بدأ كل شي، مع منشور على الفيس بوك للصديق الكاتب دلير يوسف عن "الحرية والبطاطا"، وقبل ذلك بوقت طويل جداً، كنت قد قرأت معلومة في إحدى الصحف، تفيد أن أعداد الاشتراكات للهاتف الجوال في المغرب، تجاوزت في العام 2000، الاشتراكات في خطوط الهاتف الثابت. وللتأكد مما يجول بخاطري، أجريت مقارنة لنفس العام مع فرنسا والمملكة المتحدة، ووجدت أنها كانت ما تزال أقل بأربعة ملايين في الأولى وثمانية ملايين في الثانية، لصالح الهاتف الثابت.
يقول المنشور سابق الذكر: "الحرية تعني أنك تقبل/ين أن يسخر الآخرون من معتقداتك، غير هيك بيبطل اسمها حريّة وبيصير اسمها بطاطا". وبغض النظر عن التعليقات التي شددت على أهمية البطاطا في حياتنا، ولا سيما في أوروبا، كان الملفت للانتباه، حالة النقاش الفلسفي لأفكار مؤسسة في المجتمع، تداعى له مجموعة من المعلقين على المنشور، وتركز تحديداً على الفرق بين حرية النقد والسخرية من المعتقدات، والتساؤل عن سقف الحرية ومتى تتحول السخرية إلى تنمر. طبعاً، كان هناك من رفض الفكرة من أساسها، شاتماً الحرية إن كان هذا هو الثمن، وهناك من وافق عليها كما هي.
ما الفرق بين حرية النقد والسخرية من المعتقدات؟ وهل هناك سقف للحرية يمنع السخرية من أن تتحول إلى تنمر؟
بين التنمر والسخرية
تتلخص وجهات النظر المتفقة مع المنشور، رداً على من ادعى أن الخيط رفيع بين التنمر والسخرية، ويمكن الخلط بينهما، على أن الفرق واضح جداً، فالتنمر هو انتقاد للأشخاص بحد ذاتهم، أشكالهم، ألوانهم، جنسهم، أي أمور شكلانية لم يختاروها بأنفسهم، أما السخرية فهي من الفكرة-المعتقد، بكونها أمراً قابل للتغيّر، ويتم اعتناقه عن قناعة أو تأثر بالمجتمع أوالتربية.
وحيث جادل بعض المعلقين بأن ضرر السخرية أكبر من فائدة النقاش الذي تبدأه، وقد تؤدي إلى ردود أفعال عكسية تجاه الموضوع مثار النقد، رأى آخرون أنها اختبار لمدى هشاشة إيمان الشخص وعقيدته، التي يمكن أن تهتز بسبب تعليق أو رسمة، وأن تطرف الشخص في الدفاع عن مقدسه بشكل عنيف، لفظياً أو جسدياً، يشير إلى خلل في النص يجب النظر إليه بتعمق، والبحث في تأثيراته النفسية التي قد تدفع بالإنسان استخدام غرائزه الأولية بدل عقله.
وهنا يمكننا ملاحظة كيف أن السخرية في المجتمعات المتشبعة بفكرة الحرية والرأي الآخر، أصبحت آلية نقاش تمتص الكثير من الانفعالات، التي قد تكون عنفية ومتفلتة في حنقها المتعصب لفكرة، شخص أو نظرية ما، وتحوّلها إلى ابتسامات تخفف من حدة التجهم الإيديولوجي أو الديني، لتمكن المتلقي في هذه الحالة من النظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة، دون الإحساس بالتهديد من هذا الآخر المنتقد. إنها لعبة بالكلمات بدل الأسلحة، تسعى لتحريض الدماغ، سلباً أو إيجاباً، لخلق نسق جديد من التفاعل والتفكّر.
أصبحت السخرية في المجتمعات المتشبعة بفكرة الحرية والرأي الآخر لعبة بالكلمات بدل الأسلحة، تحرض الدماغ لخلق نسق جديد من التفاعل والتفكر وتمتص الكثير من الانفعالات العنيفة الناجمة عن التعصب لفكرة ما
لكن بالنظر إلى السياق يتضح أنها، أي السخرية، نتيجة لحالة من التطور الفكري والسياسي لتلك المجتمعات، مؤسَّس على تعليم يترك مساحات كبيرة للنقاش، وثقافة قراءة واستماع. فإحدى المعضلات العميقة التي تعيشها بلداننا العربية، هي انعدام وجود لمساحة نقاش وتفكير حقيقية على أرض الواقع، تمكّن الناس من الجدال وطرح أفكارهم بحرية، ما يؤسس بشكل جوهري، مع الوقت، لفكرة التقبل واعتماد الكلمة للحوار، ولتنسل السخرية من خلالها وتقضم أطراف المقدسات، خاصة إن كان إنتاج العلم يسير بشكل مواز ليدحض الغيبي فيها.
وكنتيجة لافتقارنا لهذه الإمكانية، يتم اعتماد الفضاء الافتراضي الذي تحول مع الوقت ليصبح الأولى بالطروحات والأفكار، كمساحة آمنة بعيداً عن بطش الأعراف والسلطات والأديان. وهنا تبدأ الإشكالية في سؤال الأثر، أي ما مدى تأثير كل هذا الجنوح الافتراضي فعلياً، من حوالي عشر سنوات، على التطور الفكري والثقافي لمجتمعاتنا؟ هل نحن الآن في مرحلة انتقالية ستثمر تحولات مفاجئة مع أجيال جديدة؟ أم هل يعزز كل هذا التمترس وراء الشاشات للنقاش والصراخ والشتم، حالة المراءاة والنفاق الاجتماعي الذي نعيشه؟ مع العلم بأن العديد من التعليقات على المنشور، عبرت عن رفضها الانخراط في نقاشات من هذا النوع بالعادة على الفيسبوك، لما قد تطور إليه من تسفيه للموضوع، وتتحول إلى حوار طرشان في النهاية.
دور "اليسار العربي"
يبقى أن نظرة تاريخية إلى ما قد نسميه اليسار العربي تيمنا بـ "الملهم" لينين، عملية حرق مراحل في التطور السياسي والاجتماعي لمنطقتنا، لا تبشر بالخير. فالقومية أُعِيدت إلى حضن الإسلام، وقضت الاشتراكية على الإبداع، وجعلت من الإصلاح الزراعي "حلقة دبكة عفوية" للبعث وأشباهه، كما سُحِقت الديمقراطية والعلمنة تحت أقدام العسكر، على فضائيات التطرف الديني خطاباً، ومن جماعة الإخوان المسلمين تطبيقاً، في كل محاولاتها البائسة للحكم. فلا جدوى من التطبيق المشوه والمبتسر للإيديولوجيات والأفكار، من غير أرضية لوعي جماهيري إنساني، ثقافي وفني، منطلقة من بنية المجتمع الذاته، نتيجة لحراك داخلي وتفاعل بين طبقاته، تؤدي عبر الزمن، إلى معرفة أصيلة وعقد اجتماعي لا يُستخدم للتسبيح!
يبدو أن اليسار العربي حرق مراحل في التطور السياسي والاجتماعي لمنطقتنا، فالقومية أُعِيدت إلى حضن الإسلام، وقضت الاشتراكية على الإبداع، وسُحِقت الديمقراطية والعلمنة تحت أقدام العسكر
إن أعداد اشتراكات الهاتف الجوال في المغرب ارتفعت بسرعة كبيرة، وتخطت اشتراكات الهاتف الثابت، ليس فقط لرخص هذه التكنولوجيا الحديثة قياساً بسابقتها، ولكن بالأساس، لقلة أعداد الخطوط الهاتف الثابت المتوفرة أصلاً، ما ينطبق على معظم البلدان العربية، ذلك لأننا مستهلكون ومتلقون لنتاج الحضارة المعاصرة.
إننا متأخرون زمنياً، وهذه حقيقة وجودية أسبابها عديدة ومتشعبة، ولكنها تؤسس بشكل تراكمي لحالة متجددة من الخسارات والخيبات، لا يمكن البدء بالخروج منها إلا بطبقة من مثقفين وقادة رأي، لديهم الشجاعة الكافية لاتخاذ قرارات صعبة، للسماح بولادة قيصرية لواقع مختلف، قد يقود يوماً ما لحياة أفضل، لا تكون فيها القناعة الأساسية ما ورد في أحد التعليقات على المنشور: "البطاطا بتسكت الجوعان... الحرية ما بتشبع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...