شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"الأمل هو أسوأ الشرور"... عن الانتفاضة التي أحبطتنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 17 أكتوبر 202011:05 ص

"الأمل في الواقع هو أسوأ الشرور لأنه يطيل عذاب الإنسان". هكذا يصف نيتشه تلك اللعنة التي تُسمّى الأمل. هي نفسها اللعنة التي تصيب كل شخص يطمح إلى تغيير ما حوله.

بعد كل فشل وإحباط، يقول الإنسان لنفسه: "كانت تلك محاولتي الأخيرة، هذا المكان عصي على التغيير ولن أحاول مرة أخرى". ولكن فجأة، يحدث شيء ما، فتعود شعلة الأمل وتتّقد في داخله، ولا يرى نفسه إلّا وقد افترش الساحات مجدداً، مطلقاً صيحات الغضب ومتمتماً: "لا بأس في محاولة أخرى، فقد تكون هذه المرة مختلفة".

هذا ما حصل معي ليلة 17 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، بعد أن كان أملي بأي تغيير في الواقع اللبناني شبه معدوم. شرارة انطلقت فأشعلت انتفاضة شعبية وأشعلت الأمل داخل كل توّاق للتغيير.

نزلنا إلى الساحات دفاعاً عن أحلامنا. هتفنا ضد الظلم والقهر والاستبداد. صرخنا عالياً "نريد حقنا في الحياة"، "نريد وطناً لا غابة طوائف"، "نريد حكم القانون لا حكم الزعيم".

حلقات النقاش كانت في كل مكان، يطغى على المشاركين فيها المراهقون والمراهقات وطلاب الجامعات، ما بث بعض الأمل في أن المستقبل حتماً أفضل مع هذه الأجيال.

هؤلاء الشباب والشابات راحوا يصارعون عائلاتهم ومحيطهم. صراع أجيال بدا واضحاً وجليّاً هذه المرة عبر اختلاف نظرة الجيل الجديد عن نظرة سلفه إلى الحياة ومستقبله، وتوقه إلى وطن يحميه، وعبر تصوّر أبنائه لأنفسهم كمواطنين أحرار لهم حقوق وليس فقط عليهم واجبات.

شرد الشباب عن قطيع الطوائف ليعلنوا أن زمن تغييب العقل ولّى إلى غير رجعة... أو هكذا اعتقدنا.

ولكن شيئاً فشيئاً، تلاشى هذا الاندفاع، مع تراجع زخم التظاهرات والعجز عن إحداث أي تغيير، وعادت الآمال والأحلام والتمنيات إلى الارتطام بالواقع المرير. هذه المرّة أدركت أن الرصاصات التي أطلقناها كانت الأخيرة، وأنها لم تُحدث أي خرق على الصعيد السياسي والاجتماعي، ما يعني أنها حتماً سترتد علينا لتكون رصاصات الرحمة.

"’الأمل في الواقع هو أسوأ الشرور لأنه يطيل عذاب الإنسان’. هكذا يصف نيتشه تلك اللعنة التي تُسمّى الأمل. هي نفسها اللعنة التي تصيب كل شخص يطمح إلى تغيير ما حوله"

الواقع اللبناني المعقّد والمجتمع المنقسم بين مجتمعات طائفية متصارعة وفساد السلطة السياسية المتجذر في كل مؤسسات الدولة والمجتمع والتي تأخذ من الطائفية درعاً حصيناً ومن الطائفيين متاريس تحتمي خلفهم، كلها عوامل منعت التغيير.

أما "المجموعات الثورية"، فلم يجد المنتفضون فيها تنظيماً سياسياً أو قوة تستطيع مواجهة الأحزاب التقليدية المستشرسة. "القوى التغييرية" افتقرت إلى أدنى درجات الوعي السياسي والحنكة في المواجهة. طفولة سياسية طغت على بعضها وأنانية برزت في تصرّفات البعض الآخر.

كانوا يشبهون السلطة في الفوضى والفشل، لكنهم لم يقلّدوها في تكاتفها وتضامنها رغم كل تناقضات مكوّناتها. أحزاب السلطة ومؤيدوها، عندما يدقّ ناقوس الخطر وتهتز زعاماتهم، يضعون خلافاتهم جانباً، ويتوحدون في وجه الحركة التغييرية، بل ويحمون بعضهم بعضاً، في مشهد يُبرز سوريالية الواقع اللبناني.

"بعد كل فشل وإحباط، يقول الإنسان لنفسه: ‘كانت تلك محاولتي الأخيرة، هذا المكان عصي على التغيير ولن أحاول مرة أخرى". ولكن فجأة، يحدث شيء ما، فتعود شعلة الأمل وتتّقد في داخله، ولا يرى نفسه إلّا وقد افترش الساحات مجدداً’"

ولكن في الانتفاضة، ظلت كل "مجموعة ثورية" تغنّي على ليلاها: اليساري يكره الليبرالي واليميني يكره اليساري... آخرون لم يتخلّصوا تماماً من رواسب انتماءاتهم الطائفية على عكس ما بدا لنا لوهلة.

كل هؤلاء ساهموا في قتل الأمل فينا، عندما اعتبر كل واحد منهم أنه هو لا غيره ممثل الثورة. كلهم بحثوا عن أسباب للتفرقة والانقسام وليس عن سبب واحد يجمع شتات المنتفضين.

لا أحد يقول إن جميع قوى الثورة يجب أن تتطابق في الأفكار؟ ولكن هدف الثورة هو التغيير، هذا الهدف الأساسي الذي يجب أن يتفق عليه الجميع...

ما حصل أن الكل أرادوا القفز إلى مراحل متقدمة وكأنّ الثورة انتصرت. كثيرون ظنّوا أنهم استلموا الحكم وصاروا في خضم تثبيت إيديولوجياتهم وعقائدهم على الجميع.

لخّص جورج أورويل الواقع المجتمعي المحبِط بجملته البسيطة: "لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى يثوروا". فمن أين نبدأ؟

هُزمنا مرة أخرى، لكن الهزيمة هذه المرة كانت مؤلمة ومكلفة. الأنانية غلبت الإيثار فانتصرت المنظومة الفاسدة.

الآن، أشعر أن طاقتي الجسدية والنفسية استنفدت. أرى كل شيء قاتماً. الشعلة الأخيرة التي كانت تمثل أملاً بالنجاة انطفأت. لم يعد هناك طموح، وليس ثمة مَن يريد أن يزرع شيئاً في هذا القحط. الأغلبية الساحقة تفكر فقط في الهروب إلى أي مكان... حتى المجهول أفضل بكثير من معلومنا، نحن الذين صرنا جثثاً متحركة تنتظر دفنها، ونرقد على رجاء القيامة في مهجر ما.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image