قبل عام 1993، كان سعد النجار (56 عاماً) لا يقترب من منطقة السرايا التي تقع وسط شارع عمر المختار، أهم شوارع مدينة غزة، لأنه كان يعتبرها مثل الكثيرين مكاناً مرعباً، بسبب احتوائها على سجن غزّة المركزي الذي عذّب فيه الإسرائيليون الكثيرين من رفاقه المنتمين أو المتهمين بالانتماء إلى كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح.
اختلف الأمر كلياً اليوم. صار هذا المكان المفضّل لديه وحتى لدى رفاقه الذين عُذّبوا فيه ووُضعت على أجسادهم الأسياخ الحديدية التي تلتهب بحرارة النيران، بعد أن تحوّل إلى حديقة كبيرة.
في هذا المكان يجدون الآن متنفساً لهم في الهواء الطلق، ويتناولون المشروبات الساخنة أو الباردة، رغم أن بعضهم لا تزال أجسادهم تحمل علامات التعذيب من نفس المكان.
يقول النجار لرصيف22: "أول مرّة جلست في أرض السرايا قبل عامين، كنت برفقة ابني حسام (18 عاماً). شرحت له: هنا كانت الزنازين وهنا غرف التحقيق، وهنا ساحة يجتمع فيها المساجين وفوق كانت توجد أسلاك شائكة"، ويضيف: "كانت في فترة الثمانينيات منطقة تثير رعب الغزيين، حتى أنه في بعض المرات كان البعض يسمع أصوات التعذيب من المنطقة الخلفية".
خمس حكومات وسجن واحد
لم يقم على هذه المساحة من الأرض سجن إسرائيلي فقط. ففيها أنشئ أول مقر للقيادة العسكرية البريطانية، عندما كانت سلطة انتداب على فلسطين في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وخصص البريطانيون جزءاً من المبنى ليكون سجناً مركزياً للثوار الفلسطينيين، وسُجن فيه وعُذّب الكثيرون، كما يشير المؤرخ الفلسطيني أحمد رضوان.
في تلك الفترة، سُجن شقيق رضوان، إبراهيم، عام 1938، عندما كان شاباً يبلغ 20 عاماً من العمر، بسبب مشاركته في تنظيم تظاهرات داعمة للثورة الفلسطينية التي كان يقودها عبد القادر الحسيني. عُذّب شقيقه في السجن ثم نُفي إلى مصر، قبل أن يعود إلى غزّة عن طريق التهريب، ويتوجّه للمشاركة مع الجيش العربي لتحرير فلسطين في معارك عام النكبة التي قُتل خلالها.
يشير رضوان إلى أن اختيار موقع الأرض جاء لأهمية المنطقة والشارع الذي كان يربط مدينة غزة القديمة بميناء غزة القديم (ميوماس الروماني التاريخي). وبعد نكبة عام 1948 بقي المبنى عسكرياً وسُيّج بالأسلاك الشائكة، وعقب وضع قطاع غزة تحت الوصاية الإدارة المصرية، استُخدم كمقر ومجمع للدوائر الحكومية التي تدير شؤون قطاع غزة، وخُصص جزء منه كسجن للقاطنين في القطاع.
من داخل السجن عام 2008 قبل أشهر من قصف المكان (تصوير محمد الحجار)
استمر هذا الحال حتى احتلال إسرائيل لمدينة غزة عام 1967، في حرب النكسة، واتخاذ سلطات الاحتلال له كمقرّ وبنائها في المكان زنازين إضافية. أخذ المكان اسم "سجن غزة المركزي"، وصار هذا الاسم مرعباً لسكان القطاع، وصارت المنطقة مخيفة، كما يشير رضوان الذي عاصر جيداً تلك الفترة، وكان يعمل مدرساً لمادة الجغرافيا في مدارس غزة.
يقول رضوان: "كان يُعذَّب الفلسطينيون فيه بطريقة عديمة الإنسانية على يد الإسرائيليين. بقي المكان سجناً بيد الإسرائيليين 36 عاماً، سُجن فيه مناضلون فلسطينيون ومناضلات، وكانت تُنتزع فيه الاعترافات بالقوة، وكانت عليه حراسات شديدة تخوفاً من هجمات داخلية من المقاومين كما جرى مرّات كثيرة".
"هنا كانت الزنازين وهنا غرف التحقيق، وهنا ساحة يجتمع فيها المساجين وفوق كانت توجد أسلاك شائكة. كان المكان في الثمانينيات يثير رعب الغزيين"، لكنّه تحوّل اليوم إلى متنزّه يقصده أبناء غزة للهرب من الأحياء المكتظة بالمباني
بعد قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994، أقامت في المكان مقرّاً عسكرياً "لجهاز الأمن الوطني" وسجناً أيضاً، ثم جاءت حركة حماس بعد أحداث الانقسام الفلسطيني وسيطرت عليه وأبقته كسجن.
لكن في الحرب الإسرائيلية على غزة (2008-2009)، دمّر الجيش الإسرائيلي قرابة 70% من المكان، وفي الحرب الاخيرة عام 2012 قصف مبنى صغيراً كان يُستخدم لأغراض عسكرية وأصبح المكان مدمراً بالكامل.
المكان في كانون الثاني/ يناير 2009، بعد تدمير إسرائيل له (تصوير محمد الحجار)
مساجين سابقون في الحديقة
أيمن الخواجة (78 عاماً) أسير فلسطيني سابق، سُجن عاماً كاملاً في سجن غزة المركزي، السرايا حالياً، لاشتراكه في أعمال المقاومة مع الحزب الشيوعي الفلسطيني، ثم نُقل عام 1971 إلى سجن عسقلان، في الداخل، حيث قضى ست سنوات أخرى.
يقول الخواجة: "كنّا نُعذَّب كثيراً، ينتزعون الاعترافات منّا بقساوة، والتحقيق داخل السجن كان يتمّ بكافة أنواع الابتزاز والتهديد بالأسرة، وكان يُسجن فيه أصحاب المحكوميات الصغيرة، ما بين عام إلى عامين، أما المحكوميات الكبيرة فيُنقل المحكوم إلى السجون الإسرائيلية خارج قطاع غزة".
أدهم ناصر (60 عاماً) سُجن في المكان في فترة حكم السلطة الفلسطينية للاشتباه بمشاركته في أحداث مسجد فلسطين عام 1994 والتي وقعت فيها اشتباكات بين المصلين وأجهزة السلطة الفلسطينية. عُذّب في السجن الذي كان حديث التأسيس لانتزاع اعترافات منه قبل أن تتبيّن براءته.
"الناس يجلسون في هذا المكان اليوم، يهربون من منازلهم الضيّقة في المخيمات وغيرها ويجلسون فيه لتناول مشروبات أو بعض الطعام والتمتع بالهواء، وأنا أجلس لأسمعهم يروون قصصاً مختلفة عن معاناة المساجين سابقاً فيه"
وشاء القدر أن يُسجن فيه أيضاً شقيقه أحمد ناصر (41 حالياً) الذي يعمل في أحد الأجهزة التابعة للسلطة الفلسطينية، ولكن هذه المرة في عهد حكم حركة حماس، عام 2008، إثر قضية سياسية نتيجة الخلافات بين السلطة وحركة حماس في غزة، وأُفرج عنه بعد شهرين من التحقيق والتعذيب.
اليوم، يجلس الشقيقان معاً في المكان للترويح عن نفسيهما. يقول أدهم لرصيف22: "جميع سكان غزة لديهم ذكريات سيئة مع هذه الأرض، كانت أرض النزاعات والخلافات السياسية كلها، كان من المفترض على السلطة الفلسطينية أن تمحو ذكريات سيئة وتمسح المكان وتحوّله إلى متنزّه أو ملعب، لكن القصف الإسرائيلي حوّله إلى رماد ثم أصبح مزاراً لكل الناس الذين قضوا فيه ذكريات سيئة وللأسر الغزية".
أرض السرايا حالياً (تصوير محمد الحجار)
قبلة البائعين والناس
بعد تدمير المقرات العسكرية القائمة على أرض السرايا، أجريت دراسة لإقامة سوق تجاري ضخم في الموقع، لكن مساحتها كبيرة ولم تستطع الحكومة الفلسطينية البدء في مشوار إعمار مساحة 45 دونماً، ولم يوجد مستثمرون مهتمون بالأمر، كما يشير وكيل وزارة الأشغال العامة والإسكان في غزة ناجي سرحان.
تحوّل المكان الفارغ إلى متنزّه، في أطرافه بضعة شجيرات فقط وعلى أرضه بقايا محاولة زراعة الأرض بعشب طبيعي. ولكنه فسحة جيّدة لأبناء غزة للهروب من زحمة الأحياء المكتظة بالأبنية.
ساهم المكان في جذب عشرات البائعين المتجولين على عربات وآخرين، وأصبح مصدراً لرزقهم، في ظل وقوعه في موقع مهم وإقبال الناس عليه. وفي الكثير من المناسبات، تقوم بعض الأحزاب السياسية والهيئات الحكومية بتنظيم مهرجانات لإحياء مناسبات وطنية فلسطينية فيه، أو أخرى دينية مثل صلوات الأعياد وغيرها.
أرض السرايا حالياً (تصوير محمد الحجار)
يعتبر أحمد جودة (37 عاماً) المناسبات الوطنية فرصة جيدة لكسب الرزق وبيع المشروبات الساخنة والباردة.
في الوقت الحالي، ونظراً لظروف انتشار فيروس كورونا، لم تعد التجمعات والتظاهرات تقام في المكان. يعبّر أحمد عن صدمته عندما يسمع من زبائنه قصصاً عن هذه الأرض وكيف كانت مرعبة بالنسبة لهم.
يقول: "مَن شاهد القصف الإسرائيلي خلال الحربين الأولى والثانية على غزة لا يصدّق أن هذا المكان تحوّل إلى مكان جميل اليوم، الناس يجلسون فيه، يهربون من منازلهم الضيّقة في المخيمات وغيرها ويجلسون فيه لتناول مشروبات أو بعض الطعام والتمتع بالهواء، وأنا أجلس لأسمعهم يروون قصصاً مختلفة عن المعاناة سابقاً فيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع