عقود عديدة مرت على إعلان قيام دولة إسرائيل، وبرغم الحداثة والتطور العلمي اللذين لطالما تباهت بهما، استمرت الدولة العبرية في تطبيق سياسة "الفصل" الظالمة في أحيان كثيرة على مرضاها في فترات تفشي الأوبئة، مع اعتماد سياسة "التكتم" وإخفاء الحقائق.
في تحقيق نشرته صحيفة "هآرتس"، عادت أستاذة الأنثروبولوجيا والكاتبة ميرا فايس (Meira Weiss) إلى فترة تعامل إسرائيل مع أزمة تفشي فيروس شلل الأطفال في خمسينيات القرن الماضي، ونظرت من خلاله إلى تعامل إسرائيل مع جائحة فيروس كورونا الحالية، كاشفةً عن عدم نجاعة أسلوب عزل المرضى عن ذويهم ووحشيته أيضاً.
وروت فايس قصة وفاة شقيقتها عوفرا حين كانت تبلغ من العمر عامين ونصف العام، وحيدةً داخل مستشفى "برديس كاتس"، قائلةً إنها "قصة واحدة من مئات قصص ضحايا وباء تسترت عليه إسرائيل".
وعن التشابه القوي بين الأزمتين، قالت: "أكتب هذا في خضم أزمة فيروس كورونا. يترجح وعيي بين أيام شلل الأطفال في الماضي، عندما كنت طفلة أنتمي إلى مجموعة معرضة للخطر، وهذه الأيام إذ أنتمي لمجموعة ‘كبار السن‘ المعرضين للخطر. أفكر في العزلة والانفصال. خلال انتشار وباء شلل الأطفال، عُزل الأطفال المرضى في مستشفيات خاصة، وخلال انتشار كوفيد-19، عُزل كبار السن والمعوقون".
وحذّرت: "في كلتا الحالتين، قد تؤدي العزلة إلى قتل المرضى، وتدمير العائلات التي انفصلت عن أحبائها".
إنكار وتعتيم
في آب/ أغسطس عام 1950، شغل الفيروس "غير المفهوم" (آنذاك) الإسرائيليين. قبل ذلك بعام، كان عدد من الأطفال، معظمهم من الرضع، قد بدأوا يمرضون ويموتون وهم يتألمون بشدة. ظهر أول تقرير عن تفشي المرض في "هآرتس" في 6 تموز/ يوليو عام 1949.
حتى عام 1948، كانت حالات الإصابة بشلل الأطفال نادرة في فلسطين. لكن بحلول نهاية العام التالي، كان 128 رضيعاً وطفلاً صغيراً قد أصيبوا بالمرض، لكن السلطات الصحية في الدولة الناشئة أنكرت وجود وباء.
بين عامي 1950 و1954، سُجلّت 4700 إصابة بشلل الأطفال، توفي منها 760 طفلاً.
عام 1958، بلغ عدد مرضى شلل الأطفال الـ6528، برغم أن اللقاح كان قد بدأ يتوزع منذ عام 1957.
"الإنكار، والتكتم، والعزل، وعدم مراعاة حقوق الإنسان"، إجراءات طبقتها إسرائيل بصرامة وقت انتشار الأوبئة، متجاهلة أن "الأوبئة لا تعرف حدوداً سياسية"... كاتبة تقارن بين تعامل السلطات الإسرائيلية الوحشي بشلل الأطفال في الخمسينيات، وأزمة تفشي كورونا الآن
فيما كان شلل الأطفال وباءً عالمياً لا يعرف حدوداً سياسية، بحسب إشارة عالم الأوبئة تيبيريو شوارتز في كتابه "علم الأوبئة لشلل الأطفال في إسرائيل"، أصرت السلطات على نفي وجود وباء وتكتمت على بيانات المصابين وملفاتهم.
تتوفر بيانات حول المرض من أستراليا وأفريقيا وسويسرا والولايات المتحدة وكندا، لكن خطورة الوباء في إسرائيل كانت أشد بنحو 20 مرة. في حين كان 5% فقط من المصابين بشلل الأطفال في أمريكا يموتون، بلغت نسبة الوفيات في إسرائيل الـ20%.
بين عامي 1949 و1959، كانت إسرائيل تخضع لنظام التقشف. كانت المستشفيات لا تزال تستقبل جنوداً مصابين من المعارك الناجمة عن استيلاء الإسرائيليين على أرض فلسطين، فضلاً عن توافد المهاجرين الجدد المصابين بالأمراض.
أضاف فيروس شلل الأطفال الذي انتشر كالنار في الهشيم أعباء على القطاع الصحي، حيث كانت أعراض المرض عديدة ومؤلمة، لكن أخطرها هو الاختناق الذي كان يدل على قرب الوفاة.
كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة لإسعاف الأطفال المختنقين هي "الرئة الحديدية" (جهاز التنفس الصناعي في تلك الحقبة)، لكن أعدادها كانت قليلة في إسرائيل، إذ اقتصرت على حوالى 12 جهازاً، بينما التنفس من خلالها صعب أيضاً خاصةً أنها معدة للبالغين لا للأطفال.
كان الجهاز عبارة عن وعاء معدني أسطواني ثقيل يوضع فيه المريض منبطحاً ثم تتم عملية الشهيق والزفير بشكل لا إرادي.
استمر الإنكار الرسمي لوجود الوباء برغم تقارير المراسلين والأطباء عن الحالات المفجعة التي انتشرت في كل حي وتكدست في كل مركز طبي ومستشفى.
كان "الارتباك سيد الموقف والشعور بالعجز غامراً" في ظل عدم وجود أي فكرة عن علاج الفيروس لدى الأطباء تزامناً مع الإبلاغ عن أنه مقابل كل حالة شلل أطفال شُخّصت، هناك 500 حالة من دون أعراض.
وسط هذه الظروف، عارض الكثير من الأهالي نقل أبنائهم للمستشفيات، لكن السلطات استعملت القوة وأبعدتهم قسراً.
مستشفى "الرعب"
تفسيراً لهذا الفشل في مواجهة الفيروس، قال يعقوب روتيم، مدير عنابر شلل الأطفال في اثنين من مستشفيات إسرائيل آنذاك: "وجَدَنا الوباء الذي بدأ عام 1950 غير مستعدين، سواء من حيث المعدات المطلوبة أو من حيث المعرفة والخبرة"، مضيفاً "كانت هناك أخطاء في التشخيص… بالإضافة إلى ذلك، في حالة الأطفال الصغار جداً، كان من الصعب التمييز بين عدم القدرة على تحريك أحد الأطراف، أو الافتقار إلى الوعي أو الإرادة لفعل ذلك".
الإجراء الأساسي الذي أقدمت عليه السلطات في إسرائيل لمواجهة الفيروس -علاوةً على الإنكار والتكتم- كان عزل معظم الأطفال المصابين بالشلل في مستشفيات عدة، منها: برديس كاتس، ورمبام في حيفا، والمركز الطبي شعاري تسيديك في القدس. كانت برديس كاتس، التي نقلت إليها شقيقة الكاتبة وتوفيت عقب 10 أيام فقط، أسوأ هذه المستشفيات سمعةً، إذ وقعت فيها أكثر وفيات الأطفال المصابين ومثلت رعباً للعائلات.
إحدى ضحايا المرض التي كانت موجودة هناك قالت إن "الأطفال تم اختطافهم ونقلهم إلى هناك". أحد الذين تلقوا علاجاً من شلل الأطفال فيها لا يزال يعاني متلازمة ما بعد الشلل ولا يتحرك إلا بواسطة كرسي نقال. نسبة كبيرة من الناجين من المرض في إسرائيل عانت هذه المتلازمة.
في ذروة تفشي فيروس شلل الأطفال في الخمسينيات، أخضعت إسرائيل الأطفال المصابين لعزلة قسرية داخل مستشفيات ومراكز علاجية غير مجهزة ووضعتهم في آلة ساهمت في قتلهم… كاتبة إسرائيلية تروي قصة وفاة شقيقتها وأطفال آخرين
في تحقيقها الاستقصائي الذي اعتمد على شهادات لضحايا وعاملين في القطاع الصحي إبان الوباء، مسعفين وسائقين نقلوا الأطفال المصابين، سعت الكاتبة إلى معرفة من قرر عزل الأطفال والرضع المرضى في مكان غريب لا يعرفون فيه أحداً؟ من كان قادراً على سياسة حصر الأطفال المصابين؟
وأثارت استفهاماً رئيسياً: على عكس معظم الدول الأخرى، عزلت إسرائيل الأطفال الذين أصيبوا بالشلل ومنعت عائلاتهم من الاتصال بهم. مع ذلك، كان معدل الوفيات هنا من أعلى المعدلات في العالم. لتتساءل: هل هاتان الحقيقتان مرتبطتان إحداهما بالأخرى؟
عقب الإطلاع على وثائق مختلفة وقراءة الصحف الصادرة من عام 1949 إلى عام 1952، والمقالات الطبية عن علاج شلل الأطفال، والمقابلات مع شهود عاصروا الخوف المجتمعي ومحاولات إبقاء الأطفال في المنزل، ربطت الكاتبة بين سياسة الفصل الصارمة -أحدهم منع من رؤية أهله مدة عام كامل- واستخدام الرئة الحديدية من جهة وبين زيادة وفيات الأطفال من جهة أخرى.
اعتراف متأخر
في مرحلة ما أثناء تفشي شلل الأطفال، تخلى بن تسيون وربين، مدير قسم علاج الأطفال في مستشفى هداسا تل أبيب، عن سياسة عزل الأطفال. قال وربين قبل وفاته عام 2009: "ما كان يجب أن نُخرج الأطفال الرضع من منازلهم. في جميع الأحوال، لم يكن هناك علاج في المستشفيات. كل ما كان ممكناً أن نقدمه لطفل مريض هو حساء الدجاج، وابتسامة من أسرته وهدوء. كان يجب أن نتركهم في المنزل".
إحدى الممرضات قالت في شهادتها عن تلك الفترة: "أرى هؤلاء الأطفال حتى الآن، فقط رؤوسهم كانت تتطلع إلى الخارج… وأتذكر أفواههم الفاغرة والشفاه التي أرادت الهواء. شاء الأطفال أن يتنفسوا، لكن الرئة الحديدية لم تستطع مساعدتهم"، مردفةً: "وُضِع الأطفال في أسطوانة حديدية لا قيمة لها. فقط تخيلوا أنهم أخذوا الأطفال الذين تضررت عضلاتهم التنفسية من المرض ووضعوهم في رئة حديدية خاصة بالبالغين. هل رأيت يوماً شخصاً يريد أن يتنفس ولا يستطيع؟ هل رأيت طفلاً لا يستطيع التنفس؟".
"في العقود الماضية سُنّ قانون حقوق المريض، وتطور الوعي بشأن حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين. لكن هل اختلف الأمر كثيراً بين الأطفال المرضى المعزولين المصابين بشلل الأطفال وكبار السن والمعزولين على إثر جائحة فيروس كورونا؟"
وأضافت: "كنت ممرضة لعقود، ورأيت كل شيء، كل شيء. لكنني لن أنسى هؤلاء الأطفال المشلولين. ما زالوا يعودون إليّ في الليل. كان عمري 18 عاماً في ذلك الوقت. ماذا كنت أعرف؟".
تحدث روتم أمام لجنة تحقيق عام 1997 عازياً كثرة الوفيات إلى وجود "رئتين من الحديد لم تستوفيا المتطلبات... إذ كان الطفل يعاني من الرطوبة في الحلق، ثم تسحب الرئتان الرطوبة إلى الرئتين، ورأينا أن هذا كان سيئاً للغاية"، مضيفاً "لم يكن هناك علاج، لم يكن هناك سوى العلاج بالحب والأمل في حدوث معجزة".
فصل أطفال المهاجرين اليمنيين
ربطت فايس بين أزمة ضحايا شلل الأطفال وضحايا أزمة شهيرة أخرى في بداية نشأة الدولة العبرية عُرفت بـ"خطف الأطفال اليمنيين" بين عامي 1949 و1951.
وقتذاك، فصلت السلطات الصحية نحو ألف من أطفال المهاجرين اليمنيين الوافدين حديثاً ووضعتهم في مستشفيات لعلاجهم في ظل الوضع السيئ للمخيمات التي وُضع فيها ذووهم، والذي أدى إلى معدلات وفاة بين الأطفال تخطت الـ60%، وهو معدل هائل مقارنةً بأي معدل معروف في تاريخ البشرية، وهو أيضاً في عداد المآسي الحقيقية التي ظلت غير معلنة على مدى سنوات.
ظلت الشائعات تتهم الأطباء بخطف الأطفال اليمنيين وإرسالهم إلى أُسر ثرية لغرض التبني حتى كشفت وثائق حديثة أن الكثير منهم توفوا أثناء العلاج ودُفنوا من دون أن تعرض جثامينهم على ذويهم.
تعتقد فايس أن "القرب الزمني والوجود المادي في المستشفيات للأطفال اليمنيين وضحايا شلل الأطفال يعكسان التكتم والإنكار الرسمي لكل وباء منهما وضحاياه".
انتقدت فايس على وجه التحديد "حرمانها من المعلومات طوال عقود من الزمن"، وعدم منحها ملف شقيقتها المتوفاة بذريعة احتراقه، مشككة في ذلك بالقول إنها توفيت في "برديس كاتس" التي تشير الأدبيات الطبية إلى ارتفاع معدل الوفيات فيها (80%) مقارنة بالأماكن الأخرى.
ولفتت إلى أنها كانت أكثر استخداماً للرئة الحديدية التي تبيّن في ما بعد أنها "مميتة للأطفال"، أكثر من غيرها.
عقب الأزمة بسنوات، خلص روتم إلى أن "الرئة الحديدية" كانت "غير صالحة للاستخدام على الأطفال الرضع"، وأنها سببت الكثير من المضاعفات للعديد من الحالات بما في ذلك المضاعفات الرئوية والوفاة.
"الآن، عقب مرور 70 عاماً على وباء شلل الأطفال، وقد خطا عالم الطب خطوات هائلة، هل تجلى كل هذا التقدم في مواجهة فيروس كورونا؟ هل نجحنا (في إسرائيل) في فهم أفضل للمسببات وعلم الأوبئة (كيف ينتشر المرض)؟"، سألت فايس، مستطردةً بشكل استنكاري: "في العقود الماضية سُنّ قانون حقوق المريض، وتطور الوعي بشأن حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين. لكن هل اختلف الأمر كثيراً بين الأطفال المرضى المعزولين المصابين بشلل الأطفال وكبار السن والمعزولين على إثر جائحة فيروس كورونا؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...