إن السطور التالية مستخلصة من مشاهدات واقعية لمواقف ناس نعرفهم، وتعمدت عدم ذكر الأسماء احتراماً للخصوصية أولاً، وثانياً لأن الهدف ليس الثرثرة عن أفراد، بل عرض نماذج سائدة ومريبة.
ربما حان الوقت لنفكر بعمق أكثر حول كيف تبيح الميديا حياة الإنسان، كيف تصطاد الصحافة الأبطال والمستضعفين لأهداف ليست نبيلة كما تدعي، وكيف نشارك كلنا بـ "الجريمة" من حيث ندري ولا ندري، أو نتعمد النكران إرضاءً للتطفل والإحساس بالتفوّق.
ليس غريباً على هذا المجتمع إنتاج ثم إعادة إنتاج القهر، العكس صحيح أيضاً. وربما النية الصافية استثناء، لا سيما مع الهوس بالرايتينغز والفيورز، وعشرات آلاف عيون اللايكرز والفولورز التي لا تنام. من هنا رحت أحاول فهم معاني "الضحية" و"الجلاد"، وصلت بعدها لمرادفات أعقد مثل: "النرجسي" و"المتلاعِب". وهؤلاء، حسب الاختصاصيين، بارعون في الظهور بصورة الـ "رائعين" وكأصحاب غاية سامية، هي أن نعيش جميعاً بـ "عدالة".
وبالتالي، بعض البروفايلات ربما لدى أي منّا خاصيّة منها أو قد نكونها كلها، إذ ينقلب الضحايا إلى جلّادين، والمتلاعَب بهم إلى نرجسيين، عندما يعجزون عن الفرار من معذبيهم والشفاء، ثم تدوير آلامهم إلى حب للذات من أجل القدرة على حب الآخر. يعكس الفكرة تماماً النمط اللبناني في تحوّل الأقليات والمحرومين إلى أصحاب امتيازات أو فائض قوّة، حتى يعود العكس في حلقة مفرغة لا تكف عن الدوران.
كيف تبيح الميديا حياة الإنسان، وكيف تصطاد الصحافة الأبطال والمستضعفين لأهداف ليست نبيلة كما تدعي؟ ألا نشارك كلنا بهذه "الجريمة" من حيث ندري ولا ندري، إذ نستسلم لرغبتنا بإرضاء الفضول والإحساس بالتفوّق؟
النسوي الشرس
صحيح أن صوت الرجال المدافعين عن حقوق النساء ضروري، لكن لنطلق العنان للتفكير بلا حواجز: خارج هتافات ساحات النضال وخلف الأبواب، كم منهم يتقبل بالفعل أن تملك المرأة وقتها، مالها وجسدها؟ وإذا حصل، فهل من أجل إسعادها؟ لماذا، طالما يقلّص الأمر مكاسب الرجال الاجتماعية؟ المتمدنون الذين ينخرون في هشاشة امرأة طموحة كثيرون، مع العلم أن سعيها إلى النجاح لا يفرض عليها بالضرورة تقمص شخصية فولاذية.
يتفاخر ليبراليون بعدم سحب الحضانة من طليقاتهم، أما السر هو النفقة الزهيدة التي تقرها المحاكم الشرعية وتجعل الأم تتخبط في شقاء التدبير. ومن العادي أن تطفو على السطح كل فترة فضائح تحرّش وعنف، أبطالها مثقفون وثوّار. بالطبع ليس الرجل عدواً للمرأة، لكن ثمة بنيّة متجذرّة تتحكم بمساحاتنا الخارجية والداخلية، ولا بدّ أن تتناسب مدّة تغيّر الأفكار والسلوكيات مع مدى تأصلها.
الإعلامي الإنساني
فجرت كارثة مرفأ بيروت هذا النوع من الإعلاميين. حدث أن استضاف أحدهم أخت ضحيّة سقطت أثناء عملها في مقهى قريب، فالتقطت كاميرا مثبتة لحظة طيّرها العصف الرهيب. حصل الإعلامي على الفيديو من صاحب المحل، فسمح لنفسه بعرضه وإعادته أمام ضيفته المفجوعة والمشاهدين دون إنذار. وعلى الأرجح أن الشابة لم تر المشهد الصادم قبل، لأنها رددت مرتين: "آخ، شفتها!" وبدت تجاهد كيلا تنهار.
أما الإعلامي فجلّس قعدته، سوّى سترته وتابع طرح أسئلته عليها. فقط للإشارة، بين أجداد الإعلامي من سقطوا ضحايا لأفظع مجازر التاريخ القريب. ثمة مثال ثان جسّده المذيعون الذين لم يرحموا السيدة الخارجة بعد شهر من قارب الموت. فإثر وفاة طفلها عطشاً وجوعاً خلال رحلة التيه، اضطرت لأن ترميه في البحر. عبث المذيعون بجرحها المفتوح بواسطة أسئلتهم، ومن المتابعين من لمحوا لسَوقها رضيعها نحو المغامرة دون حساب للعواقب... لكن أيضاً حصدت المقابلة معها أعداد "متضامنين" هائلة.
إن السلطة قاتلة بلا شك، غالباً ينكّل الإعلام الأنيق بالجثث المعنويّة، وأتساءل إذا كان السواد الأعظم من رواد وسائل التواصل يتلذذون بترف النجاة؟
المرأة الذكورية
في 19 أيلول/ سبتمبر، هزّت البلد جريمة حرق مراهقة حيّة داخل شقة في ضواحي المدينة، كما نُقلت شكوك عن تعرّضها للاستغلال الجنسي، الأمر الذي لم يتمكن الطبيب الشرعي من تأكيده بسبب شدّة تشوّه الجثمان. أمّا المتهمون، فهم ثلاثة بالغين قيل إنهم من سيئي السمعة. كل هذا، مع الأربعة عشر ربيعاً فقط لعمر المغدورة، التي لم تشفع لها كي ترفع الذكوريات اللوم عنها.
إذا كان تعرّف الإنسان على نفسه يزيد من قلقه، ستغدو، إذن، خاتمة كل جواب باباً مفتوحاً على أسئلة لا تنتهي حول الخير والشر فينا، فهل ننسحب نحو الأجوبة الأقرب والأبسط كمنطقة راحة وحيدة ومضمونة؟
تساءلت النساء في تعليقاتهن عن دوافع الصغيرة لتكون وسط هكذا مكان وصحبة، ووُضعت "الأخلاق" مرّة جديدة في الميزان، كأن يكفي أن تكون أنثى لتُدان ولو بقتلها، ويكفي أن الفاعلين ذكور ليُبحث لهم عن تبريرات. النموذج صارخ هنا، لكن له نطاقاته المُصغرة والمولدة كل يوم في البيوت، الشوارع، الأماكن العامة ومؤسسات التعليم والعمل، فهل نلوم بدورنا النساء الذكوريات، أم نفكّر إذا كن يتعرضن لتوبيخ الأمهات والجدات عندما كان يعتدي عليهم الصبيان منذ الطفولة؟
أخيراً، يزيد تعرّف الإنسان على نفسه من قلقه: تغدو خاتمة كل جواب باباً مفتوحاً على أسئلة لا تنتهي حول الخير والشر فينا، والواقع أفظع من حكايا شارل پيرو الخرافية للأطفال (أشهرها ليلى والذئب).
فهل كلما نكبر في الوجود، نصغّر عالمنا حولنا؟ نتمسك بعلاقاتنا الأقدم ثم نذهب لنصطفي منها الأقرب؟ ننسحب نحو مكاننا النواتي ونعززه كمنطقة راحة وحيدة مضمونة.
وهل التجريد انعكاس للاستغناء يبلغه الفنان، كما الشخص العادي، مع نضج التجربة؟
صورة المقال لوحة "تكسير" لكاتبة المقال: إكليريك على كانفاس مغطاة ساتان، 140 ×70
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون