شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أكلات مستحيل نذوقها مرة ثانية"... مهاجرون ومغتربون يبحثون عن "طعم البيت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 15 نوفمبر 202004:39 م

في اليوم الأول لدى وصولي إلى مدينة دورهام، شمالي إنجلترا، أعدت لي سيدة بريطانية لطيفة ومضيافة، طبقاً من حساء العدس، اجتهدت في إعداده على الطريقة الفلسطينية، بالجزر والطماطم، لتشعرني أني "في البيت".

الحقيقة، حينها لم أفكر سوى في قرقرة معدتي بعد يومي سفر، أما البيت أو الوطن سأفكر فيه تالياً، حين أغمس شرائح الخبز الإنجليزي (الإفرنجي كما نسميه في بلادنا) بالزعتر الذي دسّته أمي في حقيبة سفري يوم وداعي. سأتيقن حينها أني لم أعد في الوطن، وأن التغيير في الوجبات ومحتويات البراد أمر حتمي، شئت ذلك أم أبيت.

ما قرأته عن العلاقة بين الأكل والإنسان أنها ليست بيولوجية فحسب، فهي علاقة نفسية، اجتماعية وثقافية على حد سواء، فهي مرتبطة عميقاً بالسؤال: "من نحن؟"، إذ يربط العديد من الناس الطعام بثقافتهم، حيث مشاعر الطفولة الدافئة والذكريات الجميلة، بحسب الباحثة في جامعة Tampa الأمريكية، جينا ألميركو.

"الطعام يعبر عنا: من نحن، وما سنصبح عليه؟".

كتبت ألميركو في دراسة بعنوان "الغذاء والهوية"، نُشرت عام 2014، أنّ "الطعام يعبر عنا: من نحن، وما سنصبح عليه؟ فهو يربطنا بأسرنا ويحمل قيمة خاصة لشخص ما".

غالباً ما تصبح الأطعمة المنحدرة من ثقافتنا أو من عائلتنا هي ما نسعى إليه كبالغين في أوقات الإحباط والإجهاد، بحسب الباحثة.

أتذكر بيت الشعر الشهير للشاعر الفلسطيني محمود درويش، حين اختصر حنينه وشوقه في أوقات الضيق، بخبز أمه وقهوتها، حين قال: "أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي".

يحرص المهاجرون والمرتحلون عن أوطانهم إلى نقل الأطباق التقليدية من بلد إلى آخر، فهي بمثابة طوق أمان يُحصّنهم ضد الشعور بالاغتراب.

تحدي البهارات و"الطعم المطلوب"

الصباحات الماطرة تعني "طبق شعيرية بالسكّر والمكسرات"، هذه قاعدة غذائية في فلسطين.

تنفض نهلة جلهوم، ربة المنزل التي انتقلت مع عائلتها من قطاع غزة للاستقرار في تركيا، عن عينها النعاس، وتهرع الى الحلة/الطنجرة لإعداد الشعيرية الساخنة، علّها تستعيد لحظات الشتاء في فلسطين ولمّة العائلة.

"في أكلات خلاص مستحيل نأكلها مرة ثانية بعد مغادرة الوطن، مثل الملوخية، الدقة الغزاوية، المفتول والسماقية"

تقول نهلة لرصيف22: "الأكل رابط مهم بالوطن، وكتير بنحس أنه مفتقدين أكل الأهل"، ولكن إعداد الطبق التقليدي قد يصبح أمراً صعباً، فقد ينصب مجهودك في أحد الأيام في البحث عن بهارات مناسبة لإعداد وجبة ما.

تقول نهلة: "أحاول جمع البهارات كل على حدة، وأصنع منها الطعم المطلوب، لكن دعيني أخبرك الحقيقة، وهي أنني لم أنجح في ذلك تماماً، نكهة البهارات تجعل الطعم مختلفاً عن الطبق الأصلي".

"ليس هذا فحسب"، تضيف نهلة: "في أكلات خلاص مستحيل نأكلها مرة ثانية بعد مغادرة الوطن، مثل الملوخية، الدقة الغزاوية، المفتول والسماقية".

"الطبخ راحة المغترب"

دفعت الحرب المستعرة في اليمن منذ أعوام الطالبة مرام زياد (20 عاماً) لترك البلاد والالتحاق بإحدى الجامعات في ماليزيا، حيث ستختبر في سن مبكرة اختلاف الثقافات المتعلقة بالمطبخ.

تقول مرام، التي تملك ذائقة في الطعام صعبة الإرضاء كما تصف نفسها، لرصيف22: "أول ما وصلت ماليزيا لقيت جداً صعوبة في تقبل الأكل الماليزي، حتى اليوم لم أتقبله بتاتاً، مع أن الكثيرين من العرب المقيمين هنا يتقبلونه على نحو جيد".

وتوضح مرام: "يعتمد الماليزيون على البهارات الحارة والعشبية بشكل كبير، وبعض الأطباق المضافة لأكلاتهم أغلبها نباتات غير متوفرة في بلادنا، كما أن لهم طرقاً خاصة في الطهي".

اضطرت مرام إلى إعداد الأطباق بنفسها، حتى أنها طورت مع الوقت شغفاً في الطبخ. تعد العصيدة وخبز الطاوة، وتستمتع في طهو الزربيان الذي يحملها مذاقه إلى اليمن، وتقول: "عندنا الزربيان العدني، والهريسة تكون دايماً في المناسبات، وخاصة الأعراس، منها غسل العروسة في اليمن قبل يوم الزفاف، دايماً دي الأكلة تجعلني أحن إلى اليمن والمناسبات السعيدة وتجمعات الأهل".

تجد مرام في الطهي راحتها النفسية وملاذها من شعور الحنين الجارف، قائلة: "الطبخ بشوفه راحة وطاقة إيجابية للمغترب، ممكن أراضي نفسي وأجبر حنيني لوطني بوجبه يمنية تذكرني بتفاصيل أيامي السابقة بين أهلي".

"لا تسرف في الزيت البلدي"

كغيره من المهاجرين إلى بلد جديد، يحاول البلد المضيف استرضاء ذوق المهاجر، لكن غالباً ما يفشل حمزة في نول هذا الرضا.

"‏هلأ أنا من أول ما قدمت إلى الصين أعطيت الأكل الصيني فرصة"، يقول حمزة فارس، من فلسطين، الذي يتابع دراساته العليا في الصين.

ويتابع: "‏الذائقة الصينية معقدة ومش طبيعية، في عندهم أكلات زاكية، لكن البهارات المفضلة هنا مختلفة تماماً، ولديهم اعتماد كبير على الزنجبيل، الكرفس، الفلفل الأسود والصويا".

التأقلم مع هذا الاختلاف كان صعباً على حمزة، فارتدى مريلة المطبخ هو الآخر، وشمّر عن ساعديه ليعد أطباق بلاده التقليدية بنفسه، وفقاً لتعليمات والدته.‏

ارتدى حمزة مريلة المطبخ، وأعد أطباق بلاده وفقاً لتعليمات والدته.

"أطبخ أكلات كتير مشابهة للطبق التقليدي، مثل الشاورما، الكبسة، المقلوبة وأطباقاً أخرى تعلمتها من الإنترنت"، يقول حمزة، ولكنه يستثني المسخن الشهي، الذي يعشق الزيت الفلسطيني والذي حمله معه من الوطن آلاف الأميال.

يستعيد حمزة في كل مرة يعد المقلوبة، وجه أمه، وسؤال يوم الجمعة المتكررة، ‏يقول لرصيف22: "تسألنا شو بدكم تتغدوا، أقولها بحب أكل المقلوبة منك، أخوتي يعترضون، تعمل لهم اللي بدهم إياه،‏ وخلال الأسبوع تعمل مقلوبة علشان خاطري".

"طعام مزيّف"

الكثير من المهاجرين يلجؤون، خاصة في الأسابيع الأولى من انتقالهم إلى الخارج، إلى المطاعم التي تعد وجبات بلادهم التقليدية، كالمطاعم المصرية واللبنانية والسورية وغيرها، وهي آخذة في الانتشار حول العالم بالتزامن مع موجات المهاجرين في العقود الأخيرة.

تحاول هذه المطاعم، ربما نظرياً، تعويض المغترب عن افتقاد الطعام البلدي التقليدي وجبر حنينه، لكنها غالباً ما تفشل في خلق "الروح والطعم" الحقيقيين لهذه الأطباق، وفق ما يقول محمد خضر، (33 عاماً) مصري، مبرمج وصاحب شركة مختصة في الترويج للمطاعم والمحلات على السوشال ميديا في قطر.

يرى خضر أن شوق المغتربين والمهاجرين إلى أكلات بلادهم، وتفضيلهم لها، يعكس "حنيناً مبالغاً فيه، ومحاباة تفتقر إلى التوازن، والتقييم الذوقي المحايد للطعام"

يقول خضر أن الكثير من المصريين المقيمين في قطر يشكون من افتقادهم إلى الطعم الأصلي، أو "البيتي"، كما يحب المصريون أن يطلقوا على أكلاتهم المفضلة، فالمحشي، الفول، الطعمية والملوخية طعمها "مزيف" في المطاعم المصرية بقطر.

دفعت هذه الشكاوى بعض الزوجات وربات البيوت المصريات في الدوحة إلى العمل على مشاريع صغيرة لإعداد "الأكل البيتي" من مطابخ بيوتهن، وتسويقها عبر صفحات التواصل الاجتماعي، يقول خضر: "أكل تلك السيدات كان الأقرب للطعام المصري الحقيقي".

على العكس من البقية، يرى خضر أن شوق المغتربين والمهاجرين إلى أكلات بلادهم، وتفضيلهم لها، يعكس "حنيناً مبالغاً فيه، ومحاباة للطعام التقليدي تفتقر إلى التوازن، والتقييم الذوقي المحايد للطعام".

يرى خضر أن كثيراً من الأكلات المصرية مثلاً تفتقر إلى "جودة أعلى" في نوع اللحوم مثلاً، وبعض أنواع الفاكهة النادرة، اللذيذة جداً والصحية جداً، ولم تدخل ذائقة المصريين أو غيرهم من الدول العربية، فهذا كله "يضيف تنوعاً للذائقة تفتقرها بلداننا، بدلاً من التمسك بما اعتدنا عليه".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image