شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ناهيك عن أفلاطون... اضحك أدام الله لك السرور

ناهيك عن أفلاطون... اضحك أدام الله لك السرور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 27 أكتوبر 202003:19 م

فيما كنت جالسة مع أمي وبناتي، متسمرة أمام شاشة اللاب توب، أحاول فك الألغاز المتعلقة بحس الفكاهة عند البشرية، دخل والدي هاتفاً بفرحه المعهود: "ماذا جلبتي لنا من القلمون؟"، مشيراً إلى جامعة القلمون، على طريق مدينة حمص، معقل النكات في سوريا، فردت أمي بفطنتها المعهودة أيضاً، فيما ما زلتُ أنا شاردة: "خفيف المحمل وغالي الثمن". فرد أبي: "طفيف...؟!" وما إن أنهى كلامه حتى انفجرنا ضاحكين.

لكن بعد نوبة الضحك الهستيرية هذه، عدت إلى ما كان يشغل بالي: ما الدوافع الغريزية التي أفلتت شرارة الضحك بعفوية مطلقة من هذا الموقف الملتبس؟ هل المواقف المتناقضة هي ما تثير سخريتنا؟ هل ما يجعل البشر يضحكون هو سخريتهم العفوية أو المتقصدة من "نقائض" الآخرين؟ أم استمتاعهم بمآسي هؤلاء؟ أم بمآسيهم؟ لماذا يلجأ البشر إلى الضحك والسخرية كلما ازدادت المصائب والنوائب؟ أسئلة يطرحها المقال في محاولة لفهم ماهيات الضحك المتعددة وحس الفكاهة عند البشر.

كيف "تتحرش" الفكاهة بالسلطة؟ ولماذا يصبح الضحك والسخرية ملجأ البشر كلما اشتدت المصائب؟ 

شر البلية ما يضحك

حين نريد أن نفهم ظاهرة ما نبدأ بمراقبة النفس ثم ننظر حولنا. ومن خلال المراقبة، لاحظت عبر السنوات العشر الماضية تغيراً في سلوكيات الضحك عند السوريين، وذلك من مشاهدة ما ينشرونه عبر وسائل التواصل الاجتماعي كمقياس أولي. حيث وجدت تدفقاً من النكات والسخرية من الأزمات المتلاحقة عليهم، بالتزامن مع ازدهار حس الفكاهة المتنامي عند السوريين.

نجد اليوم مئات الصفحات التي تنشر النكات والصور المضحكة، ولديها آلاف المتابعين. معظمها يطرح قضايا جوهرية أخلاقية وسياسية واجتماعية، لكن أغزرها وأكثرها دفقاً هي تلك المتعلقة بالظروف المعيشية الخانقة وأزمات طوابير الخبز والبنزين والغاز، بالمقابل، حتماً ليست هناك أزمة في "الطابور الخامس" في سورية.

في بحثي عن مفهوم الفكاهة  عدت إلى إنانا-عشتار. 

ميلولو عشتار: لعب وقتال

 أكدت عالمة الأنثروبولوجيا ريفكا هاريس Rivkah Harris في مقالتها في مجلّة "تاريخ الأديان" الصادرة عن مطبوعات جامعة شيكاغو (1991)، أن الآلهة عشتار كانت رمز التناقضات، وهذا هو سبب تأثيرها العميق في حضارات بلاد ما بين النهرين. ويعد التناقض من أساسيات حس الدعابة، حيث وُجد في نصوص الطقوس الدينية للمتعلقة بالآلهة عشتار مثل "نصوص الألعاب" كلمة "لعب" باللغة الأكادية "ميلولو/ mēlulu" هي جزء لا يتجزأ من شخصية عشتار.

كانت الإلهة عشتار رمز التناقضات، ولأن التناقض من أساسيات حس الدعابة، كانت كلمة "ميلولو" أو لعب باللغة الأكادية جزء لا يتجزأ من شخصية عشتار

إنها اللاعبة "mummiltu" بامتياز. حيث يشمل المستوى الدلالي لـكلمة لعب الأكادية: اللعب، الرقص، والتمثيل والضحك.  وليس من العجيب عندما نفكر في عشتار وهي تدخل ساحة الحرب، كأنها تدخل "ساحة اللعب"، حيث أحد معاني هذا التعبير "ساحة المعركة" ويقال حرفياً في "مسرحية عشتار": "يا إلهة القتال، دعي المعركة تستمر مثل مسرحية لعبة الدمى. لا تَدير ظهرك في المعركة، أن لعب عشتار لهو القتال الحق".

وقد تمت صياغة "نص الألعاب"، وهو من النصوص الدينية لطقوس عبادة عشتار، على هيئة حوار، حيث يشير "الكلام غير اللائق" في النص إلى أن النكات البذيئة كانت جزءاً من التسلية التي تعد تباهياً متفجراً للمحرمات، جنباً إلى جنب مع يأس مُرعب من كسر المحرمات. فقد تجاوزت هذه الطقوس أيضاً الحدود التقليدية، من خلال الأغاني الهزلية والفاسقة، سيجد محتفلو الآلهة تحرراً مؤقتاً من القيود المجتمعية. حيث يلاحظ أن الكوميديا ​​والكرنفالية ليستا أمثلة على تجاوزات حقيقية للتعدي على الأعراف اليومية والتجاوزات في السلوك، على النقيض تماماً، فهما يمثلان أمثلة عليا لتعزيز القانون، حيث يذكراننا بالحضور القوي للقواعد والقوانين الصارمة.

من منظور مختلف، يقول الكاتب العراقي علاء اللامي أنّ معظم أنواع الفكاهة "تتحرش بالمقدس الديني والسلطوي والجنسي، (الثالوث المحرم بعبارة الراحل بو علي ياسين). ولا يمكن فهم وتفسير هذه الجرأة إلا بوضعها في سياقها التاريخي". ويضيف "في فترات الصعود الحضاري يكون المقدس طبيعياً وبسيطاً يعيش مع الناس دون تحريمات أو تكفير، أما في فترات الارتداد والنكوص الحضاري، حيث تشيع الخرافات والفكر التكفيري، فنجد ما يعاكس ذلك، فيتحول حتى الفقيه الصغير والذي لم يسمع باسمه الكثيرون إلى رمز مقدس لا يجوز الاقتراب منه".

"أخبار الحمقى والمغفلين"

ألّّف ابن الجوزي  (ت. 1201) أهم موسوعة للطرائف والنكات في العصر العباسي عنوانها "أخبار الحمقى والمغفلين من الفقهاء والمفسرين والشعراء والمتأدبين والكتاب والمعلمين والتجار والمتسببين وطوائف تتصل للغفلة بسبب متين". غير أن ابن الجوزي هذا، لم يكن من رجال الفقه والدين المنفتحين أو المتساهلين، بل كان متشدداً ومتعصباً لدرجة أنه ألّف كتاباً كفَّر فيه القطب الشهيد الحلاج عنوانه "تلبيس إبليس"، ولكنه، وهذا ما قد يدهشنا اليوم، لا يتردد عن إيراد أقوى الطرائف والنكات التي لا يجرؤ على روايتها اليوم أكثر رجال الدين تسامحاً وانفتاحاً.

وهناك كتاب آخر في هذا الصدد، كتب قبله بقرنين، في الفترة البويهية، للأديب منصور بن الحسين الرازي يكنى الآبي (ت. 1030)، عنوانه "نثر الدر في المحاضرات". ومن طرائف ونوادر الكتاب، التي كان علاء اللامي قد نشرها سابقاً في كتابه "المستطرف الممتع"، ترد قصة: قيل، سمع أحدهم قارئاً يقرأ قوله تعالى "وفي السماء رزقكم وما توعدون"، فقال له: ومن أين لنا بسلّم لننال رزقنا ذاك؟

كما يروى أن جارية جاءت إلى أبي ضمضم القاضي والفقيه وقالت له: هذا الشاب قبلني عنوة. فقال أبو ضمضم للشاب: يا فتى أذعن لها بحقها، هيا قبليه عافاك الله كما قبلك، فإن الله يقول "والجروح قصاص". ويقال إن صاعد بن مخلد كان نصرانياً فأسلم، فجاء أبو العيناء "شيخ ظرفاء بغداد" لزيارته، فقيل له إنه مشغول يصلي، فهذب وعاد ثانية في المساء، فقيل له إنه مشغول يصلي، فقال أبو العيناء: دعوه يصلي، فلكل جديد لذة.

وفي طرفة أخرى، يحكى أن رجلاً يهودياً وجد رجلاً مسلماً يأكل لحماً مشوياً في شهر رمضان نهاراً والناس صائمون، فجلس وأخذ يأكل معه، فقال له المسلم: وكيف تأكل معي وذبيحتنا نحن المسلمين لا تحل لليهود؟ فقال له اليهودي: أنا في اليهود مثلك أنت في المسلمين!

ويقال إن الشاعر علي بن الجهم اشترى جارية على اعتبار أنها بكر، فلما اكتشف أنها ثيب قال لها: ما حسبتك إلا بكراً. فقالت له الجارية: يا سيدي، لقد كثرت الفتوحات في زمن الخليفة الواثق! 

وعن حكم الحجاج طرفة تحكي أن الحجاج قال يوماً لرجل: اقرأ لنا شيئاً من القرآن. فقرأ الرجل الآية "إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً...". فقاطعه الحجاج مصححاً وقال له: بل يدخلون في دين الله أفواجاً. فقال الرجل: كان ذلك قبل ولايتك أيها الأمير!

نرى من هذه القصص أنها شديدة "التحرش" بحدود السلطة، لكن ما يجعلها بالغة التأثير ليس فقط تناولها موضوع السلطة مثلاً، كما في قصة الحجاج بل أيضاً أنها تخاطب جمهورا على اطلاع على تسلط الحجاج وبطشه، ومن هنا نشعر بحس السخرية، لأن مثل هذا اللقاء لم يكن ممكنًا! 

أدام الله لك السرور

في العصر العباسي، انبثقت أنواع فنية جديدة مثل نثر الطفيليين، تلك الفئة الطريفة التي تغلغلت بين كافة طبقات الوسط الاجتماعي، بحضورها الولائم عنوة من غير دعوة.

وعلى الرغم من استنكار العرب لعاداتهم وامتعاض المجتمع من ممارستهم لصنعتهم، التي تقضي بالولع الشديد للطعام والشراب أينما وجد، إلا أن كتب التراث روت لنا جانباً من قصصهم بحس أدبي سطر لنا بعض الفنون النثرية، مثل النوادر والرسائل الفنية، والنصائح والوصايا، وفي هذه النصوص جسّد الطفيلي دورين: دور المضحك ودور الحكواتي.

قد يكون كتاب البخلاء للجاحظ من أشهر أنواع هذا الجنس الأدبي، حيث تناول قصص ونوادر تلك الفئة التي كانت تتخذ من البخل فنوناً غاية في الغرابة والدهشة، والتي تثير الضحك والهزل من فرط جدية أصحابها. لكن إذا ما قرأ اليوم من قبل اقتصادي لقيل إنه أفضل كتاب في الكفاءة والتوفير. ويذكر الثعالبي في مقدمة كتابه "اللطف واللطائف" إنه قد خرج من دراسة نوادر ولطائف الصحابة والملوك والبلغاء والفقهاء إلى ثلاثة أدعية، من أوجزها وأبلغها دعاء الجاحظ: "أدام الله لك السرور"، منوهاً إلى الدور الجوهري الذي تلعبه الفكاهة في حياة البشر، حيث يَعْد الثعالبي أهم أمنية يمكن أن يتمناها لك المرء هو دوام السرور والفرح عليك.

زواج إله الحكمة من إلهة الفكاهة

قدّس المصريون القدماء الفكاهة لدرجة أنهم أرسلوا إلهة الفكاهة وزوجوها من إله الحكمة، كما يقول الصحفي المصري عبد اللطيف الميناوي،  ويرى أن أقرب تفسير لعلاقة المصريين بروح الدعابة لديهم. يقال إن قدماء المصريين اعتقدوا أن العالم قد خُلق من الضحك، ما يدل على موقفهم من الحياة عامة". 

 تغيرت طريقة طرح الفكاهة عبر الزمن، يقول الميناوي،  "إما عن طريق الألغاز أو الأحجيات أو الهزل، لكن كان الغرض وما يزال من النكات، منذ فجر التاريخ، هو التعامل مع التابوهات والموضوعات الساخنة والمحن التي لا يمكن معالجتها علناً."

كما يشير الدكتور عمر كامل، عالم المصريات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة،  في دراسته "Ancient Egyptian Humor"، إلى أن الفكاهة عند المصريين القدماء كانت من الخصائص الإلهية التي تعكس الخصائص الإنسانية أيضاً، حيث تحتوي النصوص المقدسة على العديد من التفاعلات التي توضح حس الفكاهة. على سبيل المثال، المواجهات بين حورس، إله الشمس وسيث، إله العواصف والفوضى والعنف والأجانب، والتي تقترب أحياناً من الهزل.

كما ورد في إحدى الروايات، والمصدر هنا دراسة الدكتور كامل ذاتها، أن الإلهين اتفقا على معركة بحرية، لكن خُدع سيث ببناء سفينته من الحجر، والتي سيكون مصيرها الغرق، ما جعله يفقد تلك الجولة. في أسطورة "تدمير البشرية"، تلعب الإلهة حتحور دوراً غير لائق للغاية، عندما تصبح في حالة سُكْر، فيتمكن الإله رع من خداعها بسهولة. فيما تحتوي حكايات ستنا Setna الشعبية والمكتوبة بالعامية على مقاطع ذات لمسات كوميدية، وتُجسد شخصية البطل ستنا الأمير خائمواس Khaemwase، وهو رابع أبناء رامسيس الثاني. تجنح الشخصيات في إحداها إلى هفوات ضمن حادثة تهريجية، حيث يستمر أحدهم في ضرب الآخر على رأسه بصندوق اللعبة، ما يوقعه أرضاً.

كان من أساسيات هذه الحلقات أن تكون مسلية للعامة، ومن المرجح أن بعض هذه النصوص، سواء أكانت شعبية أم دينية، كانت تحمل بين طياتها روح الدعابة، كإحدى طبقات التفسير المقصودة. كما أن الأعداد الكثيرة من النسخ المتاحة منها، بالإضافة إلى استمراريتها عبر الزمن الذي يشير إلى جاذبيتها الواسعة والدائمة. وقد تكفّل التراث الشفوي القوي بوصول تلك القصص إلى شريحة كبيرة من السكان، كما يشير الكتور كامل. 

"سوء سمعة الفكاهة" عند أفلاطون

كان أفلاطون من أكثر منتقدي الضحك باعتباره عاطفة تتجاوز ضبط النفس، حيث يقول في "الجمهورية": "إن على حراس الدولة تجنب الضحك، لأنه عندما يتخلى المرء عن نفسه للضحك العنيف، تثير حالته رد فعل عنيف". وقد شكلت مقتطفات الضحك الموجودة في الإلياذة والأوديسة إزعاجاً كبيراً لأفلاطون، بشكل خاص حين قيل إن جبل أوليمبوس يضج برنين ضحكات الآلهة. واحتج على ذلك قائلاً: "إذا كان أي شخص يمثل رجلاً ذا شأن وقد تغلب عليه الضحك، فلا يجب أن نقبله، ناهيك عن الآلهة".

إن الرجال ذوي الشأن وأصحاب القرار اليوم لا يغلب عليهم الضحك، على العكس تماماً، هم شديدو الجدية، ماضون دوماً وأبداً في مخططتهم المرعب لإضحاكنا حتى الموت. لوكنتَ تدري يا أفلاطون ما ستؤول إليه الفكاهة بعد موتك، لربما تضرعت إلى الآلهة في أعلى قمة أوليمبوس منتظراً صدى ضحكاتهم، لكنها سخرية الاقدار! الآن فقط أدركت لماذا التصقت صفة السخرية دوماً وأبداً بالأقدار، لكن أليس على الأقدار أن تتسم بالحكمة أيها الفلاسفة؟ آه نسيت أن إله الحكمة تزوج إلهة الفكاهة، حتماً كانت فاتنة تعرف كيف تلهي الحكمة عن حكمتها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image