يسجل الشباب السوري مؤخراً معدلات مرتفعة في اضطراب عاطفي لم تعهده سابقاً سجلات الطب النفسي، ولم يجد محررو تلك السجلات سبباً لزيادته سوى التداعيات الاقتصادية للحرب والجائحة: الفيلوفوبيا، أو رهاب الحب.
هو اضطراب نفسي يجعل المصاب به يهرب من الحب والارتباط، فيتجنب أي شخص يحاول التقرّب منه عاطفياً. وبمجرد أن يفكر في خوض علاقة عاطفية، تتحرك الدفاعات النفسية في داخله، فيهرع مبتعداً عن الطرف الآخر وينسف فكرة الارتباط من حياته.
فالحب يرتبط بالاستقرار، ولكن هل ينعم مواطن سوري بالاستقرار اليوم على أي صعيد كان؟ حربٌ وعوزٌ ثم كورونا... أزمات وضعت في رصيد السوري إرثاً وافراً من المشاكل لربما تحتاج قرناً من الزمن لتداركها.
"نرصده بكثرة"
الدكتورة ميلانا زين الدين، الحاصلة على دكتوراه في علم النفس، ومعالجة نفسية تقول لرصيف22: "رغم أن الفيلوفوبيا غير مذكور في الدليل التشخيصي للأمراض النفسية، لكننا اليوم أصبحنا نرصده بكثرة في العيادات النفسية".
وتشرح أن "أعراضه تتنوّع بين العزلة، وتجنّب الأماكن التي يرتادها العشاق، والقلق والهلع الشديد عند ورود فكرة الارتباط، وبين العلامات الجسدية التي تظهر على المصاب في مراحل متقدمة مثل التعرق والغثيان والرجفة وسرعة التنفس وضيق التنفس والتشنج العضلي وتسارع ضربات القلب".
تضيف زين الدين التي تدير عيادة في ريف دمشق: "الفرد يعلم أن خوفه هذا غير منطقي ومبالَغٌ فيه، ولكنه لا يتقن السيطرة عليه، وقد يلجأ إلى التصعيد كنوع من التعامل مع هذه المشاعر فيقرر الرهبنة أو الاعتكاف أو التصوف، أو قد يلجأ إلى العدوانية وكره الحب والمحبين والسخرية من الارتباط، كحيلة دفاعية غير واعية للتعامل مع صراعاته الداخلية".
ناديا (اسم مستعار لشابة تبلغ من العمر 26 عاماً)، طالبة في كلية الإعلام ومقيمة في طرطوس، تعتبر أن الحبّ أمر مزيّف، ولا يوجد شاب عربي يستحق مشاعرها، وتظهر عليها أعراض الفيلوفوبيا بمجرد أن يبوح لها أي شاب بمشاعره، رغم أنها لم تدخل في علاقة سابقة أبداً.
تقول لرصيف22: "أرى نفسي مترفعة عن العلاقات في مجتمعاتنا الشرقية، لا بل أشعر بالامتعاض عندما أرى عاشقين يتبادلان الحب بطريقة مبتذلة أمام الناس، وأعمل على تعويض الفراغ العاطفي الذي أعيشه بالتنزه مع زميلاتي ومشاهدة الأفلام، غير الرومنسية بالطبع".
"لا أمان، لا ثبات"
تعرّض السوريون في السنوات العشر الأخيرة لألمٍ يفوق طاقاتهم. دمّرهم ما جرى ويجري حولهم نفسياً وجسدياً، وحتى الآن لم يستطع المجتمع السوري تلبية احتياجات أبنائه المادية، فكيف سيلتفت إلى حاجاته النفسية التي جعلها في المرتبة الثانية؟
تؤكد الطبيبة زين الدين التي تمارس المهنة منذ حوالي تسعة أعوام أن المواطن في البلاد التي تعيش الصراعات والأزمات السياسية والاقتصادية يعيش حالة دائمة من عدم الاستقرار، ولا يشعر بالأمان والثبات، وأن وجود تلك العوامل في سوريا شكل أرضية لرهاب الارتباط والحب، وزاد من تعقيدات المشكلة وكأنّ العالم الداخلي والخارجي للفرد اتفقا على أن يبقى وحيداً إلى الأبد.
يعاني سهيل (اسم مستعار لشاب يبلغ من العمر 36 عاماً ويقيم في ريف دمشق) من الفيلوفوبيا منذ 10 سنوات، ويقول لرصيف22: "منذ بلوغي سن الرشد، أكره العلاقات العاطفية الجدية، وأميل إلى العلاقات العابرة التي تخلو من المسؤولية والالتزام، فالعلاقة العاطفية الجدية تتطلّب الكثير من المسؤوليات، وأنا شخص معيل لعائلتي، ولست جاهزاً لتحمل أعباء أخرى".
الفيلوفوبيا أو رهاب الحب... هو اضطراب نفسي يجعل المصاب به يهرب من الحب والارتباط، فيتجنب أي شخص يحاول التقرّب منه عاطفياً، وبمجرد أن يفكر في خوض علاقة عاطفية، تتحرك الدفاعات النفسية في داخله، فيهرع مبتعداً عن الطرف الآخر
ويضيف الشاب الذي يعمل في محل تجاري في دمشق: "عندما أقترب من فتاة، تكون الأمور جيّدة في بداية الأمر، لكن بمجرد تطور العلاقة ينتابني شعور بالارتباك، وعندما يحين موعد القيام بخطوة رسمية، تبدأ أعراض الرهاب بالاستفحال... أشعر بقلق شديد، وأرق مضن، ودوار وتسارع في ضربات القلب".
مؤخراً، أنهى سهيل علاقة بفتاة استمرت حوالي سنة ونصف، رغم أنها لم تطلب منه الإقدام على أي خطوة رسمية، أو حتى زيارة أهلها. بدأ يشعر بالقلق مع حلول موعد القيام بهذه الخطوات، ويعلّق: "شعرت بمسؤولية كبيرة تجاهها، لذلك كان لا بد من حسم القرار، أن أبقى معها ونستمر، أو أن أنفصل عنها لتجد الرجل المناسب، وطبعاً اخترت الخيار الثاني".
لا يختلف حال سهيل عن حال طارق (اسم مستعار) الذي يكبره بثلاثة أعوام ويقيم في حمص، ويؤدي خدمة التجنيد الإلزامي منذ سبع سنوات. يقول لرصيف22: "ظروف الحرب وقضائي كل هذه السنوات في خدمة العلم، وظروف جائحة كورونا أثّرت بشكل كبير على وضعي المعيشي وفاقمت المشكلة، فالأعباء المادية زادت بشكل كبير، وجعلتني غير قادر على إعالة نفسي حتى، فكيف سأرتب على نفسي عبئاً جديداً آخر؟".
ويضيف: "أنا شخص مسؤول ولست اتكالياً، لكن الحديث عن الارتباط والزواج مسألة أخرى. أشعر أنني وهن العزيمة أمامها، وأنها ستقضي عليّ، وهذا ما حصل في العلاقة الأخيرة. انتصر الرهاب عليّ. أقسم أنني سأقدم على الزواج بعد أن أتسرح من الجيش، وأجد العمل المناسب".
"وأتت جائحة كورونا"
بحسب المراجعين لعيادة الطبيبة النفسية، يتبيّن أن الإناث أكثر عرضةً لرهاب الحب، وذلك لأسباب مختلفة وبعيدة قليلاً عن الأوضاع الاقتصادية. انتقلت عدوى الفيلوفوبيا الناجمة عن العوز إليهن.
هذا حال عبير (اسم مستعار لشابة تبلغ من العمر 31 عاماً)، خريجة موارد بشرية ومقيمة في دمشق وتعمل في شركة تجارية. أصيبت بالفيلوفوبيا بعد علاقة عاطفية استمرت سنتين، وانتهت بسبب تردي أوضاع حبيبها المعيشية.
"أعراضه تتنوّع بين العزلة، وتجنّب الأماكن التي يرتادها العشاق، والقلق والهلع الشديد عند ورود فكرة الارتباط، وبين العلامات الجسدية التي تظهر على المصاب في مراحل متقدمة مثل التعرق والغثيان والرجفة وسرعة التنفس وضيق التنفس والتشنج العضلي وتسارع ضربات القلب"
تقول لرصيف22: "كنّا سعيدين جداً، إلى أن أتت جائحة كورونا. توقف عن العمل، ولم يعد يجني أي أجر، وهنا بدأت تصيبه حالة من النفور من كل شيء، إلى أن انتهى بنا المطاف، كل في طريقه".
اختبرت عبير الفيلوفوبيا عندما قررت الدخول في علاقة جديدة. تقول: "لم أتقبل ذلك أبداً، مع أنه كان شخصاً مناسباً كزوج، وكان واضحاً ومتحمساً جداً، لكنني لم أشعر بأي مشاعر تجاهه، واستمر النفور وانتقل إليه، نتيجة برود مشاعري. انسحبت".
ترى عبير أن مصير أي علاقة هو الفشل، لذلك أمامها خياران، الأول هو الزواج بمنطق الصفقة التجارية دون أي مشاعر، "كي أحمي نفسي في هذا المجتمع من العوز المادي ونظرات الانتقاص"، والثاني هو خوض غمار علاقة محكومة بالفشل. والخياران بالنسبة إليها مرفوضان.
عوامل نفسية متداخلة
تكمن المشكلة في هذا النوع من الرهاب في أن الشخص لا يعي أنه مصاب ويعتبر أن حالته طبيعية جداً، بحسب الطبيبة زين الدين التي تؤكد أن المريض لا يطلب المساعدة ويجتاز سن الزواج والشباب وهو متمسكٌ بحريته كفرد.
وعن أكثر الحالات عرضة للإصابة بالفيلوفوبيا، تقول إنهم الأشخاص الذين تعرضوا لعلاقات عاطفية فاشلة سابقاً، والأشخاص الذين يشعرون بالضعف وقلة الثقة بالنفس، وأولئك الذين يترقبون بشكل دائم شعور الألم، ويظنون أن كل سعادة ستنتهي بخيبة وأسى، وقد يكون السبب هو الخوف من الفشل أو الخيانة. وفي حالات معيّنة، يأتي طلاق الوالدين أو خلافهما الدائم ضمن الأسباب.
"أسأل نفسي دائماً، لماذا أكبح هذا الشاب القادم نحوي رغم أنني معجبة به؟".
تقول رهام (اسم مستعار لشابة تبلغ من العمر 27 عاماً)، خريجة إعلام، ومقيمة في دمشق، وتعمل في إذاعة سورية: "أسأل نفسي دائماً، لماذا أكبح هذا الشاب القادم نحوي رغم أنني معجبة به؟ لا أجد الإجابة، لكنني أفضل دائماً أن أكون وحيدة وخالية القلب. عشت سابقاً علاقتي حب فاشلتين. كنت دائمة الشعور بالقلق والارتياب الناجم عن هذا الرهاب في هاتين العلاقتين، لكنني قاومت وقررت الاستمرار، وفي النهاية، حصل المتوقع: انتهت العلاقتان نهاية مأساوية".
في حديثها عن الأعراض الجسدية تقول رهام: "تتسارع ضربات قلبي كلما اقترب مني أحد، لكن ليس ذلك التسارع الخاص بالعشاق، لا بل تسارع ناجم عن الخوف والهلع. هذا الخوف قادر على قمع أي رغبة في داخلي نحو الارتباط والعلاقة العاطفية".
استشارت رهام طبيباً نفسياً. "لم أشعر بأي تحسن، رغم أن الطبيب وصف لي العديد من العقاقير الطبية. ما زلت أعاني، ولم أتخلص من مشكلة الأرق تماماً، إلا على يد شيخ، قام بصنع ‘حجاب’ لي، وضعته تحت الوسادة، وأصبحت أخلد إلى النوم".
تقاليد الشرق حاضرة
بغضّ النظر عن العمر والجنس والخلفية الاجتماعية أو الاقتصادية، قد يصبح الفرد ضحيةً لفوبيا الارتباط، لكن بحسب الطبيبة زين الدين يلعب الدين والعادات والتقاليد دوراً مهماً في فكرة الفرد عن الارتباط، وتضيف: "منذ أن يولد الإنسان يتم تعليمة كيف يستقل بنفسه وجسده وفجأة من خلال الوعي الجنسي يجد الفرد نفسه أمام فكرة الاندماج الجسدي والجنسي وأحياناً النفسي وقد لا يكون متهيئاً لها".
رنيم (اسم مستعار لشابة تبلغ من العمر 32 عاماً)، خريجة هندسة ديكور، ومقيمة في دمشق، وتعمل في شركة تجارية، عاشت علاقة حب مثيرة، لكنها انتهت نهاية قاسية جداً. انفصلت عن حبيبها قبل العرس بخمسة أيام فقط.
"فقدت الأمل في الحب والارتباط، وشعرت أن منظورنا للعلاقات في المجتمعات العربية سخيف وسطحي".
تقول لرصيف22: "فقدت الأمل في الحب والارتباط، وشعرت أن منظورنا للعلاقات في المجتمعات العربية سخيف وسطحي، فكيف يمكن لعلاقة حب عمرها أكثر من 10 سنوات، أن تنتهي هكذا؟".
مضت أربع سنوات على انفصال رنيم عن خطيبها، لكنها لا زالت تشعر بأعراض الفيلوفوبيا بقوة، ولا تتقبل فكرة الارتباط. "لا أقوى على التقرب من أي شاب يرغب بالزواج مني، لا بل أصاب بحالة من البكاء الهستيري بين الحين والآخر، وأشعر بحرارة عالية ودوار وتسارع في ضربات القلب، كلما اقتربت من بدء أي علاقة عاطفية، وبمجرد أن يتحدث معي شاب على الهاتف، أو على مواقع التواصل الاجتماعي طالباً علاقة".
رنيم التي تتناول حتى الآن العقاقير الطبية ترى أن عبارة "علاقة حب سعيدة"، عبارة مثيرة للسخرية، فلا يوجد شيء اسمه حب في الحياة. "ربما في السينما والدراما، لكن في الواقع، ذلك غير متاح".
فسحة من الحب
علاج رنيم وكل الحالات السابقة ممكن حسب الطبيبة زين الدين. تقول: "العلاج ممكن ومتاح من خلال جلسات العلاج النفسي وفق التقنيات المختلفة المعرفية والسلوكية والتحليلية، لكن الخطوة الأولى هي في استبصار ووعي المشكلة، وهذه مشكلة، لأن مريض الفيلوفوبيا قلما يعترف بوجودها. فالخطوة الأولى هي إقناعه بوجود المشكلة، ومن ثم تطبيق العلاج السلوكي المعرفي المناسب، أو وصف بعض العقاقير والأدوية في الحالات الشديدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...