اختتمت الأربعاء الماضي، 23 كانون أوّل/ ديسمبر، النسخة الثانية من مهرجان المدينة الذي تنظّمه جمعيّة الثقافة العربيّة في حيفا، والتي انطلقت هذا العام تحت عنوان "المدن السّاحليّة: عكّا حيفا يافا".
فبعد انطلاق المهرجان بنسخةٍ تجريبيّة العام الماضي، اختار منظّموه هذه المدن الفلسطينيّة التاريخيّة لتكون ثيمة النسخة الجديدة، أوّلاً لأنّ مقرّ الجمعيّة في حيفا التي تتمتّع بزخم ثقافيّ ومكانة مركزيّة لفلسطينيي الداخل. وثانياً كون المدن الساحليّة الثلاثة تتقاطع في سرديّاتها التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة.
وقد استفاد المهرجان من بثّ أنشطته عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، نظراً للتقييدات التي فرضتها جائحة كورونا، لتستضيف فلسطينيين من داخل الوطن وخارجه. ولتصل إلى جمهور أوسع من الجمهور الفلسطيني المحلي في المدن الساحلية وحسب. فتفرض بهذا أجواءً احتفاليّة بالفنّ والثقافة، في المدن الساحليّة وعلى شبكات التواصل الاجتماعيّ، على الرّغم من الركود والتقييدات التي فرضها الوباء.
الثقافة الفلسطينية الساحلية بتشعّباتها
على مدار ستة أيام، قدم مهرجان المدينة مجموعة كبيرة من الفعاليات، تنوّعت بين الندوات والورش والمحاضرات والعروض الفنية والجولات وغيرها. نذكر منها العرض المركزيّ "لاعب النرد"؛ وهو عرض شعري قدمه المسرحي عامر حليحل والموسيقي حبيب شحادة. وعروض لأعمال سينمائية تتناول ثيمة البحر كفيلم "يافا أم الغريب" للمخرج رائد دزدار، و"بيت البحر" لروي ديب و"حبيبي بيستناني عند البحر" لميس دروزة و"فراولة" لعايدة قعدان.
يشير ربيع عيد، مدير مهرجان المدينة، إلى الأنشطة التي برزت في نسخة هذا العام قائلاً: "لقد عُقد لقاء أوّلي بين مجموعة من المثقفين والناشطين كجزء من مشروع ترسيم سياسات ثقافيّة للفلسطينيين في الداخل. هو لقاء تفاكر نتجت عنه أفكار ومقترحات سنعمل عليها العام المقبل من أجل بناء التصوّر المستقبليّ الذي سيحدّد رؤيتنا السياسيّة والثقافيّة؛ علاقتنا مع الفلسطينيين في أماكن تواجدهم المختلفة، علاقتنا مع العالم العربيّ، مع المؤسّسة الإسرائيليّة، رؤيتنا في مسألة اللغة والذاكرة الجمعيّة وعملنا على استقلاليّة أكبر لمشهدنا الثقافيّ، بعيدًا عن الأجندة الرسميّة والمؤسّساتية".
كذلك، يرى القائمون على المهرجان أهميّة بالغة في إدماج الشباب في هذه النسخة وتناغم حضورهم مع رؤية المهرجان، فعُقدت شراكات مع مجموعات شبابيّة؛ مثل مجموعة "عكا خمسة آلاف، وحركة شباب حيفا وسريّة الكشاف الإسلامي في يافا.
"تنشط هذه المجموعات من خلال عملها السياسي والاجتماعي. فتأتي أهميتها كونها تنشط في ظل سياسات التهويد والأسرلة والتغييب. التقى طلاب منحة روضة عطا الله التابعة لجمعية الثقافة العربية بهذه المجموعات ونظّموا أياماً تطوّعية تربطهم بالمكان، فقاموا بأعمال ترميميّة في معالم مختلفة في مدن الساحل"، يقول عيد.
استفاد المهرجان من بثّ أنشطته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، نظراً للتقييدات التي فرضتها جائحة كورونا، لتستضيف فلسطينيين من داخل الوطن وخارجه. ولتصل إلى جمهور أوسع من الجمهور الفلسطيني المحلي في المدن الساحلية وحسب
وكانت جمعية الثقافة العربية قد أطلقت خلال المهرجان تقرير مشروع عملت عليه على مدار عام كامل، وسيُنفّذ خلال السنوات الثلاث القادمة يهدف إلى الحفاظ على التراث المبني في الداخل. وسيُترجم المشروع إلى جانب توعوي وآخر سياسيّ من أجل التأثير على مخططات الحكومة، في محاولة لمحاربة التهميش والإقصاء الذي يتعرّض لها التراث العمراني في حيفا وعكا.
"إنّ التنوّع في أنشطة المهرجان، والذي أتاحه البثّ الديجيتالي، تجسّد في استضافتنا لفلسطينيين من أماكن مختلفة في العالم. فتمكّنا مثلاً من استضافة الفنانة سامية حلبي من نيويورك ومحاورتها حول أعمالها التي تتناول مدينة يافا، كذلك إلى استضافة الفنان العكي توفيق عبد العال ومحاورته حول معرضه "ترانيم البقاء"، وإلى إعداد فيديو مع لاجئين فلسطينيين من الجيل الثالث والرابع للنكبة، المهجّرين من عكا وحيفا ويافا، والذين لا يستطيعون الحضور. لكن استطاعت هذه اللقاءات أن تجمعهم وتغضّ النظر عن الحدود الاستعماريّة"، يقول ربيع عيد.
المهرجان، الذي تعاون مع مؤسسات ثقافيّة عدّة في فلسطين، قام وبالشراكة مع مجلتيّ فسحة ورمان الثقافيّتين، بإعداد ملف جمع أكثر من عشرين كاتبة وكاتباً كتبوا حول الساحل الفلسطيني، فساهموا في رأي الجمعية بإنتاج معرفي يُضاف لمعرفتنا عن الساحل الفلسطيني.
على مدار ستة أيام، قدم مهرجان المدينة مجموعة كبيرة من الفعاليات، تنوّعت بين الندوات والورش والمحاضرات والعروض الفنية والجولات وغيرها.
وكان للأدب والشعر حصّة تمثّلت في عرض قراءات أدبيّة لعدد من الكاتبات والكتاب منهم شيخة حليوى وإياد برغوثي ورشيد إغباريّة. وكذلك إطلاق واحتفاء بالمجموعة الشعرية الجديدة للشاعر نجوان درويش "استيقظنا مرّة في الجنة" الصادرة عن دار الفيل والمؤسسة العربية للدراسات.
واختتم المهرجان بفيديو لعمل راقص شاركت فيه راقصات وراقصون من فلسطين لتأدية رقصة أغنية جيروساليما العالميّة Jerusalema Dance Challenge في أزقة عكا وعلى سفوح جبل الكرمل، بالتعاون مع "ستوديو رابعة" ومدرسة "الأمل للرقص المعاصر". لتأتي هذه النسخة الفلسطينية من الرقصة في حيفا وعكّا بعد فيديو فلسطيني سابق أنتجه "مركز الفن الشعبي". "نحن نرى في فنّ الرقص مقولة اجتماعيّة بالغة الأهميّة، سيّما في ظل الأصوات التي ترفض هذا الشكل من أشكال التعبير، وبعد الوفاة المؤسفة للراقص أيمن صفية الذي كان له دوراً كبيراً في تعزيز مشهد الرقص والحركة في فلسطين"، يقول عيد.
عيننا على المدن لاستعادة الحداثة الفلسطينيّة
يذكر ربيع عيد دوافع اختيار مدن الساحل كثيمة: "لا يجمع هذه المدن وجودها على الساحل وحسب، إنّما واقعها السياسيّ كمدن مركزيّة تعرّضت للهدم عام النكبة، ثمّ استعادت مكانتها من خلال الحراك السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ فيها. هذه المدن تواجه مخطّطات ممنهجة لتزوير تاريخها وحصار سكانها الأصلانيين وطمس معالمها وتهويدها وإفقارها".
ويضيف: "كما تتعرّض معالمها التراثيّة وأحياؤها القديمة لإهمال متعمّد من قبل السلطات الإسرائيليّة. وهذه تشجّع بدورها المؤسسات الإسرائيليّة التي تنظيم أنشطة ثقافيّة تسفّه الرواية الفلسطينيّة وتروّج للأسرلة وأكاذيب التعايش، متجاهلةً تاريخ هذه المدن ونازعةً إيّاها من سياقها". يجيء المهرجان، بحسب عيد، ليحتفي بالثقافة والفنّ الفلسطينيّ وليؤكّد على هذا الموقف وعلى ضرورة الحفاظ على الموروث الثقافيّ واعتباره جزءاً لا يتجزّأ من النضال الفلسطينيّ وتحدّ للقبضة الإسرائيليّة على الثقافة الفلسطينيّة، وذلك من خلال إدماج الناس وقضاياهم في أنشطة المهرجان. والذي تجسّد عبر التواجد في الأحياء وبين الناس وتنظيم الجولات وأيّام التطوّع.
الناشطة زمزم فاعور، التي قدّمت جولةً في أحياء مدينة عكّا، إلى جانب المرشد أندرو عبادو، للحديث عن تاريخ المدينة وواقعها السياسي الراهن والظروف التي يعيشها الفلسطينيون بين أسوارها، تقول لرصيف22: "سلّطت الجولة، من جانب زميلي، الضوء على الجانب التاريخيّ للمدينة؛ على معالمها وإرثها العمرانيّ الذي نراه في سورها وسوقها ومينائها ومواقعها التاريخيّة المختلفة. أما أنا فقد ركّزت على الجانب السياسيّ الراهن؛ لأكشف عن التضييقات التي تواجهها عكا، والضغوطات التي تمارسها الجهات الرّسميّة في سبيل إفراغ البيوت من سكانها وتحويلها إلى أيدي القطاع الخاص، وذلك تحت غطاء القانون الإسرائيلي".
وتتابع فاعور: "نحن نشهد هذه الممارسات بشكل يوميّة ومن خلال نماذج عدّة منها قيام بلديّة عكا بإزالة لافتات الأسماء العربيّة للأحياء، ونزع معالم أثريّة تاريخيّة كخان العمدان من الملكيّة العامّة إلى الملكيّة الخاصّة ليصبح فندقًا".
وفي سياق المدن ذاته، يقول عروة سويطات؛ مخطّط المدن والباحث، وعضو اللجنة الاستشارية للمهرجان لرصيف22: "ينبغي أن نضع المدينة في واجهة النهضة الثقافية المرجوة التي نعمل على تحقيقها. ففي روايتنا، هيمنت صورة البلدات العربية وقضاياها. وقد قمنا نحن أيضاً بتذويت صورة القرية المهجرة كجوهر السردية الفلسطينية. لكنّ قصة المدينة لم تُحكى بعد كما يجب، كما لم ننتهي من سرد ما يحدث فيها اليوم. كيف ينهض المجتمع الفلسطيني فيها وما السياسات التخطيطية والإسكانية والثقافية والاجتماعية التي يواجهها".
ويتابع سويطات: "وعليه، ينبغي اعتبار المدينة رمح أي نهضة ثقافية. هو المكان الذي يظهر الشعب الفلسطيني فيه نابضاً وحيّاً وحداثيّاً. فالحداثة لم يجلبها الاستعمار. على العكس، كان ثمّة صدام بين الحداثة الفلسطينية والحداثة الاستعمارية، المدينة تلخّص هذا الصدام".
"ينبغي أن نضع المدينة في واجهة النهضة الثقافية المرجوة التي نعمل على تحقيقها. ففي روايتنا، هيمنت صورة البلدات العربية وقضاياها. وقد قمنا نحن أيضًا بتذويت صورة القرية المهجرة كجوهر السردية الفلسطينية. لكنّ قصة المدينة لم تُحكى بعد كما يجب"
يعتبر سويطات بأنّ المجتمع الفلسطيني يدرك كيف يجدّد نفسه ويجذرها في مدن الساحل. وهي قصّة حاول المهرجان أن يسردها من زوايا عدّة. "بالإضافة إلى النضالات التي يخوضها المجتمع من أجل وجوده، نحتفي بالأدب والفن ونعطي صورةً عن الغنى التاريخي والراهن في المدينة. وهو غنى يميّز كل مدينة بذاتها، فالمدن الثلاث تتحاور وتتقاطع ولا تتجانس تماماً. من جهة أخرى، فقد جاء المهرجان ليبيّن بأنّ الثقافة ليست محصورة بالإنتاج الفني. إنما تشمل مفاهيم أوسع تضمّ الهويّة الجمعية والحراك السياسي والاجتماعي والبنية الاجتماعية والعلاقة مع المكان وإحيائه"، يقول سويطات.
وكان قدّم المهرجان مجموعة من المحاضرات في هذا السياق من بينها محاضرة مع د. محمود يزبك تحت مدن الساحل الفلسطيني من التعمير إلى التدمير، ومحاضرة مع الباحث علي حبيب الله عنوانها: مظاهر من تاريخ التوتر والتصالح مع البحر. وأخرى مع د. منار حسن حول النساء والمدن الفلسطينيّة قبل عام 1948 وبعده.
الشباب... حرّاس المدن القديمة
لا شكّ في أنّ مدينة حيفا حظيت بمركزيّة معيّنة إن نظرنا إلى الفعل الثقافي الذي شهدته المدن الساحليّة الثلاث. وقد لاحظ المتابعون بأن مدينة عكا، بسبب عوامل كثيرة، شهدت تراجعًا في مشهدها الثقافي الذي يبدو بأنّ مجموعات شبابيّة مثل مجموعة "عكا خمسة آلاف" تحاول استعادته.
يقول الناشط أشرف عامر لرصيف22: "مرّت عكا في مرحلة من الفراغ. ذلك الفراغ ولّد لدينا رغبة في المبادرة. لا يمكن أن نقول إننا سنسدّ هذا الفراغ السياسي والثقافي. لكن نستطيع القول إن المجموعة تحاول أن تكون عنوانًا، ورابطًا بين أهل البلد والفنانين والناشطين. لقد لمسنا حاجة الناس لهذا الحضور من خلال الأنشطة التي أقمناها حتى الآن".
استطاع المهرجان أن يجمع الفلسطينيين ويغضّ النظر عن الحدود الاستعماريّة.
وكانت تأسست المجموعة عام 2017 مطلقةً على نفسها هذا الاسم تيمناً بعدد السنوات التي مرّت منذ تأسيس مدينة عكا الكنعانية. تقول الناشطة زمزم فاعور إحدى أعضاء هذه المجموعة لرصيف22: "تحرّكنا في السابقة بطريقة غير ممنهجة، نقوم بأنشطة قليلة على مدار العام. أما اليوم فنحن عبارة عن مجموعة مكونة من ثلاثين شخص من أعمار مختلفة. نحن جسم مستقل تماماً، ونضع قيمة التطوع كفكرة جوهرية. ننظم أنشطة فنية وثقافية كعروض السينما والنقاشات وغيرها. كما نبادر إلى مشروع في القيادة الشابة في مدينة عكا. نستلهم مبادراتنا من تاريخ المدينة، نعمل في حاضرها من أجل مستقبل أفضل لنا ولها".
وحول تعاون مهرجان المدينة مع مجموعة "عكا خمسة آلاف"، تقول زمزم فاعور: "رحّبنا بهذا التعاون لأننا أردنا أن تبرز مدينة عكا من خلال المهرجان. نظّمنا يوماً تطوّعياً شارك فيه أشخاص من عكا وخارجها. وسلطنا من خلاله الضوء على التراث العمراني. قمنا بتكحيل جدران المدينة القديمة، والتي بناها الظاهر عمر خلال الفترة العثمانية. معظم هذه المباني التي تعود ملكيتها للاجئين فلسطينيين، تسيطر الآن عليها جهات إسرائيلية كونها تعتبرها "أملاك غائبين".
وتضيف: "هذه الجهات تُهمل المباني ولا ترممها. صحيح أننا لسنا مهنيين في مجال الترميم لكنا تعاونّا مع مدرسة مختصّة أسسها المعماري سليم عامر. وهكذا تم إرشادنا في كيفية تكحيل حجارة الجدران والحفاظ عليها". وكان يوم تطوعي مشابه نظّم في يافا، في حين قام المهرجان بالتعاون مع حركة شباب حيفا بتنظيف وترميم مقبرة الاستقلال التاريخية في حيفا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...