بعيداً عن صخب الميديا والسوشال ميديا، وفي مجتمعات محلية، منشدات أو مغنيات حافظن على الكثير من إرث الأجداد، وتقاليدهم، قد لا تسمعهن على قنوات يوتيوب، ولن تراهن وأنت تدير محطات التلفاز. وإن صادفتهن، فقد لا يخطر على بالك أنهن مطربات، من لهجتهن، وأزيائهن القروية، البعيدة عن "الموضة"، إنهن مغنيات الموالد في مصر.
التقت رصيف22 ببعضهن، وعادت بهذه الحصيلة.
أم حميدة: "عايشين بالفطرة من غير تعليم"
بدأت حميدة (49 عاماً)، بنت قرية بهبيت الحجارة، في محافظة الغربية، وهي أم لثلاثة أبناء، بدأت المسيرة حين كان عمرها 8 سنوات، إذ كانت تستمتع إلى أغانى عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وعبد الوهاب وكان والدها يدرّبها على الأغاني، وكيفية الإلقاء بعد أن لمس لديها حب الغناء.
تحكي حميدة ذكرياتها الأولى: "حين بلغت سن العاشرة بدأ والدي يصطحبني معه إلى مولد السيد البدوي فى طنطا، وكنت أردد وراء المطربين الأصليين للفرقة وهم والدي، وثلاثة مطربين غيره، بالإضافة إلى الست نعمة التي كانت تعاملني كأمي".
لم تعلمها الست نعمة الغناء فقط، بل كذلك فنون الطبخ، وأشياء تتعلق بأنوثتها كامرأة في بيتها، تقول حميدة: "على يد الست تعلمت معنى الحياة، وإزاي أكون مبسوطة وسعيدة، كنت طفلة وقتها بقى، وفاكرة إن كل حاجة فى الدنيا فلوس، كنت أبص على البنات اللي لابسين حلو وبيجوا المولد وأزعل، وأقول لها إشمعنى هما لابسين حلو وأنا لا، فتقول لي بس جايين علشانك إنتي عشان يسمعوكي إنتي، يعني زى ما عندهم حاجات حلوة إنتى كمان عندك حاجات حلوة، بصى للى فى إيدك عشان تعيشي مرتاحة".
"كنت بابقى حاسة إني رايحة فرح أو رايحة أقابل حد بحبه من كل قلبي، بنخبز قدام الفرن واحنا بنغني، تقدر تعتبرها بروفة معجونة بالحب والدقيق وعرق النسوان"
عن تجربتها الأولى، تروي نعمة: "لأول وهلة اتخضيت من المشهد، الناس اللى بشنبات كبيرة والرجالة الضخمة، والزحمة فى كل مكان مش عايزه تهدى، وقلت بيني وبين نفسي إزاى هقف قدام كل دول، أتذكر وقتها إنى جريت على أبويا وقلت له أنا عايزة أروّح".
شجعها والدها على الغناء، ولكن كان للحاجّة نعمة دور أكبر، قالت لها حينذاك: "ما تبصيش في عين حد وغني كأنك قاعدة فى أوضه ضلمة لوحدك، لو بصيتى للناس هتفقدي تركيزك، غني وابسطي نفسك، ولو بسطتى نفسك الناس كمان هتتبسط".
"وعملت اللى قالوا لي عليه، وبعد أول أغنية ولما لقيت الناس قدامي مبسوطة وعمالة تتمايل معانا فرحت، وحماسي زاد أضعاف ومن يومها بدأت مشواري مع الموالد. ومن يومها كل ما أدخل مولد أحس كأنى أول يوم، فأفتكر كلام أبويا والحاجة نعمة ربنا يرحمهم".
تنهي حميدة حديثها لرصيف22: "دلوقتى بنتي بسمة هي اللي بتطلع معايا الموالد لأنها حابة الشغلانة، إنما منى لا، ونفس اللى عملته معايا الحاجة نعمة عملته مع بسمة، إحنا اتربينا بالفطرة واتعلمنا بالفطرة، من غير تعليم ولا جامعة".
أم خالد: "بنغني واحنا بنخبز"
أم خالد (60 سنة)، من مواليد قرية بطورس فى محافظة البحيرة، أرملة، توفي زوجها فى حادث سير منذ 5 سنوات، وتتكفل منذ ذلك الحين برعاية أسرتها.
تسترجع أم خالد ذكرياتها وحكاياتها مع الموالد، تقول لرصيف22: "فاكرة لسه أول مرة أقف فيها قدام الجمهور لوحدي، كان عمري وقتها 14 سنة، والناس كانت مستغربة إزاى البنت الصغيرة دي بتقول التواشيح والأغانى دي، وطبعاً كنت وقتها بقول كوبيلهيات كبيرة وتقيلة لأم كلثوم".
وعن استعداداتها للمولد، تقول أم خالد: "كنت بابقى حاسة إني رايحة فرح أو رايحة أقابل حد بحبه من كل قلبي، كنا بنجهز أكلنا وشربنا بفرحة كبيرة زي ما يكون يوم العيد، كنا نخبز العيش قدام الفرن وإحنا بنغنى، كنت بغنى وقتها الكوبليهات اللى بقدمها فى المولد، يعنى تقدر تقول كانت بروفة معجونة بالحب والدقيق وعرق النسوان، وكنا ناخد العيش والجبنة القديمة والخضار اللى ينفع يقعد معانا لأسبوع أو عشرة أيام وأحياناً أسبوعين".
تشدد أم خالد على أهمية ودور الطعام في الموالد، وعلاقتها بأصدقائها، رغم مظاهر التقشف، تقول: "صحيح الأكل مكنش بيبقى فيه لحوم، بس كان بيبقى طعمه أحلى من أي أكل خصوصاً، وإن كلنا فى المولد كنا بنتجمع على الأكل، يعنى الصبح بدرى أول ما نصحى كل واحد يسيب الخيمة اللى بايت فيها، وبعد ما نصلي الفجر، نتجمع كلنا، وكل واحد يحط الأكل اللى جايبه، وناكل مع بعض، وبيبقى الأكل ده رابط قوى يجمعنا، احنا كمصريين نقول دايماً كدليل على المعزة إحنا، واكلين مع بعض عيش وملح".
"في كل مولد بنجتمع على الأكل، وبيبقى طعمه أحلى".
جلسات الطعام، حملت الكثير من المعاني بالنسبة لأم خالد، تقول: "طبعاً وإحنا قاعدين على الأكل مكناش بنبطل كلام عن مشاكل كل واحد فينا، وبيحلم بإيه، وبيتمنى إيه، وكتير من مشاكلنا اتحلت وسط قعدات الأكل دي، فاكرة مرة حد كان مزنوق فى فلوس، وكان عليه إيجار متراكم، وصاحب البيت كان هيطرده، ولما عرفنا وإحنا قاعدين على الغداء، الناس الكبار لموا من بعض فلوس، وكانت أكتر من المبلغ اللى عليه كمان".
لا تحجز أم خالد قاعات لبروفاتها قبل موعد غنائها في أحد الموالد، واقتصرت على الاجتماع كل يوم بعد المغرب في منزل رئيس الفرقة، ويجلسون لمدة ساعتين للتدريب.
"ثلاثة من أولادي مازالوا حتى اليوم يعملون بالموالد، وإن كان الأمر بالنسبة لهم أشبه بالهواية، خصوصاً أنهم لا يتكسبوا منها المال الكافى للوفاء بمتطلباتهم الحياتية، وجميعهم يعملون بالزراعة".
وبحزن عميق تتذكر أم خالد اليوم الذى علمت فيه أنها ستبتعد عن المولد "عالم الأحلام" الذى عاشت فيه أسعد لحظات حياتها، وذلك بسبب الأمراض التي حاصرتها، مثل الضغط والسكري والقلب، ولم تعد تستطيع التنقل بين المحافظات بعد أن أنجبت 6 أولاد.
الست راجية: "الطقس حار والجو صعب"
الست راجية (44 عاماً)، من بركة السبع فى محافظة المنوفية، بدأت حكايتها في الموالد منذ الطفولة، تقول: "أكثر ما أفادني أن أبي وأمي كانا من مطربي الموالد، وقد عملنا أنا وشقيقتاى فى الغناء بالمولد، حفظنا الأغانى والمدايح بالاستماع، وكنا نجوب القرى والنجوع شمالاً وجنوباً، نقدم الأغانى والمدائح النبوية والسير الشعبية، وأكثر ما كان يزعجنا لما كنا صغار حر الصعيد، كان الطقس صعب للغاية، ولم نكن نجد مكاناً نقيم فيه سوي الخيام، صحيح الناس هناك كرماء جداً بس الجو صعب".
"كنت أبص على البنات اللي لابسين حلو وبيجوا المولد وأزعل، وأقول لها إشمعنى هما لابسين حلو وأنا لا، فتقول لي بس دول جايين علشانك إنتي، عشان يسمعوكي إنتي، زى ما عندهم حاجات حلوة إنتى كمان عندك حاجات حلوة"
كان الأمر شاقاً على راجية وإخوتها، إلى الدرجة أنهم اعتزلوا الغناء في الموالد بعد جوازهما، أما هي وزوجها فلا يزالان يعملان بالموالد، تقول: "أنا كملت في الموالد لإن جوزى هو كمان من الناس اللي بتجري ورا الموالد، فبنطلع إحنا الاتنين مع المتعهد، اللي بيجمع الناس للمولد، أنا أغني مع الفرقة اللي بقالي معاها 20 سنة، وهو بيقف على فرشة يانصيب".
وعن العائد المادي على فنها، تقول راجية: "الحمد لله على كل حال مستورة، وأدينا بنلقط رزقنا، صحيح موضوع كورونا وقف الدنيا بس أهو الحمد لله، فى الوقت اللى مفيش عندنا شغل فيه فى المولد، باشتغل على ماكينة خياطة وربنا بيكرم".
صفاء (38 عاماً)، بنت قرية طوة فى المنيا، كانت بدايتها في الغناء في الموالد مصادفة، تقول: "دخولي المجال ده كان بالصدفة، بعد ما واحدة من الفرقة تعبت قبل المولد بيوم واحد، وبما إنى كنت حافظة كل الأغانى والتواشيح اللي بتتقال فى المولد، طلبت من أبويا إنقاذ الموقف، وإنه يشركنى مكانها، كان عمرى وقتها 16 سنة، وكنت أول مرة أغني، يومها اندهش جداً من صوتي، ومن يومها قرر إنه يشركني فى كل الموالد اللى بنروحها، زي ديسوق والسيد البدوي وغيرها".
"أبي وزوجي منعاني من الحفلات خارج مصر والإقامة في القاهرة".
سنحت لصفاء أكثر من فرصة للخروج بفنها من دائرة الموالد إلى الحفلات، والتسجيلات الاحترافية، في المرة الأولى كانت تحيي حفلة في الإسكندرية، وعرض عليها فنان أجنبي السفر وإقامة حفلات خارج مصر، ولكن والدها رفض بشكل قاطع، والمرة الأخرى عرض عليها آخر الإقامة في القاهرة لإنتاج أغاني في استوديوهات "احترافية"، ولكنها قوبلت برفض زوجها القاطع، وخيرها بين الذهاب للقاهرة وبين أولادها.
تتنوع الموالد الدينية في مصر، أبرزها المناسبات الدينية مثل المولد النبوي الشريف، وبداية العام الهجري، إلى جانب الموالد الخاصة بأولياء الله الصالحين، وأشهرها موالد الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة بالعاصمة القاهرة، ومولد السيد البدوي فى طنطا بمحافظة الغربية، وكذلك مولد أبو الحجاج بالأقصر جنوب مصر، ومولد عبدالرحيم القناوى بقنا.
وقد ذكرت الجميعة المصرية للمأثورات الشعبية أن الموالد فى مصر تبلغ 2850 مولد، يحضرها 40 مليون شخص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...