يلتقط الساحر دمية ذات هيئة بشرية ويتناول دبوساً، ثم يبدأ، ببطء شديد، بغرس رأس الدبوس في أطراف الدمية بتأنٍ وصبر حتى يملّ، ثم يلقي دميته في النار.
في اللحظة نفسها، وفي مكان آخر، يقع رجل أرضاً مطلقاً صرخات مريعة، متحسساً أطرافه وبدنه، ثم يموت، وعلى وجهه علامات العذاب.
هذه هي الصورة النمطية التي تتبادر إلى أذهان غالبية من يُذكَر أمامهم "سحر الدُمية". وهو السحر المرتبط لدى الكثيرين باتباع عقيدة الفودو Voodoo، في غرب أفريقيا، وهايتي وجاماكيا، ومحيطهما، في أمريكا الوسطى.
فكرة سحر الدُمية
بحسب هذا السحر، فإن الراغب في إيذاء شخص ما يقوم بتصميم شكل رمزي له، سواء كان دمية من القماش، أو القش، أو الصلصال، أو الورق. ثم يؤدي بعض الطقوس المرتبطة بالجن أو الأرواح والكائنات الخفية غالباً، وبهذا، تصبح الدمية "فتيش" Fetish، وهي كلمة تعني "البديل"، بمعنى أنها تصبح مرتبطة بالمُستَهدَف من العملية فيصيبه ما يصيبها.
يبدأ المؤدي للطقوس في تعذيب الدمية بدبوس يغرسه في جسدها، تحديداً الرأس والصدر، وهو يتمتم باسم المراد إصابته بالألم. وربما أمكنه قتله بعد أن يكون قد نالـ"متعته" من تعذيبه.
وهو يُمارس هذا أيضاً بغرض "نقل المرض". فعند قوم "الباجندا" في أوغندا، كان الساحر يصنع دمية صلصالية للمريض، ثم يفركها أحد أقاربه في جسده ويدفنها على الطريق، معتقداً أن أول من يمر بها سينتقل إليه المرض، وكان الإعدام عقوبة من يمارس هذا النوع من السحر.
تختلف طريقة صناعة "الفتيش" من مجتمع لآخر، فبينما يعتقد البعض بأنه تكفي صناعة مثال رمزي للشخص، يؤمن البعض الآخر بضرورة احتواء "الفتيش" على "أثر" من هذا الشخص، خصلة شعر، أو قلامة أظافر، أو بعض ملابسه...
هذا النوع الرمزي يصنفه جيمس فريزر في كتابه "الغصن الذهبي"، أهم مراجع الطقوس الدينية والسحرية عند الشعوب القديمة، بأنه "سحر المحاكاة" أو سحر التعاطف Sympathetic Magic، أي السحر القائم على مجرد محاكاة الواقع.
أما النوع الآخر المرتبط بـ"الأثر"، فيصنفه بـ"سحر العدوى"، أو "السحر التشاكلي" Contagios Magic، وهو السحر الذي يفترض بقاء علاقة ما بين الإنسان وما ينفصل عن جسده من شعر أو أظافر أو الحبل السري للمولود. ولذا يحرص كثير من أهل المناطق التي تعرف هذا السحر، على أن يتخلصوا من تلك الفضلات بدفنها أو إلقائها في المجاري المائية، كي لا تقع في أيدي أعدائهم.
الأصل المصري القديم
يرجع المتتبعون لأصول سحر أتباع الفودو انتقاله من غرب أفريقيا إلى هايتي وجامايكا، للأفارقة، الذين حملهم المستعمرون وتجار الرقيق قسراً إلى العالم الجديد، ليباعوا هناك كعبيد.
لكن من خلال البحث في التاريخ، يمكننا أن نستنتج أنه نشأ في مصر أصلاً، ثم انتقل عبر وادي النيل إلى بقية القارة.
ففي الأساطير التي ذكرها المؤرخون المسلمون عن مصر القديمة، توجد قصة عن أن عرش مصر تولته بعد غرق فرعون وجيشه إمرأة عجوز اسمها "دلوكا"، وكانت عالمة بالسحرة.
أمرت ساحرة بصنع طلسم يحمي مصر من الغزاة، وأقامت معبداً أو "بربا"، حسب الوصف العربي، يواجه كل جدار فيه إحدى الجهات الأربع الرئيسية، ورسمت على الجدران صوراً لمقاتلين على الخيل أو المراكب أو مشاة... فإذا جاء الغزاة تحركت الصور على جدار الجهة التي أتوا منها، وتقوم الساحرة بإيذاء صورهم ليقع لهم الأذى نفسه.
ترجع أصول سحر أتباع الفودو Voodoo، سحر الدمية، إلى المصريين...
تعذيب دمية للانتقام وممارسة السحر، عادة يبدو أنها انتقلت من مصر
يذكر الأستاذ الدكتور محمد الجوهري، أستاذ علم الاجتماع والعالِم المختص بالفولكلور والتراث الشعبي، في كتابه "موسوعة التراث الشعبي العربي"، أن المصريين القدماء عرفوا سحر الدمية، فكان الساحر يتحايل للحصول على "أثر" من خصمه، ثم يصنع تمثالاً من الشمع يشبهه، ويلبس التمثال كما يلبس الخصم، ثم يبدأ في تسليط النار عليه ليصاب المستهدف بالحُمّى، أو يطعن "الفتيش" بالسكين، ويتألم المتضرر في صدره.
الممارسة في العصر الحديث
يُعرَف سحر الدمية في مصر باسم "عروسة الحسد"، وهو غير مصنف كسحر عند الأوساط الشعبية الممارِسة له، بل "وقاية من عين الحسود".
وما يجري، كما رأى كاتب هذه السطور بنفسه، هو القيام بإحراق البخور في مبخرة أو موقد، ثم تُقًص ورقة على شكل بشري وتُرفَع فوق دخان البخور ويتم ثقبها بدبوس بشكل متكرر، تحديداً في مواضع العينين.
ويقال: "حَميتَك من عين فلان ومن عين فلان ومن عين فلان"، مع ذكر أسماء المشكوك في قيامهم بحسد المرغوب في وقايته. وأخيراً تُلقَى "العروسة" في الموقد مع بعض مواد العطارة مثل "الشبة" و"عين العفريت" و"الفاسوخ".
وأحياناً يمعن القائم بتلك الطقوس في النظر للعروسة وهي تحترق لعله يلحظ بين رمادها أي شبه ببعض من يشك في أنهم أصحاب "العين" الحسودة. بينما يقوم البعض بجعل "المحسود" يخطو فوق المجمر ذهاباً وإياباً سبع مرات، ثم تمسح جبهته برماد العروسة.
ويبدو أنه يوجد تنوع مكاني وزماني في هذه الممارسة. ففي كتابها "الناس في صعيد مصر" The Fellahin of Upper Egypt، تذكر وينيفرد بلاكمان، الطبيبة الإنجليزية التي زارت الصعيد في أول عشرينيات القرن العشرين، نوعاً من سحر العروسة الورقية، لجلب الإنسان عن طريق الجن الذي يُكلَف بحمله ولو من بعد أميال. وتروي تجربة قصها عليها صديق لها تثق به لجلسة حضرها مورس فيها أمامه هذا السحر.
كما تذكر شكلاً آخر تصفه بـ"السحر الأسود"، يصنع فيه الساحر عروساً من الطين أو الشمع لعدوه أو عدو من استأجره، ويضع العروس في الماء إن كانت من طين أو في النار إن كانت من شمع، وعندما تختفي العروس يموت العدو تدريجياً.
وإن كان يرغب في تعذيبه فحسب، فيقوم بغرس الدبابيس والأطراف الحادة لسعف النخل فيه، ليصيب المسحور بالألم، وأحياناً ينجح هذا الأخير في استنتاج هوية الساحر المكلف بتعذيبه، ويتوجه إليه ويدفع له مبلغاً من المال أكبر من ذلك الذي تلقاه لإيذائه ليفك السحر.
في دراسة أنثروبولوجية معاصرة أجريت في بعض قرى الدلتا، ينقل الباحث شهادة لإحدى الممارِسات "المحترفات" لعلاج الحسد. فتقول إنها تفضل يوم الجمعة، لأنه يوم طاهر، للقيام بذلك، فتشغل البخور وتدور به حول رأس المحسود قائلة: "أنا برقيك والرب يشفيك... رقيتك برقوة محمد بن عبد الله... الرقوة سارقة من كل عين زرقا".
والرقوة هي "الرقية"، عبارة عن ترديد بعض الآيات والأدعية على رأس "المَرقي" لعلاجه أو تحصينه، و"العين الزرقا" من الرموز الشعبية للعين الحسود.
ثم تقص عروس ورقية وتثقبها بالدبوس مرددة "رقيتك من عين أمك وأبوك وكل الناس"، ثم تحرقها وتجعل المحسود يمر فوقها سبع مرات، وأخيراً تراقب مادة الشبة وهي تحترق لتستنتج ملامح الحسود.
وفقاً للدراسة نفسها، تقول معالِجة أخرى يصفها الأهالي بأن "يدها فيها البركة"، أنها تؤدي طقوس "العروسة" بتمريرها على جسد المحسود وهي تردد: "رقيتك واسترقيتك من كل عين شافتك ولا صليتش ع النبي... الله أكبر عليهم... الله أكبر عليهم"، ثم تحرق العروس وتدهن كعب المحسود برمادها.
وتضيف معالجة أخرى أنها تمارس طريقة "دهن الكعب بالرماد" نفسها، لكنها إذا أحست أن الحسد "قوي"، تلقي الرماد في الحمام لأنه يعكس الحسد ويوجه ضرره للحسود نفسه.
ما يميز المجتمع المصري هو أنه "يستوعب" في أديانه بعض معتقداته القديمة. فسحر الدمية المصري القديم، تحول مع الوقت إلى طقس "ديني"، مرتبط بـ"الرقية" والقرآن والأيام المقدسة والصلاة على النبي محمد. وانتقل من منطقة "السحر الأسود" إلى تصنيف أكثر ملائمة لما يمكن وصفه بـ"النسخة الشعبية" من الدين الإسلامي. فلم يعد يُصنف كسحر أصلاً.
وبشكل عام، فإن حتى ممارسة "العروسة" في انحسار عن ذي قبل، إذ يمكن اعتبارها "ممارسة فولكلورية" لا أكثر، رغم ازدحام الانترنت بالمواقع والمنتديات التي تشرح كيفية عملها وتوظيفها لعلاج الحسد أو لجلب المحبوب!
ولكنها في كل الأحوال تستحق التتبع، سواء جغرافياً أو تاريخياً، نظراً لوجودها لدى شعوب مختلفة في فترات متنوعة مع بعض الفروق البسيطة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...