شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
من أذربيجان... خرافة هولاكو وإرث المغول الحضاري

من أذربيجان... خرافة هولاكو وإرث المغول الحضاري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 5 أكتوبر 202003:02 م

في عام 654 هـ، استولى المغول على قلعة آلموت الشهيرة في إيران، ووقع حينها اللقاء بين الأمير المغولي هولاكو، حفيد جنكيز خان، والعالم الشيعي الإمامي، نصير الدين الطوسي.

هذا اللقاء تمخض في السنوات التالية له عن نتائج في غاية الأهمية والتأثير في العالم الإسلامي، على كل من المستويين، السياسي والعلمي.

تمكن الطوسي، وهو العالم المسلم المتميز في مجال العلوم الفلسفية والتجريبية بعد سنوات قليلة من اجتماعه بهولاكو، من أن يدفعه دفعاً لتشييد مرصد فلكي كبير في مدينة مراغة في أذربيجان، ليتحول هولاكو من مجرد أمير حرب، مغرم بالسياسة والغزو، إلى واحد من أهم رعاة العلوم في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي.

كانت مدينة مراغة في هذا العصر تابعة لبلاد أذربيجان، التي كانت جزءاً من الدولة الإيليخانية التي أسسها هولاكو بعد اجتياحه المشرق الإسلامي. وقد شكّل العنصر التركماني الأذري العنصر السكاني الغالب فيها.
وفي العصر الحديث، بعد ترسيم الحدود السياسية، أصبحت مراغة واقعة ضمن حدود الدولة الإيرانية، رغم غلبة العنصر السكاني الأذري، الذي لطالما طالب بالانفصال عن طهران والانضمام لدولة أذربيجان، لتأسيس دولة أذرية- تركمانية كبرى.

قائد مغولي وعالم مسلم: في آلموت وقع اللقاء

في بدايات القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، توحدت القبائل المغولية تحت قيادة تيموجين، الذي اشتهر فيما بعد باسم جنكيز خان، واجتاحت تلك القبائل الرعوية مساحات واسعة من قارة آسيا، ولم يمر الكثير من الوقت حتى حطمت الدولة الخوارزمية في آسيا الوسطى وغرب إيران.

توقفت موجة التوسعات الحربية المغولية في الأراضي الإسلامية لما يقارب الثلاثين عاماً بعد وفاة جنكيز خان، وجرى استكمالها في عهد حفيده، منكو خان، وذلك عندما أعدّ جيشاً قوياً بقيادة أخيه هولاكو، وأمره بالزحف على قلاع الحشاشين الواقعة في مناطق الطالقان وقهستان والرودبار في إيران.

صدع هولاكو بالأمر من فوره، ونجح في الاستيلاء على ما يقرب من خمسين قلعة من قلاع الحشاشين المنيعة، وكانت قلعة آلموت، التي استولى عليها في 654 هـ، أهم تلك القلاع على الإطلاق، لما عُرفت به من مناعة وتحصين.

ارتبط اسم الإمام الشيعي نصير الدين الطوسي بهولاكو منذ لحظة سقوط قلعة آلموت بأيدي المغول، خاصة بعد أن دفعه لتشييد مرصد فلكي كبير في مدينة مراغة في أذربيجان ليصبح بذلك واحداً من أهم رعاة العلوم في القرن السابع الهجري

كان العالم الشيعي الإمامي نصير الدين الطوسي متواجداً في قلعة آلموت في تلك الفترة، ومن غير المعروف على وجه الدقة سبب وجوده في القلعة، إذ تذكر بعض المصادر أنه كان شيعياً إسماعيلياً، وأنه كان يقوم بالتدريس لأهل القلعة، فيما تذكر مصادر أخرى أنه كان شيعياً إثنا عشرياً، وأنه كان محبوساً في القلعة. وبغض النظر عن تلك الاختلافات، فإن الطوسي قد اتصل بخدمة هولاكو منذ لحظة سقوط آلموت، ورافقه فيما بعد في مسيرته إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، وتنسب إليه الكثير من المصادر التاريخية الإيعاز إلى هولاكو بغزوها.

الخرافة سبب لتأسيس أهم مؤسسة علمية

من الغريب أن بناء مرصد مراغة، وهو واحد من أهم المؤسسات العلمية في العصور الوسطى، يعود بالأساس إلى سبب خرافي غير علمي على الإطلاق، ألا وهو الاعتقاد بالتنجيم ومعرفة الغيب والطالع. وقد تحدثت الكثير من المصادر التاريخية عن اعتقاد هولاكو بالتنجيم، وأنه كثيراً ما عمد إلى سؤال المنجمين والعرافين لمعرفة المستقبل والتنبؤ بما سيحدث في المعارك والحروب التي سيخوضها ضد أعدائه.

عرف نصير الدين الطوسي، صاحب الخبرات الواسعة في علم الفلك، منذ اللحظة الأولى للقائه بهولاكو، أن مسألة التنجيم تحديداً هي نقطة ضعف الأمير المغولي المظفر، ومن هنا فقد عمل على الاستفادة من خبراته العلمية بكل وسيلة ممكنة، لرفع مكانته في بلاط هولاكو من جهة، ولتطويع القدرات المغولية الهائلة في سبيل إحداث ثورة علمية حقيقية، من جهة أخرى.

استفاد نصير الدين الطوسي، صاحب الخبرات الواسعة في علم الفلك، من ولع هولاكو  بمسألة التنجيم، فسخر علمه ليرفع مكانته في بلاط هولاكو وليتمكن من تطويع القدرات المغولية لإحداث ثورة علمية حقيقية

وفقاً لما ذكره محمد أمين بن فضل الله المحبي، في كتابه "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر"، فإن هولاكو لما لقي نصير الدين الطوسي للمرة الأولى، اتهمه بالكذب والجدل وحبسه، فأخبره الطوسي بأن خسوفاً سوف يحدث للقمر في ليلة بعينها، وأخبره أنه قد عرف ذلك بحسابات فلكية دقيقة لا يمكن أن تخيب، ولما وقع الخسوف بالفعل في الليلة المحددة، كان هولاكو نائماً من جراء احتسائه للخمر، فطلب الطوسي من المغول أن يحدثوا ضجيجاً عالياً حتى يظهر القمر، ففاق هولاكو من سكرته وعرف صدق الطوسي، فأطلق سراحه وقربه منه وعينه وزيراً في بلاطه.

أيضاً يذكر محمد بن شاكر الكتبي في كتابه "فوات الوفيات"، أنه لما أراد الطوسي بناء مرصد مراغة، وطلب الدعم من هولاكو، سأله الأمير المغولي: "هذا العلم المتعلق بالنجوم ما فائدته، أيدفع ما قدّر أن يكون؟"، فقال له الطوسي: أنا أضرب لمنفعته مثالاً، الخان يأمر من يطلع إلى أعلى هذا المكان ويدعه يرمي من أعلاه طست نحاس كبيراً من غير أن يعلم به أحد، ففعل ذلك فلما وقع كانت له وقعة عظيمة هائلة روعت كل من هناك وكاد بعضهم يُصعق، وأما هو وهولاكو فإنهما ما تغير عليهما شيء لعلمهما بأن ذلك يقع، فقال له: هذا العلم النجومي له هذه الفائدة: يعلم المتحدث فيه ما يحدث فلا يحصل له من الروعة والاكتراث ما يحصل للذاهل الغافل عنه، فقال: لا بأس بهذا، وأمره بالشروع فيه".

في سنة 657 هـ تحديداً، أقنع الطوسي هولاكو بأن يبدأ حملة تمويل ضخمة لبناء أكبر مرصد فلكي عرفه الشرق في هذا الوقت، واختار الفلكي الفارسي أن يشيد مرصده فوق هضبة عالية في منطقة أذربيجان في شمالي إيران.

الخطوة الأهم التي قام بها هولاكو، أنه قد خصص مجموعة من الأوقاف على هذا المرصد، وهو الأمر الذي أتاح استقدام خيرة العلماء والفلكيين المسلمين من شتى البقاع والبلدان، وبعد خمسة عشر عاماً اكتمل بناء المرصد واكتملت الأجهزة والأدوات الفلكية فيه، كما صار ملتقى لأهم الرياضيين القادمين من أقاصي المشرق والمغرب.

المرصد والمكتبة

عرفت الحضارة العربية الإسلامية بناء المراصد منذ القرون الأولى، وكانت للمرصد أسماء متعددة، ومنها على سبيل المثال "بيت الرصد" أو "الرصد خانة". الفائدة الأهم لأي مرصد، تمثلت بالمقام الأول في إعداد الزيج، وهي عبارة عن مجموعة من الجداول الفلكية التي جرى إعدادها على درجة عالية من الدقة، وسُجلت فيها حركة الكواكب والأجرام السماوية.

يمكن القول إن مرصد مراغة لم يكن مجرد مرصد تقليدي كغيره من المراصد الفلكية التي انتشرت في أنحاء شتى من البلاد الإسلامية في العصور الوسطى، ولكنه كان جامعة علمية كبرى، اجتمعت فيها نخبة متميزة من كبار المهندسين، الفلكيين، الأطباء والفلاسفة، حيث تفرغوا تماماً لمتابعة مهام البحث العلمي الأكاديمي، وساعدهم في ذلك التمويل المادي غير المحدود الذي تمكن نصير الدين الطوسي من تأمينه لهم.

لم يكن مرصد مراغة كغيره من المراصد الفلكية التي انتشرت في أنحاء شتى من البلاد الإسلامية في العصور الوسطى، ولكنه كان جامعة علمية كبرى، ضمت نخبة متميزة من كبار المهندسين والفلكيين والأطباء والفلاسفة الذين تفرغوا للبحث العلمي الأكاديمي

من بين أهم الفلكيين الذين عملوا مع الطوسي في مرصد مراغة، كل من المهندس والفلكي محيي الدين المغربي، المعروف بابن أبي الشكر، والذي أعدّ دراسة مهمة حول كتاب المجسطي لبطليموس، وسماها "خلاصة المجسطي"، وأهداها لأستاذه نصير الدين الطوسي، فكانت من أهم المؤلفات في مكتبة مراغة.

كما ابتكر الفلكي مؤيد الدين العرضي العامري الدمشقي الكثير من آلات الرصد في المرصد، وألف مجموعة من الكتب المهمة في علم الفلك، ومنها "الهيئة" و"كيفية الأرصاد"، وأيضاً قطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي، المعروف بأبي الثناء الشيرازي، والذي كان واحداً من أهم الأطباء والفلاسفة الذين عملوا تحت إمرة نصير الدين الطوسي، وخلف فيما بعد مجموعة كبيرة من الكتب الطبية والهندسية والفلسفية، من أشهرها "درة التاج لغرة الديباج" و"التحفة السعدية".

تجسدت جهود الخواجة نصير الدين الطوسي الفلكية في عمله على الدمج بين النظامين الفلكيين، الغربي (اليوناني) والشرقي (الصيني)، وكان كتاب "الزيج الإيليخاني" الذي دونه الطوسي وتلاميذه باللغة الفارسية، والذي ظهر في عهد أباقا خان، ابن هولاكو، من أهم الإنجازات العلمية لمرصد مراغة، وقد بقي معتمداً في الأوساط الفلكية لما يزيد عن القرنين.

أيضاً من بين الإنجازات العلمية المهمة لجامعة مراغة، النظرية المعروفة باسم "مزدوجة الطوسي"، والتي قدمها نصير الدين في كتابه "التذكرة في علم الهيئة"، وتتمثل في مجموعة من التعديلات التي جرى إدخالها على نموذج بطليموس فيما يخص حركة الكواكب، وهي التعديلات التي استفاد منها فيما بعد، عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس، في القرن السادس عشر الميلادي، عندما قدم إلى العالم نظريته الجديدة التي تقوم على أن الأرض تدور حول الشمس، ورفض أن تكون الأرض مركزاً للكون.

ورغم ندرة المعلومات المتوافرة عن شكل ومحتويات مرصد مراغة، فأن المؤرخ ابن ايبك الصفدي، قد أورد في كتابه "الوافي بالوفيات" شهادة مهمة لأحد زوار هذا المرصد، وقد جاء فيها: "رأيت فيه آلات الرصد شيئاً كثيراً، منها ذات الحلق، وهي خمس دوائر متخذة من نحاس، الأولى دائرة نصف النهار وهي مركوزة على الأرض، ودائرة معدل النهار ودوائر منطقة البروج ودائرة العرض ودائرة الميل، ورأيت الدائرة الشمسية التي يعرف بها سمت الكواكب، وإسطرلاباً تكون سعة قطره ذراعاً، وإسطرلابات كثيرة وكتباً كثيرة".

جمع نصير الدين الطوسي في مرصد مراغة عدداً كبيراً من الكتب التي نُهبت من بغداد والشام والجزيرة، زاد عددها على أربعمائة ألف مجلد

أيضاً، يتحدث ابن شاكر الكتبي في كتابه "فوات الوفيات"، عن عدد هائل من الكتب التي جمعها نصير الدين الطوسي في مرصده عبر السنين، فيقول: "واتخذ –أي نصير الدين الطوسي- في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نُهبت من بغداد والشام والجزيرة، حتى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلد".

وفي السياق نفسه، يتحدث ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب"، عن المؤرخ الشهير كمال الدين ابن الفوطي، والذي خلصه الطوسي من الأسر في بغداد، ثم اصطحبه معه إلى مراغة، حيث عُيّن قيماً على مكتبتها العامرة، فقال: "وظفر بها بكتب نفيسة وحصل من التواريخ ما لا يزيد عليه"، وهو التأكيد الذي يجعل من مكتبة مراغة واحدة من أعظم مكتبات العصور الوسطى، ويشكك في قصص إتلاف المغول للكتب التي وجدوها في مكتبات بغداد عند غزوها في 656 هـ، إذ كيف يمكن التوفيق بين الاحتفاظ بهذا العدد الهائل من الكتب من جهة، والقول بحرق كتب العباسيين وإلقائها في نهري دجلة والفرات من جهة أخرى؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard