طلبت من إحدى قريباتي مؤخراً أن تقصّ شعري، ففعلَت، ووجدتُها تطلب منّي ذلك، فقمتُ بدوري وقصصتُ العديد من خصلات شعرها، ولكن ما أدهشني أنها كانت المرة الأولى بالنسبة لها، وما أدهشني أكثر أنها رفضت بحدّة أن تقص شعر ابنتها، لأسباب مرتبطة بالاحترام، والمظهر المقبول اجتماعيا.
في العديد من العائلات المغربية المحافظة يحظر الآباء على بناتهم قصّ شعورهنّ، لأن الأمر مرتبط بخرافات قديمة، وعادات تربط بين الشعر القصير و"قلة الاحترام أو الأدب".
ولكن ماذا يعني للمرأة أن تفقد تحكّمها في خصلات شعرها، أن تنظر إلى وجهها في المرآة، وترى شكلها مقموعا بحسب رغبة الآباء ووطأة العادات والتقاليد، ليس شعرها فقط، ولكن إحساسها بنفسها أيضا.
"كان حلما ورديا"
"أن أقص شعري، كان بالنسبة لي بمثابة حلم وردي، صعب المنال، لاسيما وأنا أنتمي إلى بيئة محافظة جداً، تؤمن أشد الإيمان بأن البنت المحترمة لا تقص شعرها إلا يوم زفافها"، تقول سناء، ثلاثينية، أرملة وأم لثلاثة أطفال، في حديثها لرصيف22.
سناء، أنيقة المظهر وجميلة الملامح، وتتمتع أيضاً بشعر شديد السواد، تقول بكثير من الأسى، بأنها تكره وضعيتها الاجتماعية في الوقت الحالي، بسبب كرهها للشعر الطويل.
"عيب أن تقصي شعرك قبل زواجك، ماذا سيقول عليك الجيران؟ الفتاة المحترمة لا تقص شعرها إلى موعد زفافها، لكي تكون عروس جميلة جداً، وتحضر الملائكة زفافها تتويجاً لصبرها وحيائها"
قد يكون الأمر غريباً وغير عقلاني، مثل الكثير من المظاهر الاجتماعية التي يزخر بها مجتمعنا المغربي، أفكار غريبة نتوارثها جيلاً بعد جيل، راسخة في ذهنية بعض الأفراد، ومن بينها أن الفتيات اللواتي ينتمين إلى أسر محترمة لا يجب عليهن قص شعرهن إلا حين زفافهن.
تحكي سناء: "كنت أقص شعري بضعة سنتيمترات فقط في يوم عاشوراء، مثل أي فتاة مغربية تنحدر من مدينة محافظة. فيوم عاشوراء بالنسبة لي كان يوماً موعوداً، إذ كانت والدتي، سامحها الله، حريصة على قص شعري بضعة سنتيمترات، وأنا كنت أتوسل لها لقص شعري أكثر، لكنها كانت ترفض بحزم".
تقول سناء بأنها عندما كانت مراهقة كانت ترغب بشدة في أن تقص شعرها، وأن تحصل على تسريحة عصرية كباقي بنات جيرانها أو زميلاتها في المدرسة، لتحس بجمالها وأنوثتها، لكن والدتها كانت حاسمة في هذا الموضوع، كانت تمنعها بشدة من إبراز أنوثتها وكانت تتقن قمع رغباتها.
"لكي تحضر الملائكة"
تقول سناء إن والدتها حصلت على تعليم "لا بأس به"، فهي معلمة في مدرسة ابتدائية. تصمت سناء لبرهة كأنها تتذكر علاقتها المتوترة بوالدتها ثم تسترسل بهدوء، يدل على شخصيتها الهادئة: "أتذكّر بأن والدتي منعتني من الدراسة خارج المدينة، بعدما اقترح عمي الفكرة عليها. لقد كنت مجتهدة، وكنت أميل إلى الدروس العلمية وأحصل على معدلات عالية، لكن والدتي لم تكن تمنع قص شعري فقط، بل كانت تمنع سفري إلى العاصمة الرباط من أجل إتمام دراستي العليا، بعد حصولي على شهادة البكالوريا".
تضيف سناء: "لا شك أن والدتي قاسية جداً معي، كانت شديدة الخوف من سماع ثرثرة الجيران عني، على الرغم أنني كنت مراهقة بارة لا تتخطى حدودها، لكن كل ما كنت أطلبه هو شعر قصير عصري مثل بطلات المسلسلات المكسيكيات أو حتى الممثلات المصريات، وهذا الطلب كان صعب التحقيق".
"كل ما كنت أطلبه من أمي هو شعر قصير عصري".
كانت سناء دائماً ما تتساءل عن سبب رفض والدتها القاطع لقص شعرها، أو حتى تصفيف حواجبها، لكن الجواب عن لسان والدتها هو نفسه لم يتغير قبل زواج سناء وهو: " حشومة تقطعي شعرك، أش بغيتي يقولوا عليك الجيران؟ البنت مخصهاش تقطع شعرها حتا تزوج، باش تجي زوينة ومسرارة يوم عرسها"، "عيب أن تقصي شعرك قبل زواجك، ماذا سيقول عليك الجيران؟ الفتاة المحترمة لا تقص شعرها إلى موعد زفافها، لكي تكون عروس جميلة جداً، وتحضر الملائكة زفافها تتويجاً لصبرها وحيائها".
لم تكن سناء تستوعب عبارات والداتها المذكورة، تعلق على هذا الأمر قائلة: "المبررات التي كانت تستعملها والدتي لإقناعي، كانت بالنسبة لي طلاسم وكلاماً غير مفهوم بتاتاً".
تتساءل سناء: "ماذا تعني والدتي بحضور ملائكة يوم زفافي، لتزيد هذه الملائكة من جمالي؟"، تسترسل بنبرة ساخرة: "بالنسبة لي كان هذا الكلام سريالياً وغير مفهوم بتاتاً، لكن والدتي المدرّسة، كانت تردده على مسامعي في كل مرة لعلي أكف عن مضايقاتها".
تحكي سناء أن قرار زواجها المتسرع من رجل يكبرها بأربعين سنة، كان للتخلص من القيود التي تفرضها والدتها عليها.
"اشتقت لقص شعري"
لا تبالغ سناء بقول مثل هذا الكلام، فلقد تزوجت فعلاً في السنة التي حصلت فيها على شهادة الباكالوريا. تقول إنها وضعت السكين على أحلامها للتخلص من جحيم والدتها وقيودها التي لا تنتهي، ومن بين هذه الأحلام قص شعرها بحرية، والسفر خارج مدينتها، فضلاً عن الحصول على سيارة عصرية وقيادتها بكل حرية.
تعلق سناء مخاطبة رصيف22: "أسباب واهية أليس كذلك؟"، تضحك بسخرية، ثم تجيب: "لكن هذه الأسباب الواهية هي واقع عشته وأعيش تبعاته حتى الآن، ها أنا شابة أرملة وأم لثلاثة أطفال، أعمل بكد، وحيدة من دون حب ولا زوج، لقد نسيت أنني امرأة. كان بالإمكان أن أكون أفضل مما أنا عليه الآن لو وافقت والدتي على سفري إلى الرباط لإتمام دراستي الجامعية، لأصبحت امرأة ذات وظيفة أو منصب يضمن لي مورد رزق كريم".
تعرفت سناء على زوجها عن طريق والدها، لقد كان صديقه، وسناء كانت تناديه بعمي. طلب يدها للزواج بشكل مفاجئ بعد أن أكد لها أنها ستحصل على كل ما تريد، أقنعها بأنها ستعيش برفقته الرفاهية في مدينة الدار البيضاء، في حي راق ومستوى معيشي أفضل بكثير مما تعيشه مع والدها. في ذلك الوقت، كان كلام زوجها المرتقب بمثابة أحلام وردية لفتاة مراهقة محافظة.
تقول: "والداي رفضا زواجي، لكنني أصريت ووافقت على عرضه"، تضيف: "أتذكر أن والدتي ضربتني. كانت تصرخ بهستيريا وتقول لي إني صغيرة وهو عجوز، لكني كنت أخبرها بأنني سأتزوجه، لكن لم أستطيع أن أخبرها يوماً بأن موافقتي على الزواج منه هو للهرب منها ومن سلطتها. كنت أرغب بارتداء ما أريد وليس ما تشتريه لي. كنت تواقة لقص شعري ووضع بعض الماكياج على وجهي، كنت أريد أن أشعر بأنوثتي التي كانت تحرمني منها والدتي".
لكن مع مرور عشر سنوات على زواجي، اكتشفت أن "المرحوم لم يشعرني بأنوثتي، لكني قصصت شعري كأنني أقصّ سلطة أمي علي".
تضحك سناء وتضيف بنبرة حزينة: "لم أسمح لشعري أن يكبر أبداً، وكأني أرفض أن أكون تلك الفتاة البسيطة".
"لم أتمتع بجمالي"
سناء مجرد عينة لنساء مغربيات عديدات ينحدرن من وسط محافظ. ليلى مثلاً، سيدة في عقدها الخامس، لم تتزوج إلا مؤخراً. تقول إنها لم تقص شعرها أو غيرت من لونه أو حتى صففت حواجبها، إلا بعد رؤية ابنة شقيقها بحواجب مصففة وأنيقة. كان ذلك بمثابة صدمة وصفعة قوية لها. تقول إنها تربت على أن الفتاة المحترمة لا تضع ماكياج ولا تقص شعرها إلا بعد زواجها، لكن زواج ليلى تأخر كثيرا، بحسبها.
تتمتع ليلى بشعر قصير رقيق ورطب وبشرة سمراء، أنيقة المظهر، تقول لرصيف22 إنها حرمت نفسها من أحلى سنوات حياتها، حينما كانت شابة صغيرة وجميلة.
تضيف: "لم أكن جريئة بما فيه الكفاية لأتمرد على ما تربيت عليه من قيود وحدود، حتى بعد وفاة والدتي في سن صغيرة، كنت أقنع نفسي أنه يجب علي ألا أتمرد على كل ما تم تلقينه لي وأنا صغيرة".
تستطرد قائلة: "دائماً كان يتردد على مسامعي أن الفتاة المحترمة يجب عليها ألا تغير لون شعرها إلى الأشقر، فهذا لون النساء الجريئات غير المحترمات. أيضاً ممنوع علي أن أتناول (مسكة) أمام الناس، فهذا عيب".
تقول ليلى: "لا أخفيك أنه عند رؤية ابنة أخي ذات الثمانية عشر ربيعاً، كنت أنا في ذلك الوقت بلغت 45 سنة، كانت ابنة أخي بتسريحة قصيرة وحواجب مصففة. بدت سعيدة بمظهرها الجديد. كانت صدمة بالنسبة لي، كنت عاجزة عن الكلام، لم أخبرها أنها جميلة بمظهرها الجديد"، تتساءل: "هل حسدتها؟ لا أعرف. لكن بعد دقائق من الترحيب والسلام، افترقنا، وقبل عودتي إلى المنزل، هرولت مسرعة إلى أقرب صالون تجميل".
"تعلمت منذ زمن طويل أن الشعر له الكثير من المعاني. كافحت أنا وأخواتي وصديقاتي أهالينا للسيطرة على طول شعرنا وطريقة تسريحه"
طلبت ليلى من صالون التجميل قص شعرها كاريه وصبغه بلون أشقر، على الرغم من أنها سمراء اللون، وطلبت منهم أيضاً تصفيف حواجبها.
تحكي المتحدثة نفسها: "في الواقع شعري لم يكن جميلاً، على الرغم من الاعتناء به. كان رقيقاً، رطباً، أسود، لكن بعد الواقعة واظبت على قصه وصبغه، لكن لأكون صريحة، أواظب على صبغه لأحارب الشعر الأبيض، تخلصت من الحواجب الكثيفة، لأنها في الحقيقة لم تعد كثيفة، فمع التقدم في السن أصبحت رقيقة".
تقول ليلى إنها كانت تتفاجأ لرؤية فتيات شابات أصغر منها، يتمتعن بمظهر عصري، توضح بأنهم كانوا في سن بناتها لو تزوجت، وكانت دائما تعيب على تصرفاتهن وكأنها تحاول إقناع نفسها أنهن مخطئات، لكن في نفس الوقت كانت بقرارة نفسها ترغب بشدة بتغيير مظهرها المحافظ.
تضيف ليلى: "كنت ساذجة، فطيلة سنوات شبابي لم أتمتع بجمالي قط. كنت جبانة، قدست كل ما قيل لي، رفضت التمرد على تقاليد قاسية ضحيتها الوحيدة أنوثتي".
"الشعر هويّة"
"الشعر ليس مجرد زينة، هو انعكاس لهوية الإنسان"، بحسب سوزان كراوس، المحللة النفسية المتخصص في علم النفس وعلوم الدماغ، في مقال لها على "سايكولوجي توداي".
كتبت كراوس: "لأن الشعر مرئي جداً، يصبح جزءاً من هوية الشخص، ويساعد في استهداف الآخرين لإثارة انطباع معين إيجابي، سواء كمثقف أو مغوي جنسياً أو متمرد، أو مزيج مما سبق".
"يمكن أن يؤثر الشعر أيضاً على طريقة تعريفك لنفسك، كامتداد لهويتك. في فترة المراهقة ينضج الشعر بشكله النهائي تاركاً وراءه نسيج الطفولة، حتى اللون يمكن أن يتغير".
"طريقة إعداد لشعرك قد يعكس العرف الثقافي السائد".
وتشدد الكاتبة أيضاً أن طريقة إعدادك لشعرك، وتقديمه للعالم الخارجي قد يعكس الأعراف الثقافية السائدة في الانتقال لمرحلة البلوغ.
ربط خصلات الشعر بمعاني نفسية واجتماعية، وأحياناً سياسية، لا يقتصر على مجتمعاتنا العربية المحافظة، فدول أخرى كانت النساء فيه لا تتحكم بشكل عام في خصلات شعرهن.
كتبت المحللة النفسية في نيويورك ديان بارث، عن صراعها وهي أخواتها في الستينيات في التحكم بخصلات شعرهن، وماذا كانت تعني لهن: "تعلمت منذ زمن طويل أن الشعر له الكثير من المعاني. كافحت أنا وأخواتي وصديقاتي أهالينا للسيطرة على طول شعرنا وطريقة تسريحه، في ذلك الوقت كان الشعر يمثل لنا حاجتنا للتحرر من الروابط التي تقيد بشكل كبير البالغين، تمثل الخصلات الشعر الطويلة ذواتنا الداخلية المحررة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...