في نهايات ستينيات القرن الماضي بلغت السينما الإيرانية الاكتفاء الذاتي، فأصبحت جميع مراحل إنتاج الفيلم تتمّ في داخل البلاد، إلا أن السينما كانت قد دخلت إيرانَ قبل ذلك بكثير ومشاهدة الأفلام في صالات السّينما كانت تسلية رائجة ومحبّبة.
الأفلام السينمائية الأمريكية والأوروبية والعربية (المصرية في الحقيقة) كانت تُبثّ في إيران وقد جلبت انتباه الكثير. في الستينيات، أي في الوقت العسير للإنتاج السينمائي الوطني في إيران، أصبحت السينما المصرية ذات شعبية كبيرة في إيران إلى جانب الأفلام الهوليودية، وقد استمرّت هذه الشعبية إلى نهايات السبعينيات. ويمكن الإشارة إلى إعلانات الأفلام في صالات السينما التي كانت تُنشر في صحيفة "اطّلاعات" آنذاك؛ فعلى سبيل المثال في 20 سبتمبر عام 1956 في الصفحة الخاصة بإلإعلانات السينمائية في العدد 9122 لهذه الصحيفة، من بين 12 من الأفلام المقترَحة، كانت هناك 7 أفلامٍ هوليودية، اثنان إيرانيان، 3 أوروبية، واثنان مصريّان.
خلال هذه الفترة أقبل الإيرانيون على أعمال بعض من نجوم السينما والموسيقى المصريّين، وبالأحرى بنجوم كانوا يتقنون الدّورين معاً، فأخذ عدد من الفنانين في إيران يغنّون أغانيَ بالفارسية مستلهمين من الموسيقى العربية التي كانت واسعة الحضور في الأفلام المصرية، فعُرف هذا النّوع من الموسيقى بالطّور "الشعبيّ"، وأصبح أحدَ الأساليب الفنّية المرغوب فيها في إيران.
كانت السينما المصرية ذات شعبية كبيرة في إيران، غير أن ما جلبتْه هذه الموسيقى ونجومها إلى ساحة الموسيقى الشعبية كان أكبر ممّا حدث في السينما الإيرانية. إن لم يكن "قاسم جِبلّي" أول المطربين، إلا أنه كان من الأوائل الذين حاول أن ينتج أعمالاً موسيقية في إيران على غرار الموسيقى المصرية التي كانت تُعرف وتُعرض في إيران متمثلة بفريد الأطرش وأم كلثوم.
أقبل جبلّي، واقتداءً به "بَهرام سير" وثمّ "داود مَقامي" على هذا النوع من الموسيقى وأصبحوا وجوهاً بارزة في الثقافة العامّة في البلد، وقد شكّلوا منذ الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات، أي عند حدوث الثورة الإسلامية، أحد التيّارات الفنية المهمة في إيران، وكان لهم ما كان من المتلقّين حتى لم يستطع الحكمُ أو أصحاب السلطة في مجال الموسيقى أن يُبعدوا أعمالَهم عن أسماع الشّعب.
كان هؤلاء محلّ نقدٍ لاذع من قبل أساتذة الموسيقى في إيران، كما أن الحكم السياسي لم يكن راغباً في الترويج لهذه الموسيقى. أحد الأسباب التي كانت تجعل هذا التيار الموسيقي موضعَ نقدٍ كان الجودة المنخفضة في الأعمال المنتجة لاسيّما بالمقارنة مع مصادرها. تلك الموسيقى وتلك الأسماء التي كانت أثّرت عليهم كانت لفنّانين بارزين ومؤلفين في مصر. الفنانون الذين أعادوا إنتاج هذا التيار الموسيقي في إيران كانوا فنانين ذوي شعبية، إلا أن غالبيتهم لم تكن لهم مكانة مهمة في الفضاء الرّسمي الموسيقي والأكاديمي في إيران، حتى أنهم أطلقوا، بشيء من الاحتقار، على هذا التيار الموسيقي، "موسيقى الشّوارع والأسواق" (موسيقى كوچه بازاري، في الفارسية).
قبل فترة أرسل القائمون على الموسيقى المصرية برسالة إلى الحكومة الإيرانية مفادّها أنه إن كنتم تريدون أن تغنّوا أغانينا، فسنرسل لكم نوطاتها بأنفسِنا
يتطرق روح الله خالِقي، أحد أعلام البحوث الموسيقية في تاريخ إيران المعاصر، في المجلد الأول لكتابه الشّهير "سيرة الموسيقى الإيرانية" إلى ذلك، ويكتب: "قبل فترة من الوقت أتى أحد موسيقاري مصر إلى المعهد الوطني للموسيقى، عزف على العود، ثمّ اتجه الحديث نحو الموسيقى، فسأل مستغرباً: لماذا يعزف مطربو إذاعة طهران، الموسيقى العربية بشكل غير جيد وغير صحيح؟ إن كانوا يريدون عزفَ أغانينا، أليس من الأفضل أن يطلبوا منّا نوطاتها ليعزفوها بشكل صحيح؟ فخجلتُ أمامه…".
وقد حدث ذلك خلال أعوام 1949 و1959 حيث كان خالِقي مديرَ المعهد الوطني للموسيقى، ويشير إلى هذه الذكرى في خضمّ حديثه عن تاريخ قدوم آلة القانون إلى إيران في هذا الكتاب. ويروي هذه الذكرى أيضاً أبو الحسن صبا، أحد أبرز الموسيقيين الإيرانيين (توفّي عام 1957) ببعض الاختلاف. في الواقع يروي أحد تلاميذ صبا أنه ذات مرة كان يصل من الصفّ صوت شابّ يغنّي أغنية لقاسم جبلّي. فاحتدّ صبا غضباً بسماعه ذلك الصوت، وبدأ يكيل عليه ألفاظاً مهينة قائلاً: "لا يستحون أن يغنّوا بهذا الشكل!"، وأضاف: "قبل فترة أرسل القائمون على الموسيقى المصرية برسالة إلى الحكومة الإيرانية مفادّها أنه إن كنتم تريدون أن تغنّوا أغانينا، فسنرسل لكم نوطاتها بأنفسِنا. اعزفوا النوطات بشكلِها الصحيح!... علينا أن نخجل من أجل إهمال هؤلاء السادة…"، وقد ذُكر ذلك في كتاب "في القفص" الذي ألّفه فرهود صفَر زاده عن حياة الموسيقار صبا.
ورغم الغضب الذي كان يعبّر عنه أساتذة الموسيقى في إيران تجاه هذا التيار الموسيقي إلا أنه بقي ذا شعبية، وبما أن معظم مغنّيه وعازفيه كانوا ينتمون إلى الطبقة الفقيرة في المجتمع، ولم يكونوا مدعومين من قبل الحكومة، بل كانوا قد كوّنوا سوقهم الخاصة وساروا وفق العرض والطلب اللذين كانا يتلقونهما من قبل الشعب ودون التدخّل الحكومي الذي كان له دور في مجال الفن، فيمكن اعتباره التيار والأسلوب الموسيقيّ الأكثر استقلالاً في تاريخ إيران المعاصر والذي نجح في شدّ الشعب إليه.
بعد الثورة انقطعت علاقة فناني هذا التيار مع العرض والتسجيل، غير أن شعبيتهم لم تنخفض، بل ما زالت الموسيقى الخاصة بالشّرب والسّهر هي موسيقى "عباس قادري" و"جواد يسّاري" و"سوسن" ونظرائهم؛ الأعمال التي تعود غالبيتها إلى خمسين عاماً ومازالت متاحة بجودة ليست بجيدة.
أصوات هؤلاء المطربين كانت تُسمع من كاباريهات "لالِه زار"؛ الشارع المهمّ في طهران وذو الأثر على ثقافتها، بل على الثقافة الإيرانية. كان هذا الشارع محلّ التقائهم، وكان يُطلق على هذا النوع من الموسيقى "موسيقى لالِه زارية" إلى إبان الثورة الإسلامية. وحتى مطربو الموسيقى "البوب" الفارسية في السبعينيات والذين يقيمون اليوم في لوس أنجلوس يطلقون نفس الاسم على هذا الأسلوب.
كان شارع "لالِه زار" حتى قُبيل انقلاب 1953 ضدّ حكم مصدّق في إيران، فضاءً للمسرح الاعتراضي في إيران ومكاناً لاجتماع المثقفين، لكنه بعد الانقلاب فقد رونقه ليصبح بعد عودته إلى الواجهة مركزاً لمن كانوا يُسمّون بـ"المطربين"، ودلالة هذه الكلمة تختلف في إيران عن نظيرتها في العربية، فـ"المطرب" في قاموس الفارسية الحديثة هو من يغني الأغاني الشعبية الخاصة بمجالس اللهو والكاباريهات. إذاً تملّك المطربون المنتمون إلى هذا التيار شارعَ لالِه زار، ففقد هذا الشارعُ روّادَه النخبة السابقين.
كان هؤلاء محلّ نقدٍ لاذع من قبل أساتذة الموسيقى في إيران، كما أن الحكم السياسي لم يكن راغباً في الترويج لهذه الموسيقى
مغنّو وشعراء هذا النوع من الموسيقى كانوا معنيين بشكل غريب بالأمكنة والقضايا المدنية. بمعنى آخر فضاءات المدينة التي كانت مركزاً لتمجمعّات الأشخاص من الطبقات الفقيرة غدت موضوعاً رئيسياً في كثير من أغانيهم. اللهجة الشعبية الخاصة بـ"أصحاب المروءة" المعروفين بين تلك الطبقات كانت بارزة في أسلوب غنائهم.
معظم أدواتهم الموسيقية كانت ذاتها التي سبق وشاهدوها وسمعوها في الحفلات الموسيقية المصرية، ولكن الأغاني وجَودة العروض كانتا مختلفتين. على سبيل المثال لم تكن لهم تلك المقاربات والآراء التي كانت لأم كلثوم في القضايا الاجتماعية والسياسية، ولم تنشر لهم أيّ أغنية سياسية. غالبية المضامين التي تعنيهم كانت تتعلق بنوع من الغزل الخاص بهم. عباس قادري مثلاً له أغنية بعنوان "قطعة حجر" يغني فيها: "هنيئاً لك يا قطعة الحجر، ليس لديك قلب يحنّ/ أغبطك لأنك لا صوت لك ولا لون/ ولا قلب عاشق تتركينه عند أحد/ فيكسره بالحزن ويسيل الدمُ من عينيك"، وهناك أغنية شهيرة لداود مقامي بعنوان "الجنة والنّار": "احرقي قلبي قدر ما تستطيعين/ وأطلقي نحوي أي حصان لديك/ ولكن هناك يوم حساب/ وسيكشف اللهُ أمرَك/ ذات يوم أمام محكمة الربّ/ يُثبت لك أن وجهك أسود…"
أحد الوجوه البارزة والموهوبة في هذا التيار هو "نعمت الله آغاسي" الذي أعاد غناء أغنية "ميحانة" للمطرب العراقي "ناظم الغزالي" في السبعينيات، كما غنى أغنية "أبو قذيلة" العراقية الشهيرة بصيغة فارسية وبعنوان "لَبِ كارون" (شاطئ كارون)، وهو النّهر الكبير في الأهواز والذي كان رمزاً لليالي الطرب والسهر في تلك الفترة، فاشتهر آغاسي جدّاً بهاتين الأغنيتين، لاسيما "لبِ كارون" التي مازالت وإلى يومنا هذا ضمن الأغاني المسموعة ذات الإيقاع الرّاقص لدى الإيرانيين.
الموجة الموسيقية هذه كان يغلب عليها الطابع الرّجولي، ما عدا بعض المطربات مثل "شَهبَر" و"سوسن" و"آفَت". "سوسن" كانت مطربة قديرة وذات مكانة مهمة في الثقافة العامة، واحتفظت بهذه المكانة إلى فترة طويلة من الوقت. "شَهبَر" كانت لها شخصية مختلفة عن "سوسن"، ويمكن ملاحظة هذا الاختلاف في أغاني كل واحدة منهما. إحدى أشهر أغاني "شَهبَر" كان عنوانها "كَلّه باجِه"، وهي أكلة شعبية في إيران برأس الخروف وكروعه.
لم يحتوِ هذا التيّار الموسيقي إلا على عدد قليل من النساء، إلا أنهن كنّ ذوات شعبية كبيرة وقسم كبير من روّاد المقاهي في طهران في الخمسينيات والستينيات كانوا يرغبون دائماً بالاستماع إلى غنائهن.
بمرور الوقت وبعد طرح أسماء لنجوم "البوب" الفارسي في السبعينيات في إيران، والذين كانوا قد كوّنوا موسيقاهم متأثرين بالموسيقى الغربية في الطريقة والإطار، تعرّض هؤلاء الفنانون إلى التهميش، غير أن بعضاً منهم بقوا على شعبيتهم السابقة خلال ذلك العقد، من أمثال "سوسن" و"علي نظَري" و"جواد يسّاري" و"آغاسي".
بعد الثورة ومنع هذا النوع من الموسيقى لمدة عشرين عاماً، كثير من مطربي هذا الجيل الذين كانوا قد بقوا في إيران لم يستطيعوا أن يفعلوا الكثير، ولكن بمرور الوقت عادت أعمالهم السابقة إلى الفضاءات الشعبية من جديد. رغم ذلك لم يظهر في ما بعد وجه جديد في هذا التيار في إيران يعيد تلك الشعبية التي كان يتمتع بها الجيل القديم.
وفي الختام، لم يتسنّ لهذا التيار الفنّي أن يزيحَ الظلالَ الكثيفة للموسيقى العربية (المصرية) من فوق رأسه ويرسم صورة أكثر إصالة لنفسه بإضافة عناصر أو تقنيات من الثقافة الموسيقية الفارسية. وبقدر ما بقي هذا النوع من الموسيقى ذا شعبية لدى عموم الشعب إلا أنه كان مغضوباً عليه من قبل المثقفين والنخبة، ولكن اللطيف في الأمر هو أن الاستماع إلى مطربي هذه الموسيقى ما زال متداولاً في سهرات الطبقة المتوسطة والمرفهة في إيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون