شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ذكرى درامية لا يُحييها المصريون في يوم النّصر... عن حادث المنصّة وما دار حوله

ذكرى درامية لا يُحييها المصريون في يوم النّصر... عن حادث المنصّة وما دار حوله

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 6 أكتوبر 202006:06 م

سبعة وأربعون عاماً مرّت على ذكرى نصر السادس من أكتوبر، في الحرب التي دارت رحاها عام 1973، بين مصر وإسرائيل، وكُتِبت بشأنها العديد من الكتب والأبحاث، وصدر على إثرها بضعة أفلام كلها تدور حول بسالة الجندي المصري في التصدّي لعدوّ اغتصب أرضه، بجانب فيلم وحيد، قدمه الفّنان الراحل أحمد زكي برفقة المخرج محمد خان، بعنوان "أيام السّادات"، وأرّخا في أحداثه مسيرة الرئيس محمّد أنور السّادات، من طفولته حتى اغتياله في حادث المنصة الشهير.

ومنذ ذلك الفيلم الصادر عام 2001، لم تتطرّق السينما المصرية من قريب أو بعيد لكواليس ذلك الحادث، رغم ما به من دراما ثرية ومُلهمة للكتاب، بل وتتوافق معها كلّ أركان السيناريو المعروفة، بداية من دافع الانتقام، مروراً باعتناق أبطال القصّة لعقيدة زعموا أنهم يذودون عنها، والعُقدة في مرحلة الوسط، انتهاءً بتحقيقهم مأربَهم، بل واعتبارهم أبطالاً مخلّدون في نظر البعض، لأنهم قتلوا الرئيس في ذكرى احتفاله بمنجزِه الوحيد!

مشهد عام لمصر من أعلى... هناك بلد يغلي

لم يهنأ السادات في حياته كرئيس للدولة المصرية، سوى في الأيام اليسيرة التي شهدت نصره في الحرب التي آزره فيها العدوّ قبل الحبيب. وفورَ التفاتِه نحو الوضع الداخلي، خنَق المجال العام سياسياً، وشرع في نهجه الاقتصادي الانفتاحي، الذي وصفه الاقتصاديون بأنه زاد من غنى الأغنياء، وحمّل الفقراءَ أعباءً فوق التي يحملونها، واشتعلت الفتنة الطائفية، فور إخراجه الإسلاميين من السّجون بهدف "ضرب العيال الشيوعيين واللي لابسين قميص عبد الناصر"، بحسب تعبيِره.

لم تهدأ مظاهرات الطلبة في الجامعات، أملاً في جوّ ديمقراطي، ومعيشة اقتصادية أفضل، والتي كانت وقوداً لانتفاضة الثّامن والتّاسع عشر من يناير عام 1977، التي وصفها الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" بأنها "شرخ في شرعية النظام".

وبعد عامين فقط، ذهب السّادات إلى إسرائيل، وعقد معها ــ برعاية أمريكية ــ سلاماً منفرداً، زاد من حدّة التوتر في مصر، وانقلب الجميع عليه، حتى التيار الإسلامي الذي رعاه وأطلق له العنان في البلاد، اعتبره مناصراً لليهود أعداء الله ورسوله.

الجوّ العام مهيأ تماماً للقتلة

"وكان مسرح الإسلام السياسي يتّسع، وكان اتّساعه يُفسح الطريق أمام موجة جديدة من العودة إلى الأصول الإسلامية. كان الإسلام هو الملاذ الأخير لكلّ هؤلاء الذي راحوا ـ في ظروف الفوضى الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي بدأت تسود مصر ــ يبحثون جميعاً عن يقينٍ مُطلق يعتصمون به في أجواء حافلة بمتناقضات العصر كلّه، ومتناقضات ما كان يجري في مصر بالذّات"، هكذا وصف الكاتب محمد حسنين هيكل بداية تفحش الجماعات الإسلامية في مصر، في كتابه "خريف الغضب"، الممنوع من النشر في مصر.

منذ الفيلم الصادر عام 2001، لم تتطرّق السينما المصرية لكواليس قتل السّادات، رغم ما به من دراما ثرية ومُلهمة،  بداية من دافع الانتقام، انتهاءً بتحقّق هدف القاتلين، بل واعتبارهم أبطالاً في نظر البعض

علا صوت الجماعات الإسلامية في مصر، وانتشرت مطبوعاتُهم الصحفية التي تنال من النظام الحاكم، مثل جريدة "الدعوة"، التي وقعت في يد الرئيس السّادات، فخرج منفعلاً في الخامس من سبتمبر عام 1981، وألقى خطاباً قاسياً، أعلن خلاله ندمَه على إخراجهم من السّجون، قائلًا: "أنا طلعت غلطان... كان لازم خلّيتهم في مكانهم". وليس هذا فحسب، بل أخذ السادات يسخر من كلّ مظاهر الإسلاميين في الشّارع، منها اعتباره أن المحجّبات يمشين "كالخيام المتحركة".

قبل ذلك الخطاب بليلتين فقط، كان النظام السّاداتي قد أجرى حملة اعتقالات موسعة، طالت الجميع، ليبراليين ويساريين وإسلاميين، وصل عددهم إلى 153، بحسب الصحف المصرية آنذاك، وثلاثة آلاف، وفق رواية الكاتب محمد حسنين هيكل، الذي كان ضمن المعتقلين.

قبضة الرئيس الحديدية تحذره من شرّ قد اقترب

جرت عادة الرئيس أنور السادات أن يحيي ذكرى نصره بين القوات المسلّحة، بإعداد عرض عسكري يشهده الجميع متلفزاً، لكن اعتقالات سبتمبر الموسّعة جعلت من تلك العادة أمراً في غاية الخطورة على حياته، ممّا حدا بوزير داخليته نبوي إسماعيل، الملقب آنذاك بـ"صاحب القبضة الحديدية"، أن يحذره يوم العرض، قائلاً: "اتصلتُ به مساء اليوم السابق للعرض، وأخبرته بمخاوفي من اغتياله على يدِ بعض الهاربين الذين لم يُضبطوا بعد، لكن الرئيس اعتبر أن خطابه الأخير كان تهديداً صريحاً لهم، ومن ثمّ هناك استحالة أن يُقدموا على أمرٍ كهذا".

ما قاله وزير الداخلية في لقاء تليفزيوني، أكّدته زوجةُ الرئيس الراحل، جيهان السادات، في لقاء مماثل، حين أشارت إلى أن نبوي إسماعيل أرسل إليها فيديو لمجموعة من شباب الجماعة الإسلامية يخططون لمقتل السادات، لكنها لم تُطلع زوجها عليه، وكلّ ما فعلتْه أن حذّرتْه من عدم ارتداء القميص الواقي؛ لكنه أصرّ على حضور العرض بدونه، قائلًا: "القميص يحمي صدري. ماذا لو ضربوني في رأسي؟!".

مخاوف وزير الداخلية كانت في محلها تماماً، أو بالأحرى تؤكّد صدق مصادره، ولعلّ في نفس السّاعة التي كان يحذر فيها الرئيس بعدم الذهاب للعرض، كان هناك خمسة أفراد من الجماعة الإسلامية، يضعون اللمسة النهائية لخطة اغتيال الزعيم، وهم: خالد الإسلامبولي (ملازم أول)، وعطا طايل (مهندس احتياط برتبة ملازم أول)، وحسين عباس (رقيب متطوع بالدفاع الشعبي، وحاصل على المركز الأول في الرّماية بالقوات المسلحة)، وعبد الحميد عبد السّلام (نقيب بالدفاع الجوي)، ومحمد عبد السلام فرج (عضو بارز في الجماعة الإسلامية).

دافع انتقامي وثلاثة أسباب شرعية

في كتاب "محاكمة فرعون" الممنوع نشره بمصر، يقول مؤلفه شوقي خالد، محامي المتهم الثاني في قضية اغتيال السادات، إن قرار القتل لم يأتِ إلا بفتوى صريحة من مفتي الجماعة الإسلامية آنذاك الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي أجاب على سؤال أفراد الجماعة: "هل يحلّ دمُ حاكمٍ لا يحكم طبقاً لما أنزل الله؟" بـ"نعم. لأنه قد خرج إلى دائرة الكفر".

تلك الإجابة ألهبت حماسة الملازم أول بالجيش المصري خالد الإسلامبولي للانتقام من مُعتقِل شقيقِه محمّد، ورفاقهما في الجماعة، لكنه لم يخطر بباله أن ينفذ جريمته داخل مقرّ عمله، حتى أتته الفرصة على طبقٍ من فضّة، حينما أجبره قائده في الجيش، الرائد مكرم عبد العال، على الاشتراك في العرض العسكري، رغم اعتراض خالد بحجّة أنه هيأ أموره لقضاء إجازة عيد الأضحى الذي سيحلّ بعد يومين من العرض!

جرت عادة السّادات أن يحيي ذكرى نصرِه بين القوات المسلّحة، بإعداد عرض عسكري يشهده الجميع متلفزاً، لكن اعتقالات سبتمبر الموسّعة جعلت من تلك العادة أمراً في غاية الخطورة على حياته، ممّا حدا بوزير داخليته أن يحذره

مدفوعاً بغريزة الانتقام لشقيقه محمد المعتقل في الثالث من سبتمبر، وثلاثة أسباب أخرى سردها خالد في التحقيقات معه، رداً على سؤال: "لماذا قتلت الرئيس السادات؟"، قال: "لأن القوانين التي يجري بها الحكم في البلاد لا تتّفق مع تعاليم الإسلام، وأنه أجرى صُلحاً مع اليهود، واعتقل علماءَ المسلمين واضطهدهم وأهانهم".

مشهد النهاية

يحكي خالد في التحقيقات التي سردها المحامي شوقي في كتاب "محاكمة فرعون"، أنه في ليلة الأحد، الموافق 4 أكتوبر 1981، استقلّ برفقة عبد الحميد، وعطا، وحسين، سيارة فيات (124)، وذهبوا إلى حيّ مدينة نصر، لمعاينة مكان الحادث، وراحوا يقيسون المسافة بين المنصة والخط الموازي لها، بل وأعدّوا "بروفة" على كيفية إلقاء القنابل على مسافات بعيدة، مستخدمين الحجارة للتمرين.

وفي مساء اليوم ذاته، ترك خالد رسالة لشقيقته، قال فيها: "أستودعكم الله... وأرجو أن تغفروا لي وتسامحوني، فقد أسبّب لكم جميعاً المتاعب... إن الله قد هدانا إلى هذا العمل، والاستشهاد في سبيل الله جمَعنا، وأنتم في الجنة إن شاء الله... إن الحاكم قد طغى وتجبّر، ولا خلاص للأمة إلا بقتلِه". ثمّ خصّ أمّه السيدة قدرية الإسلامبولي، بقوله: "أمّي لا تحزني، فإننا شهداء بإذن الله".

بحيلة روتينية، استطاع خالد إدخال رفاقه الثلاثة ضمن وحدته العسكرية، مستغلاً هيئتهم كجنود بالأساس، وقضى الأربعة ليلة الاثنين في حذر تام، لدرجة أنهم كانوا أول المستيقظين لحظة جهر أحد الجنود بأذان الفجر، ثمّ في خِلسة، عمّروا أسلحتهم بـ"إبر ضرب النار، والذخيرة الحية"، وفق شهاداتهم في الحاكمة.

وظهرت شمس اليوم الموعود، وبدأ العرض العسكري، ويحكي المتهم عطا طايل لمحاميه: "رأيت أن كلّ شيء أصبح جاهزًا الآن للتنفيذ. الرشاش ممتلئ بذخيرة الموت، وكذلك البنادق، والقنابل الأربع نصفها في كابينة العربة، والنصف الآخر في صندوقها".

لحظة العرض، كانت الطائرات المحلقة في السماء تسحب العيون، وفق تعبير صاحب "محاكمة فرعون". في نفس اللحظة، كانت العربة المُعدة لتنفيذ العملية بما تحمله من ذخيرة حية، تتحرك على يسار المنصة، ويجهر صوت المذيع الداخلي للعرض: "والآن تجيء المدفعية. إنهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدىً"، وعند منتصف المنصة، توقفت العربة، وبدأ الهجوم.

الهرج الذي سيطر على المشهد، حفّز عبد الحميد عبد السلام على القفز داخل المنصة ليتأكد أن الرئيس السادات قد مات، فيقول في التحقيقات: "كنتُ مُشهِراً سونكي بندقيتي، ومستعداً لطعنِ صدرِ وبطنِ السادات إذا كان لا يزال حياً؛ لكني وجدته جثةً هامدة".

وفي الخامس عشر من أبريل للعام التالي على الواقعة 1982، نُفّذ حكم الإعدام على الخمسة الضالعين في القتل، وبالأحكام الشّاقة المؤبدة على بقية مساعديهم الهاربين، بعد إلقاء القبض عليهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard