من أغرب المشاعر التي من الممكن أن نعيشها، هي لحظة الشعور أنك تمرّ بتجربةٍ مررت بها من قبل، ظاهرة معروفة في العلم النفس بـ"الديجا فو Déjà vu". وبالرغم أن الديجا فو يأتي معظم الأوقات على شكل إحساسٍ أو شخصٍ مألوف، لكن، هل من الممكن أن تشعر بالديجا فو في مدينة وتشعر للحظة قصيرة فيها بأنك في مكانٍ آخر، في نفس الوقت؟
المدينة كفكرة عجيبة
يوجد ملايين من البشر يعيشون في نفس الشوارع وفي نفس المدينة، لكن كلّ تجربةٍ تختلف عن غيرها. ولأننا نشعر أن المدن، كأماكن وكأفكار، أكثر ضخامة وثقلاً، نسّلم أمرنا لها وكأن المدينة تتحكّم بنا وتجعلنا نشعر أننا لا نجيد التفاوض معها في تأثيرها على حياتنا.
برغم ذلك، نحن سكّان المدينة، نشكّل جزءاً أساسياً منها، ولا تستطيع المدينة التخلي عن سكّانها، فما هي المدينة دوننا؟
وفي حين لم نعد نسكن في المدن التي وُلدنا وعشنا سنوات كثيرة فيها، لسببٍ ما، علينا أن نواجه التغييرات، ومنها العمرانيّ، التي يفرضها الزمن على المدن، التغييرات التي تمحو ملامح نعرفها. عندها، ماذا يحدث لذكرياتنا عن مدننا؟ وهل علينا تقبّل حتمية النسيان، أم هنالك بدائل أخرى؟
إسكندرية ليه… ليه لأ؟
أقدم ذكرى لدي، متعلّقة بالمبيت في بيت جدّي في شارع بورسعيد بالإسكندرية، كانت تقريباً عام 1999. من أوضح تفاصيل تلك الليلة كانت في سرير أمي الطفولي، الذي شاركته مع أخي الكبير، والضجّة المنبعثة من الشارع في ساعات الليل المتأخرة.
تشكّل ذاكرة تلك الليلة أصوات الشباب المتسكّعين في الشارع حتى الساعة 3 صباحاً، كما صوت حوافر حصان "الزبّال" الذي كان يمرّ في نفس الساعة كلّ ليلة، كما أصوات زمامير السيارات التي لا تنتهي أبداً، بالإضافة إلى تلك الأصوات بالتأكيد، تلوّن ذاكرة تلك الليلة رطوبةُ ليالي إسكندرية الكلاسيكيّة التي كانت دوماً تمنعني من النوم.
أجد نفسي تلقائيّاً في عملية خلق معانٍ وذكرياتٍ ومفاهيم جديدة، تلتصق بأغاني وذكريات وأحاسيس قديمة، وهو حتمية نسيان تلك الذكريات والمعاني القديمة والأصلية الذي يجعلني أشعر بالخوف.
بالتأكيد يختلف الطقس في برلين عنه في إسكندرية، وحوافر الحصان لم تعد تُسمع في الليل، وقد قضيت حوالي سبعة أشهر في برلين قبل تقبّل وارتياح جسدي للبيئة السكنيّة الجديدة التي ضعت فيها، لكن عندما استرخيت على سرير غرفتي الجديدة لأسرق بضع ساعات النوم، في ليلةٍ ما من الأشهر الأخيرة، شعرت وكأنني في إسكندرية مرةً أخرى، في سرير أمي الطفولي أحارب الحرارة والأرق الصيفي.
لا شك أن تلك التجربة هي جزء من مخيالي، ولكن ما هي الصلة التي قد خُلقت للحظةٍ بين مدينتين، القديمة التي ذاكرتها دافئة في ذهني والجديدة التي مازلتُ لا أعرفها؟
"راجعين يا هوى؟"
بالرغم من الاختلافات الشديدة والواضحة بين القاهرة أو الإسكندرية وبرلين، إلا أن الحياة العمرانية فيهما متشابهة لدرجة ما. يوجد شوارع ترتاح لها بسهولة وتحفظها بسرعة، ومنها تلك التي لا تعرفها حتى بعد عمرٍ طويل. ومثل أي مدينة تسكن بها، لديك مقاهٍ وحانات تحبّ زيارتها في أيامك الجيدة، وشوارع تحبّ التنزّه بها بلا هدف وأنت حزين.
أما أنا فدائماً أعود لنهر "الشبري" في برلين عندما أريد بعض الوقت لنفسي، وهي عادة لدي من أيامي في القاهرة، عندما كنت أركب مترو الأنفاق لميدان التحرير، وأتمشّى فوق جسر قصر النيل في البحث عن الصمت، وسط مدينة لا تتركك وحدك. يوماً ما في برلين، عندما كنت جالساً بصمت على ضفاف النهر "الشِبري" وأستمع إلى أغاني فيروز، تذكّرت بحر إسكندرية الذي كنت أذهب إليه حين كنت بحاجةٍ للتفكير والهدوء.
بسرعةٍ مفاجئةٍ تصدمني المدينة حولي بكُلّ مبانيها وأشكالها وأصواتها وتهزّ وعيي لأُدرك العالم المحيط بي. الصدمة لا ترعبني، بل تجعلني مُرتبكاً لأنني لم أعد أزور شاطئ إسكندرية، ولم يدغدغ الملح أنفي، ولم أكن في الإسكندرية على الإطلاق عندها، بل أنا في برلين، وفيروز وبحر إسكندرية في مكان آخر.
عادةً مع استماعي لفيروز في القاهرة، كنت أتذكّر جدّي الذي كان يسكن في الإسكندرية، هذه كانت الصلة بين الموسيقى والمدينة بالنسبة لي، ولكن على مدار الأشهر السابقة، وعندما كنت استمع إلى فيروز، وجدت نفسي أتذكّر نهر "الشِبري" وليس جدي، فمتى بدأت ذاكرتي تربط فيروز بنهرٍ في برلين، وليس بجدّي؟
أجد نفسي تلقائيّاً في عملية خلق معانٍ وذكرياتٍ ومفاهيم جديدة، تلتصق بأغاني وذكريات وأحاسيس قديمة، وهو حتمية نسيان تلك الذكريات والمعاني القديمة والأصلية الذي يجعلني أشعر بالخوف.
أحياناً، وفي حالةٍ من الهلع، أحاول إنقاذ أكبر عدد من تلك المعاني التي تغرق في أعماق وعيي، بإعادة خلق المشهد كما تروي ذاكرتي، ولكن للأسف، يوجد نوع من أنواع الوحشية في الزمن، لأنه، شئت أم أبيت، سيمحو الزمن ذكريات ومعانٍ.
ما بين الجديد والقديم، أشعر وكأنني لم أعد أفرّق بين ما مرّيت به هنا وهناك، كمهاجرٍ مازال يحاول فهم البيئة حوله. أجد نفسي في وجودٍ منتصفيّ، أقفز منه بين الماضي والحاضر باستمرار، كأني لست هُنا بالمطلق، ولست هناك بالطبع.
هل نستسلم للمدينة الجديدة، التي أعطت لنا الفرصة لنبدأ من جديد حياتنا التي انتهت هناك؟
بالرغم من الاختلافات الشديدة بين القاهرة أو الإسكندرية وبرلين، إلا أن الحياة العمرانية فيهما متشابهة لدرجة ما. يوجد شوارع ترتاح لها بسهولة وتحفظها بسرعة، ومنها تلك التي لا تعرفها حتى بعد عمرٍ طويل.
عادةً مع استماعي لفيروز في القاهرة، كنت أتذكّر جدّي في الإسكندرية، هذه كانت الصلة بين الموسيقى والمدينة، ولكن مؤخراً، مع استماعي إلى فيروز، وجدت نفسي أتذكّر نهر "الشِبري" وليس جدي، فمتى بدأت ذاكرتي تربط فيروز بنهرٍ في برلين؟
عندما ذهبت لزيارة أحد أصدقائي المصريين في برلين، شعرت بأنني في منطقةٍ ما في القاهرة. بالتأكيد لحظة التخيّل هذه، مرتبطة بالبيئة المُحيطة؛ الاستماع لموسيقى مألوفة والتحدّث بلغتي ولهجتي، شعرتُ عندها أني في القاهرة.
موسم الهجرة إلى الدفء
حذّرني الكُلّ من الشتاء الألماني ومن قسوته، وخاصّة على سكان المدينة الجُدد. نصحني صديق لبناني مقيم في برلين منذ عامين بإيجاد شيئين لأحتمل الشتاء: بيتٍ دافئ وأصدقاءٍ يُعتمد عليهم.
في الشهور السابقة التقيت بعددٍ كبيرٍ من المصريّين المقيمين في برلين، بالرغم أنني لم أقابل مصريّين بسهولة في أشهري الأولى هنا. عندما وصلت إلى عشاء في بيت أحد أصدقائي المصريين الجُدد، شعرت بأنني في منطقةٍ ما في القاهرة وليس في أوروبا إطلاقاً. بالتأكيد لحظة التخيّل هذه، لم تكن حرفيّة، ولكن البيئة المُحيطة بي، الاستماع لموسيقى مألوفة والتحدّث بلغتي ولهجتي، جعلني أشعر وكأنني في القاهرة مرّة أخرى.
ولكن عندما خرجت إلى الشرفة لأدخّن سيجارة، صفعني البرد الألماني على وجهي والهدوء في الشارع، هذا الهدوء الذي لا تعرفه المدن المصريّة، فعدت إلى الواقع. كيف تسرق مني المدينة الارتياح وسط ناسٍ يشبهوني؟
علاقتنا بمُدننا عميقة لأنها تشكّل حياتنا اليوميّة حرفيّاً، على السبيل المثال، عندما تتأخّر على موعدٍ بسبب أزمة سير، أو عندما تمرّ أمام بيت حبٍّ قديمٍ في طريقك إلى العمل، تثبت المدينة حقّاً قوّة تأثيرها على حياتنا، بشكل مبسّط: المدينة تكوّن جزءاً كبيراً من هويّتنا ورؤيتنا للعالم دون عِلمنا وإرادتنا.
ما تثبته لنا مدن مثل القاهرة والإسكندرية وبرلين في تاريخها العتيق والطويل، هو أنه، بالرغم من قسوتها وعنفها، فإن الشمس لا تزال تشرق على سكّانها، ولو لأيّامٍ قليلة.. أقصد هُنا برلين.
قبل أيام، كنت أمشي في مبنى حكومي باحثاً عن مكتب عامل ما، وحين فتحت الباب لأوصل للرواق التالي، شممت رائحةً مألوفةً بشدّة، ذكّرتني بنفس البيت الإسكندراني في شارع بورسعيد، برائحة قهوة جدي وتراب الزمن المتراكم. يرعبني احتمال أن يأتي اليوم الذي يمكنني أن أنسى أيضاً، ذات الروائح التي من خلالها أتمسّك بجدّي والإسكندرية.
عندما يسألني أحد: "من أين أتيت إلى برلين؟"، فأجيب: من المدن التي قضيت أطول فترة من حياتي بها، لأن جذوري مزروعة في هاتين المدينتين؛ القاهرة والإسكندرية، وستبقى تلك المدن التي وُلدنا أو تربينا فيها، حيث عشقنا لأوّل مرّة، واحتضنت الشوارع ضياعنا حين فقدنا ذاك الحبّ.
وبالرغم أننا لن نجيد الحفاظ على كلّ تفاصيل ذكرياتنا، فهي ليست الأساس، لأن مثل ما الزمن ينسينا ذكرياتنا، يغيّر تفاصيل المدن أيضاً، كوننا نعيش تلك التغيّرات، وستصبح تلك الحجارة والأزقّة الشوارع فقط في أذهاننا.
كَتَبَ الكاتب عمر روبرت هاملتون في كتابه بعنوان "المدينة التي تنصر دوماً" التالي عن القاهرة في منتصف أحداث ثورة 25 يناير: "هذه المدينة، مدينتنا، مُدّنسة. تَنفّس وشِمّ الفاكهة وعرق وتربة إخوتك...قريباً ستأتي الشمس فاستنشقها بعمق."
هنا يشير هاملتون إلى قوة المدن الصالبة التي تعقّد قدرتنا كسكاّن عمرانيين على التفاهم مع المدينة، ولكن ما تثبته لنا مدن مثل القاهرة والإسكندرية وبرلين في تاريخها العتيق والطويل، هو أنه، بالرغم من قسوتها وعنفها، فإن الشمس لا تزال تشرق على سكّانها، ولو لأيّامٍ قليلة.. أقصد هُنا برلين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع