شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"شبيهي في التغرب والنوى"... ماذا كتب أدباء التراث عن اغترابهم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 3 سبتمبر 202006:59 م

قال لنا التاريخ إن العرب كانوا قوماً يطلبون الكلأ والماء حيث وجدا! وعلى الرغم من حياة التنقل التي عاشوها، إلا أن الغربة كانت أشد الحدْثان عليهم. لقد كرهوا الغربة حتى اشتقّوا من اسمها كل معنى سيئ، ولنا أن نسقط مقولاتهم على حاضرنا الآن، حيث أصبحت الهجرة مطلباً، والغربة وطن أول بدلاً من ثانٍ.

جاء في سورة النساء: "وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ". لقد ساوى الخطاب القرآني بين قتل النفس وبين الخروج من الديار. كما ذكر الدميري في كتابه "حياة الحيوان الكبرى"، أنّ اسم الغُرْبَةِ مجموع من أسماء دالة على محصول اسم الغربة: فالغين من غَدْر وغرور وغَيْبة، وغمٍّ، وغُلَّة/ حرارة الحزن، وغُول/ كلّ مهلكة. الراء من رُزْءٍ وردع وردى. الباء من بلْوى وبؤس وبُرَح/ الداهية وبَوار/ الهلاك. الهاء من هوان وهول وهمّ وهلك.

ولقد كان من عادة العرب إذا غزت أو سافرت، أن تحمل معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع، كما ذكر البهيقي في "المساوئ والمحاسن". وإن كانت هذه عادة العرب، فالأولى بالشعراء أن يصدعوا كبد الغربة بما أبدعوه من شعر، يعبّر عن أحزانهم وما تعرضوا له من شدّة وضيق عيش في الغربة.

وعليه نسأل: كيف عاش أدباء العرب غربتهم، كيف انعكس هذا في تعبيرهم عنها؟ وهل حمل هذا التعبير مضموناً واحداً؟

كان ابن خِذام أول من بكى الديار، ولقد جاء ذكره عند الشاعر امرئ القيس الذي كان أول من وقف واستوقف على الأطلال وبكى واستبكى: عُوجَا عَلى الطَّلَلِ المُحِيلِ لأنّنَا/ نَبْكي الدّيارَ كما بكى ابنُ خِذامِ. ويقال بأنّ امرأ القيس بعد مقتل أبيه قصد ملك الروم، ورأى قبر امرأة من أبناء الملوك، ماتت فدفنت في جبل عسيب، فسأل عنها فأخبر بقصتها، فقال هذيَن البيتين في غربة نفسه: أَجَارَتَنا إِنَّ الخُطُوبَ تَنوبُ/ وإنِي مُقِيمٌ مَا أَقَامَ عَسِيبُ/ أجارَتَنا إنّا غَرِيبَانِ هَهُنَا/ وكُلُّ غَرِيبٍ للغَريبِ نَسِيبُ.

لكنّ الغربة قد لا تكون فقط غربة الجسد وقد ابتعد عن وطنه، وإنما غربة الروح داخل هذا الجسد، عندما يلفظ المجتمع شخصاً لدينه أو للون بشرته، كما حدث مع عنترة:  يعيبون لوني بالسواد جهالة/ ولولا سواد الليل ما طلع الفجر/ وانْ كانَ لوني أسوداً فخصائلي/ بياضٌ ومن كَفيَّ يُستنزل القطْر.

كان من عادة العرب إذا غزت أو سافرت، أن تحمل معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع، فكيف عاش أدباء العرب غربتهم وكيف انعكس هذا في تعبيرهم عنها؟ وهل حمل هذا التعبير مضموناً واحداً؟

أسفي على بغداد!

شبَّه الحكماء الغريب باليتيم اللَّطيم الذي ثكل أبويه، فلا أُمَّ ترأمه ولا أبَ يحدب عليه. وهذا هو الإمام السراج النيسابوري يرتحل عن بغداد إلى مسقط رأسه. وبحسب قول أبو الوليد الفقيه: سمعت أبا العباس السراج يقول: وا أسفاً على بغداد. فقيل له: ما الذي حملك على الخروج منها؟ قال: أقام بها أخي خمسين سنة، فلما توفى ورفعت جنازته، سمعت رجلاً على باب الدرب يقول لآخر: من هذا الميت؟ فقال: غريب كان هاهنا، فقلت: إنّا لله، فبعد طول مقام أخي ببغداد، واشتهاره بالعلم والتجارة يقال عنه: غريب كان هاهنا، فحملتني هذه الكلمة على الانصراف إلى الوطن.

وعلى الرغم مما ذكر، كان السراج دائم الذكر لبغداد في قيامه وقعوده: يا بغداد، وا أسفي على بغداد، متى يقضي لي بالرجوع إليك.

برغم أن المال في زماننا هذا يخفف قسوة المسافة، ويسمح لصاحبه بأن يسافر إلى مقصده في زمن قصير نسبياً، ويطفئ بعضاً من نار شوقه إلى وطنه، لم تكن له هذه القوة العجائبية قديماً، حتى وإن كان البعض يحاول أن يغدق بالمال على من ابتعد عن وطنه، علّه ينسيه أحزان الفراق. ذلك ما فعله معاوية مع ميسون بنت بحدل النجدية، التي كانت ذات جمال باهر وحسن عامر، وقد أعجب بها الخليفة الأموي وتزوجها، وهيأ لها قصراً مشرفاً على الغوطة بدمشق.

ذكر الدميري بأن ميسون قد لبست يوماً أفخر ثيابها وتزينت وتطيبت بما أعد لها من الحلي والجواهر الذي لا يوجد مثله، فنظرت إلى الغوطة وأشجارها، فتذكرت نجداً وحنت إلى أترابها وأُناسها، فبكت وتنهدت، فقالت لها إحدى وصيفاتها: ما يبكيك وأنت في مُلك يضاهي مُلك بلقيس؟! فقالت:

لَبَيتٌ تَخفِقُ الأرياحُ فيه/ أَحَبُّ إليَّ مِن قَصرٍ مُنيفِ

ولُبسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني/ أَحَبُّ إليَّ مِن لبسِ الشُفوفِ

وأكلُ كُسَيرَةٍ مِن كَسرِ بيتي/ أحبُّ إلي مِن أكل الرغيفِ

و أصواتُ الرياحِ بِكُلِّ فَجٍّ/ أحبُّ إليّ مِن نَقرِ الدُّفوفِ

وكَلبٌ يَنبَحُ الطُّراقَ دوني/ أحبُّ إليَّ مِن قِطٍ أليفِ.

"أرضُ الرَّجل أوضحُ نسبه، وأهله أحضر نشبه"، هذا ما يقوله الجاحظ عن الحنين الذي يدفع الإنسان لتذكر غربته عن أرضه في كل ما يصادفه. ولعل ما جاء جاء في كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير عن فرار عبد الرحمن الداخل من الشام إلى الأندلس، هو مثال على هذا. حيث يذكر أنه "عندما فرّ عبد الرحمن الداخل من سيوف بني العباس إلى الأندلس، دانت له، لكنّه لم ينس رصافة الشام التي أنشأها جده هشام بن عبد الملك، فأنشأ مثلها في قرطبة. وحدث أنّه كان يتمشى في رصافته، فاستوقفته نخلة أثارت شجونه وحنينه إلى الشام، فرأى النخلة غريبة مثله، فقال:

تبدَّت لنا وَسْطَ الرّصافةِ نخلةٌ/ تناءتْ بأرضِ الغَرب عن بلدِ النخْلِ

فقلت: شبيهي في التغرّبِ والنّوَى/ وطولِ اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلِيْ

نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ/ فمثلكِ في الإقصاء والمُنتأَى مِثليْ".

اغترب تتجدّد

بينما عبر الشعراء العرب عن حنينهم لديارهم التي اغتربوا عنها، وجد بعضهم الآخر أن الغربة تصبح واجباً على من لا تصون له دياره كرامته ولا تحقق له أرضه العدل

تنسب مقولة "اغترب تتجدد" لأبي تمام، إلا أن لها تاريخاً في حياة العرب ومفهوم الوطن لديهم الذي لا بد أنه ارتبط بالحياة التي تحفظ للإنسان كرامته. وعندما لا يستطيع الوطن أن يحفظ كرامة مواطنيه فالغربة تصبح واجباً، وهذا ما نجده في قول الشاعر قيس بن الخطيم: وَمَا بَعْضُ الإِقَامَةِ فِي دِيَارٍ/ يُهَانُ بِهَا الفَتَى إِلاَّ بَلاَءُ.

كما روى أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني" أنه سمع عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، يقول لمعلم ولده: لا تروه قصيدة عروة بن الورد لأنّها تدعو للاغتراب: دعِيني للغنى أسعى، فإنّي/ رأيتُ الناسَ شرُّهمُ الفقير. ولقد دعا بعض الشعراء إلى التنقل في كل الأرض عندما يفتقر وطنهم إلى العدالة. كما في قول أوس بن حجر: أُقيمُ بِدارِ الحَزْمِ مَا دامَ حَزْمُها/ وأحرِ إذا حالَتْ بأنْ أتحوَّلا.

ولم يقتصر الحث على الاغتراب على الشعر وحده، ففي "كليلة ودمنة" لابن المقفع، ذُكر أن أحد الملوك كان يستشير ندماءه في شأن العدو سائلاً إياهم الصلح والسلام، فقال الملك للرابع من ندمائه: فما رأيك في هذا الصلح؟ قال: لا أراه رأياً، بل أن نفارق أوطاننا ونصبر على الغربة وشدة المعيشة خيرٌ من أن نضيّع أحسابنا ونخضع للعدو الذي نحن أشرف منه.

الغربتان

ليس خطأ نحوياً أن نقول: غربتان، وهذا ما فعله ابن خلدون في بلاط تيمورلنك عندما وفد عليه. سأل تيمور ابن خلدون ماذا يمكن أن يفعل له؟ فأجاب ابن خلدون: "أنا غريب في هذه البلاد غربتين، واحدة من المغرب الذي هو وطني ومنشئي، وأخرى في مصر، فأهل جيلي بها وقد حصلت في ظلك. وأنا أرجو رأيك لي فيما يؤنسني في غربتي"، فردّ عليه تيمور: "قل الذي تريد، أفعله لك. فقلت: حال الغربة أنستني ما أريد، وعساك –أيدك الله- أن تعرف لي ما أريد". لقد عاش ابن خلدون حتى العشرين من عمره في بلاد المغرب ومن ثم ذات المدة عاشها في مصر، لذلك جاز له التكلم عن غربتين: غربة عن الوطن الأصلي وغربة عن الغربة التي أصبحت وطناً، ويقصد بها مقامه في مصر.

إنّ مفهوم الوطن القومي الذي نعرفه حالياً هو ابن الحركات القومية في أوروبا، لكنّ الوطن أوسع من الجغرافيا وأعمق من اللغة والدين، إنه بمكان ما، الصحبة والأنس، ونستطيع أن ندلّل على ذلك بما حدث مع ابن بطوطة عندما حلّ في تونس في بداية رحلته، ولم يستقبله أحد هناك: "فأقبل بعضهم على بعض بالسلام والسؤال، ولم يسلم عليّ أحد لعدم معرفتي، فوجّت من ذلك في النفس، مالم أستطع معه سوابق العبرة واشتد بكائي، فشعر بحالي بعض الحجّاج، فأقبل عليّ بالسلام والإيناس".

غربة المتصوفة

يرى المتصوفة أن مقامهم في هذا العالم يشكّل غربة روحية يجب أن ينقضوها بالسفر الروحي إلى بلاد النور/ المشرق. وليس المشرق هنا مكاناً جغرافياً أو جهة بل مشاكلة لما يمثله شروق الشمس بعد ظلمة الليل. ولربما ابتدأت هذه المقابلة بين الغروب والشروق مع بارمنيدس في قصيدته "السفر نحو النور"، حيث قادته بنات الشمس إلى تلك البلاد.

اختلف مفهوم الغربة عند الأدباء المتصوفين، فدعوا إلى سفر روحي تتخلّص به الروح من غربتها في هذا العالم الظالم

يقص السهروردي في قصته" قصة الغربة الغريبة"، كيف وقع وأخوه عاصم في القرية الظالم أهلها التي تقع في جهة الغرب، فسجنوهما وقيدوهما في جبّ إلى أن جاءهم رسول/ هدهد يدعوهم إلى السفر إلى البقعة المباركة من الشجرة في الوادي الأيمن. وعندما وصلا إلى هناك وتعرفا على أبيهما السماوي وتذوقا طعم النور، قيل لهما إنه لابد من العودة إلى القرية الظالمة. وهنا تصدع قلب السهروردي وخاف وارتعب، إلّا أن وعداً قد قُطع لهما بأنهما يمكنهما العودة إلى بلاد النور مادام قد فكّ قيدهما. وفي النهاية  يتخلّصان من تلك الغربة في القرية الظالم أهلها ويلتحقان بعالم النور.

نجد ذات الأمر عند ابن سينا في قصتيه "رسائل الطير" و"حي بن يقظان" اللتين تناص معهما السهروردي، فهناك دعوة إلى سفر روحي تتخلّص به الروح من غربتها في هذا العالم، ونجد ذات الأمر مع فريد الدين العطار في كتابه "منطق الطير"، حيث يقود الهدهد الكثير من الطيور في رحلة شاقة كي يصلوا لحضرة السيمرغ/ الفينيق.

ولا يسعنا عند الحديث عن الغربة، إلا تذكّر ما كتب غسان كنفاني عن مفهوم الوطن في روايته "عائد إلى حيفا": "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألّا يحدث ذلك كله".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard