حين دعتني زميلة صحافية قبل أيام للمشاركة في فيلم وثائقي بإحدى القنوات المصرية، طلبت مني ارتداء ملابس "فورمال" (رسمية) أي "بدلة وكرافتة"، ولأني لست من هواة "ربطة العنق" ناقشتها في ذلك، خاصة أنني في المجمل أرتدي ما يليق بالمناسبة فلا داعي للقلق، لكنها كشفت لي أن تلك سياسة القناة التي تفرض على الضيوف هذا الزي، ناهيك بمن خالف تلك القاعدة فجاؤوا له بـ"بدلة" وهو في الأستوديو، ومبررهم أن ذلك يعطي "هيبة" أكثر للضيف ويظهره في عيون المشاهدين " مثقفاً ومهماً" أكثر.
ما قالته زميلتي ذكرني بالمرة الوحيدة التي حضرت فيها حفلة للموسيقار عمر خيرت بدار الأوبرا المصرية، وقتها فوجئت بتذكرة الحفلة معنوّنة بـ"الدخول بالملابس الرسمية"، وهو أمر مستمر حتى الآن، وحين سألت أحد المنظمين لماذا هذا الشرط، أجابني "أنت داخل تسمع عمر خيرت مش أي حد"، في دلالة أن في ارتداء البدلة نوعاً من الاحترام للموسيقار الكبير.
الأمر ليس مختصراً على واقعتين فقط، ففي مهنتي أيضاً هناك مثل تلك الأفكار. في إحدى الجلسات أخبرني صحافي كبير أنه حتى منتصف التسعينيات كان من يرتدي "كوتشي" من الصحافيين يُنظر إليه باستهجان لأن هذا لا يليق به.
ورغم أن قبولي دفع ثمن تذكرة عمرو خيرت "المرتفعة" دليل كافٍ على أني أحترمه، وارتدائي ملابس عادية أو "فورمال" لن يزيد من طرحي في الفيلم الوثائقي الذي دعيت إليه، بقي السؤال: هل تجعلني ملابس الفورمال أكثر احتراماً وثقافة في نظر البعض؟ ولماذا يمكن تقييمنا من خلال قطعة قماش؟
لماذا يمكن تقييمنا من خلال قطعة قماش؟ برأيي أن السبب يكمن في حاجتنا بتصنيف من نتعامل معهم اعتقاداً منا أن ذلك يسهّل عملية فهمنا لهم ومن ثم الحكم عليهم، والتصنيفات كثيرة ومتعددة
برأيي أن السبب الأول في ذلك هو حاجتنا بتصنيف من نتعامل معهم اعتقاداً منا أن ذلك يسهّل عملية فهمنا لهم ومن ثم الحكم عليهم، والتصنيفات كثيرة ومتعددة، منها الديني، والأيدلوجية السياسية ويشمل أيضاً دولاً "عدوة" أو" صديقة".
وطريقة التصنيف تلك تتم على طريقة إما معي أو ضدي وتختلف حسب موقع كل فرد فينا، فإذا كنت مسلماً يعني أن اليهودي عدوك، وإذا كنت ماركسياً يعني الليبرالي عدوك وهكذا، وكارثة هذا النوع من التفكير إنه لا يؤدي في النهاية إلى أخذ مواقف من الآخرين دون التفكير في ما يقولونه حتى لو كان صحيحاً وحسب، بل يشل حركتنا عن التفكير أصلاً ونظل نظن أننا الأصح، ولذلك هذا النوع مفضل في ثقافتنا العربية التي تميل للإقصاء، لأنه يحمل عنا عبء مراجعة الأنفس في حالة الخطأ، ويعفينا من الاستماع للآخر واكتشاف مساحات الاتفاق بيننا بدلاً من التركيز على الاختلافات.
ما أقوله ليس تفكير أفراد وحسب، فإن أحد السياسيين الذي خضع لتحقيقات أمن الدولة في عصر مبارك، وحين حاورته منذ سنوات أخبرني أنه تحدث مرة أمام أحد الضباط الذي أفسح له الوقت لإبداء رأيه، ولأن هذا السياسي صاحب آراء مركبة لا تخضع لنظرية "الأبيض والأسود" التي يهواها ضباط التحقيق، كانت نهاية حديثه أن سأله الضابط : "أيوه يعني أنت إخواني ولا شيوعي دلوقتي؟"، وكان هدف السؤال أن يعرف الضابط مع أي فئة سيوضع ملف هذا "السياسي"، فالتصنيف هو المطلوب.
تقييم الفرد من خلال الملابس هو أيضاً نوع من التصنيف لا ينفصل عما سبق، وإن تفوق عليهم بأنه الأكثر سطحية، فلم نعد نحتاج أن يتكلم الشخص حتى نصنفه، بل يكفي النظر إلى ما يرتدي لنحكم عليه.
ولكل زي دلالاته عند العقل الجمعي للمصريين، وهي دلالات ساهمت في ترسيخها جميع الروافد الثقافية، ففي الوقت الذي ظهر فيه كل صاحب منصب أو علم أو مال بـ"ببدلة وكرافته" في عشرات الأفلام السينمائية مثلاً، ارتبط من يرتدي "الجلابية" بالبساطة و"الجهل" أحياناً، ويمكن إسقاط تلك النظرة على باقي التصنيفات كالمحجبة وغير المحجبة والملتحي وصاحب الشعر الطويل، وهو ما ترسّخ في العقول وباتت طريقة التعامل تتم على أساسه حتى الآن.
لكل زي دلالاته عند العقل الجمعي للمصريين، وقد ساهمت في ترسيخها جميع الروافد الثقافية، ففي الوقت الذي ظهر فيه كل صاحب منصب أو علم أو مال بـ"ببدلة وكرافته" في عشرات الأفلام السينمائية مثلاً، ارتبط من يرتدي "الجلابية" بالبساطة و"الجهل" أحياناً
شخصياً، كان يمكن أن أقع تحت تأثير هذا التقييم لولا واقعتان، أولاهما رؤيتي للمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل قبل سنوات وهي تجري حواراً مع شاب جلس قبالتها بـ"تي شيرت" و"بنطلون جينز" من دون أن ينتقص ذلك من هيبته.
والواقعة الثانية حين شاركت لأول مرة في فيلم وثائقي لإحدى القنوات غير المصرية، وقتها لم يُطلب مني سوى الحضور بملابس مناسبة فقط، ولهذا بات لدي اقتناع أن أي نوع معين من الملابس لن يزيدك ثقافة أو احتراماً ما دام هذا لا يتوفر عندك من الأساس، وأن تقييم الناس وفق ملابسهم هو نوع من التخلف الذي تجاوزه العالم كله.
لذلك حين سألني المحاور في بداية تسجيل الفيلم الوثائقي قبل أيام، والذي كان للمفارقة يتحدث عن أسباب التخلف والتقدم: "برأيك ما هي أول أسباب تأخرنا؟"، وددت أن أجيبه: " هو الإصرار على لبس الفورمال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...