نظرة سريعة إلى ما ترتديه المصريات في الشوارع والمدارس والجامعات والمستشفيات والأسواق ربما تجعل الزائرين، وبخاصة غير المعنيّين بالذاكرة البصرية، يظنّ هذه الأماكن ليست إلا استعارة من أصل إيراني، أو تقليداً لنسخة من الحجاز قبل العصف الأخير الذي لا أظنّ محمد بن سلمان يبتغي به وجه الله. استغرق هذا التزوير أربعين سنة طمست معالم مصر الأخرى، وقد حفظتها مشاهد في أفلام وصور فوتوغرافية نجت من التزييف، لاحتمائها بصحف ومجلات ومجموعات خاصة. نرى في بعض هذه الصور شيوخاً معمّمين في معاهد أزهرية يدرّسون لطالبات من دون حجاب ولا أغطية للرؤوس. وبالتوزاي مع هذا التحوّل، اختفت مصاحف كانت تسعف القارئ بفهم السياق القرآني الذي يسميه علماء التفسير "أسباب النزول"، وهي مناسبات نزول الآيات.
ما جرى أشبه بالألغاز
ناشدتُ أصدقائي في الفيسبوك أن يمدّوني بنسخة من مصاحف كانت السوَر فيها تبدأ بمستطيل مزخرَف من الجانبين، وفي وسطه ستّ معلومات هي: اسم السورة، ترتيبها في المصحف، مدنية أو مكية، عدد آياتها، اسم السورة التي نزلت قبلها، وجود آية أو آيات مدنية في السوَر المكية وكذلك وجود آية أو آيات مكية في السور المدنية.
أما المصاحف الحالية، المنتشرة بوفرة، وأغلبها قادم من الحجاز، فأبقت على مستطيل يحتفظ بالزخرفة، وحذف منه معظم العناصر السابقة. لديّ نوعان: أولهما مصحف راجعتْه لجنة المصاحف بالأزهر الشريف، وطبع في 27 ديسمبر 1989 بمطابع مؤسسة روز اليوسف بتصريح رقم 589، ويحتوي المستطيل المزخرَف على أربع معلومات: اسم السورة، ترتيبها في المصحف، مدنية أو مكية، عدد آياتها. أما النوع الثاني من المصاحف فتسجل صفحته الأخيرة أن مصدره مجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة. ولكن الصفحة الأولى، قبل سورة الفاتحة، عليها اسم الملك سلمان بن عبد العزيز. هذا المصحف يكتفي باسم السورة فقط، ولا يذكر تفاصيل أخرى على الإطلاق.
هذا الفقه يحقن دماء سال الكثير منها بفتاوى أجازت لآحاد المسلمين قتل من يُظَن أنهم مرتدون
أتعبني العثور على نسخة من الطبعات القديمة، مع وفرة النوع الأخير الباذخ. وفي مارس 2019 طمعتُ في كرم العراق، ولم أجد بعد صلاة الجمعة في مسجد بالبصرة، إلا الطبعات السعودية. ثم رأيت في عيادة طبيب عجوز، في حي مصر الجديدة بالقاهرة، بضعة مصاحف أحدها قديم. واستغربت الممرضة ألا أطلب نسخة قشيبة، وأن أرغب في مصحف لم أعد به إلى البيت، إلا بعد الذهاب إلى مطبعة لتجليده. ويحزنني أن تفوت قارئَ القرآن معرفة بما شغلني في وقت مبكر، وأثار حيرتي من دون إجابة عن وجود آية مكية في سور مدينة، والعكس صحيح أيضاً. ولكن إثبات الظرف التاريخي يساعد على فهم مقاصد القرآن.
إذا كان الكفر بعد الإسلام يوجب القتل، فكيف ينجو منه المرتدون ثلاث مرات حسب ما جاء في القرآن، ثم يزدادون كفراً؟ هذا الفقه يحقن دماء سال الكثير منها بفتاوى رعناء أجازت لآحاد المسلمين قتل من يُظن أنهم مرتدون
في الآونة الأخيرة، وجدت في مكتبة دارنا في القرية نسخة من "مصحف الشروق المفسّر الميَسّر"، مفسّر المعنى ميَسّر القراءة، استعانة بمختصر تفسير الإمام الطبري. وقد اشتريته عام 1981 من مكتبة لبيع الكتب الجديدة والقديمة بمدينة المحلة الكبرى. كان كتاب الله أول كتاب في بنيان سوف يصير، بالتدريج ومن غير قصد، مكتبة صغيرة، أفتش فيها كلما عدت إلى البلد، وأعثر على شيء يدلني على ملامح الصبي الذي نشأ في دار تخلو من كتاب. في تلك الفترة كان هذا المصحف مشهوراً بيننا، نحن الفتيان رفاق الدراسة، ونسميه "مصحف الشروق"، ولا نعرف أن كلمة "مصحف" مضافة إلى دار نشر في القاهرة تتبنى "مشروع المليون مصحف".
في التقديم قال الناشر محمد المعلم رحمه الله إن الاختيار وقع على الطبري، "إمام المفسرين وشيخهم"، بتوجيه من المحقق الكبير محمود شاكر، وأشرف الأديب المحقق الأردني الدكتور ناصر الدين الأسد على "المراجعة والتدقيق العلميين"، وشارك في تنسيق صفحات المصحف وإخراجه ثلاثة من الفنانين التشكيليين هم عبد السلام الشريف وحلمي التوني ومصطفى حسين. وأما الغاية من هذا المصحف فهي أن ينتفع "الناس من الخواص والمتوسطين" بهذا المختصر الذي يقتصر على تفسير الألفاظ غير الجارية على الألسنة، "حتى يكون سهل التداول، ميسور المنفعة، قريب المأخذ، ينتقع به العامة والخاصة."
أين "مصحف الشروق" الآن؟ ولماذا لا يعاد طبعه؟
لنستشهد بأمثلة دالة على مفهوم التيسير على القارئ، ومنحه مزيداً من فقه القرآن؛ فقد عنيتْ المرحلة المكية من الدعوة بالإلحاح على النصح والترغيب، وإعلاء قيمة العقل والاستدلال والتفكّر في آيات الله في الكون، "وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟" (الآية 21، سورة الذاريات، مكية). أما عدم الإشارة إلى الآيات المدنية في السور المكية فقد يؤدي إلى التباس الفهم؛ فسورة "النحل" آياتها 128، وهي مكية "إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية"، كما تذكر المصاحف القديمة.
"وقَد نزّل عليكُم في الكتابِ أن إذا سمعتُم آياتِ الله يُكفر بها، ويُستهزأ بها، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثِ غيرِه". إنها دعوة قرآنية إلى الاجتناب الهادئ، ولا تتضمن إشارة إلى رفع لسيف، أو إراقة لدماء
وتبدأ سورة "النحل" بوعيد صريح للمشركين: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه، سبحانه وتعالى عما يشركون"، وتتحداهم بإعجاز الله في خلق السماوات والأرض والإنسان والأنعام والشمس والقمر والنجوم والجبال، ثم تنتهي آياتها المكية بالدعوة إلى سبيل الله "بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن"، اتساقاً مع ظرف تاريخي لم يكن ملائماً لتشريعات اتسعت لها السور المدنية المواكبة لتأسيس الدولة. وهنا تكون أهمية الإشارة إلى مدنية الآيات الثلاث الأخيرة من سورة "النحل" المكية، لأن هذه الآيات تخاطب سلطة تملك القدرة على العقاب أو الصفح، "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين". ولم يكن خيار العقاب متاحاً في مكة، قبل الهجرة.
إيضاح المدني من المكي يكشف مقاصد القرآن، ويجنّب العالم شروراً تُرتكب بحسن نية، انطلاقاً من حماسة مَن يتصورون أنفسهم أكثر غيرة على الله الذي لو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لخسف الأرض بالمشرك والعاصي. وإتاحة ذلك، استشهاداً بمصحف الشروق، يجعل المسلم أشدّ ثقة بقدرة الله، وأكثر اطمئناناً على دينه، فإذا قرأ سورة "النساء" وتدبّر الآية 137 "إن الذين آمنوا ثمّ كفروا، ثمّ آمنوا ثمّ كفروا، ثم ازدادوا كفراً، لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً"، سيتأكد له إبطال وهم تاريخي اسمه "حدّ الردة"؛ فإذا كان الكفر بعد الإسلام يوجب القتل، فكيف ينجو منه المرتدون ثلاث مرات، ثم يزدادون كفراً؟ هذا الفقه يحقن دماء سال الكثير منها بفتاوى رعناء أجازت لآحاد المسلمين قتل من يُظن أنهم مرتدون.
أختم بالآية 140 من سورة النساء، فهي شديدة الدلالة على المنحى السِّلمي، وتنزع فورة الحماقات الدامية، "وقَد نزّل عليكُم في الكتابِ أن إذا سمعتُم آياتِ الله يُكفر بها، ويُستهزأ بها، فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديثِ غيرِه". هكذا فقط ينصح بألا تقعدوا معهم. وفي موجز تفسير الطبري أن "هذا نهي عن مجالسة أهل الباطل والبدع عند خوضهم في باطلهم". إنها دعوة قرآنية إلى الاجتناب الهادئ، ولا تتضمن إشارة إلى رفع لسيف، أو إراقة لدماء، والله أعلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...