتي بأسلوب جنيف"، "ثورة هايدجر التأويلية"، "نظرية الاستقبال الألمانية في أمريكا"، "القراءة كمقاومة: السنوية والماركسية"، "نظرية التحليل النفسي الفرنسية: الكتابة النسائية"، "الماركسية الأوروبية الجديدة والنظرية الجدلية"، "علم الجمال الأسود".
يجسّد الكتاب الروح الأمريكية، وكيف استوعبت الأفكار النقدية والأيديولوجية الأوروبية، وموقع النقد الأمريكي في سياقه الحضاري والتاريخي، من خلال تيارات أبرزها جماعة مثقفي نيويورك الليبراليين منذ نهايات الثلاثينيات، وهم أول "إنتليجنسيا" في تاريخ الأدب الأمريكي يسعون "إلى دعم قيام نظام اشتراكي وثقافة حداثية للنخبة في آن... كانوا متحدين بقوة في معارضتهم للنزعة التجارية وثقافة الجماهير والابتذال". وحملت مدرستهم اسم النقد الاجتماعي، لاستناد مشروعهم للنقد الثقافي إلى اعتبار الأدب "ظاهرة ثقافية مفتوحة للتحليل"، فالنصوص نتاج تفاعلات الاقتصاد والبنى الاجتماعية والقيم الأخلاقية والمعتقدات الدينية. وانتقد بعضهم، عام 1949، منح جائزة بولينغن لإزرا باوند. لم يناقشوا جماليات شعره، "وإنما رفضوا منح الجائزة لفاشي".
وبرزت مدرسة شيكاغو الأرسطية الجديدة في مطلع الخمسينيات، وأعلى نقادها من شأن فقه اللغة والتحليل الفلسفي للأفكار والتاريخ. ولكن خطابهم كان هادئاً ومتعقلاً وأقل حيوية، لاهتمامهم بتاريخ النقد وليس الحداثة الأدبية. أما نقد الأسطورة، الذي يعزّز المغزى الروحي للإنسان وميله إلى الطقوس والأساطير، فبلغ ذروة ذيوعه في نهاية الأربعينيات إلى أواسط الستينيات، ردّاً "على جفاف الشكلية... وضدّ خواء وعبثية عالم علميّ بلا إله". ويرصد الكتاب أيضاً ملامح يقظة الضمير الأمريكي، في الحرب على فيتنام منذ عام 1954، وقد هاجمها مارتن لوثر كينغ. أما تشومسكي فانتقدها بمقالات نشرها عام 1967، وجمعها في كتاب أهداه "إلى الشباب الشجعان الذين يرفضون الخدمة في حرب إجرامية".
فاتني الكثير بتأجيل قراءة كتاب "النقد الأدبي الأمريكي" عشرين عاماً. وحين أقرأه الآن، أودّ الاحتفاظ به، لولا نيّة إهدائه. نيّة الإهداء سبقت القراءة، وسببها أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين