"اليوم بـ 14500" ليرة، وبكرا الله أعلم"، "لحقي حالك ياست آخر كيلين".
بهذه العبارات يدعو الفلاح الذي أتى من ريف دمشق، إلى سوق الجملة في باب سريجة، وسط العاصمة، السيدات لشراء الجوز لإتمام عناصر "موسم المكدوس"، القلة القليلة منهن تتجرأ لترى نوع الجوز، ومن تشتري فهي الملكة اليوم!
في نفس الشارع وحّد الناس أسئلتهم: "شو سعره الحمصي اليوم، ما نزل البلدي شوي"، "الحمرا الكبيرة بقديش خال"! بإشارة منهم إلى باقي مكونات الأكلة السورية المتوارثة التي ارتفعت أسعار مقاديرها عن العام الماضي أضعافاً مضاعفة، فالمكون الرئيسي، الباذنجان، ارتفع سعره 100%، وربما يتنازل مكدوس هذا العام عن جوزه، فماذا عن الزيت؟ فهل يستغني السوريون عن طعامهم الشتوي المتوارث هذا العام؟
"رجع أيلول"
"شو صعب ها الشهر، كلشي غالي"ـ بهذه العبارة تشتكي هناء العلي، 50 عاماً، لسيدة أخرى وقفت إلى جانبها تتفحصان الفليفلة الحمراء، تحضيراً لصنع المكدوس، وتتابع: " 350 ليرة يا ستار!".
عاد أيلول مجدداً، وبدأت عائلات بالتفكير بالمؤن الشتوية، فالرفوف في أغلب البيوت تعاني من جفاف المؤن مع بداية كل عام جديد، الرفوف التي اعتادت أن يزينها المكدوس بداية كل أيلول، خجلى هي اليوم في البيوت السورية. عن هذا العام الثقيل، تحدثت إلى مجموعة من النساء اللاتي ورثن تحضير المكدوس.
أم حيان، 65 عاماً، من مدينة حمص تقول: "تعلمت تحضير المكدوس من والدتي وحماتي. وبداية زواجي كنت أطبق تعليماتهم بالحرف، حتى أخاف أن أخل بمقدار من المقادير، حذرتني أمي يوماً أن أستبدل الجوز أو زيت الزيتون بالفستق والزيت النباتي، لكن للأسف اليوم خللت بالوعد كلياً، وقللت الكميات جداً، فزيت الزيتون وصل العشرين لتر منه إلى 100 ألف ليرة سورية، لكن لم أتخلّ عن صنع المكدوس كتقليد سنوي، سأقدمه لأولادي وأحفادي ما حييت، حتى وإن غيرت ببعض المقادير والمكونات".
لا يختلف حال أم حيان عن حال أم محمد الشامية، 65 عاماً، التي كانت تتفاخر"بمكدوسها" أمام جارتها الحلبية، هي اليوم ستصنع 20 كيلو فقط، كمونة لهذا الشتاء، وستعتمد على ما بقي من زيت زيتون في أواني العام الفائت، وستتخلى عن الجوز أيضاً.
تعتبر صناعة المكدوس جزءاً من ثقافة الطعام السورية التي يتوارثها الأولاد عن الآباء والأمهات، تتحدث الصحفية والباحثة الثقافية نور أبو فراج، لرصيف22، أن الطعام يعتبر من التراث اللامادي، لأن التمييز لا يعتمد على المكونات، إنما على طريقة التحضير التي تنتقل من جيل لجيل، والواضح بالمكدوس أنه هو تراث لامادي، ابتداءً من مراحل صنعه الأولى من اختيار مادته الرئيسية الباذنجان، وصولاً لطرق صنعه كاملة، وتتابع أبو فراج: "أعتقد أن أي شخص يشاهد كيفية صناعة هذا الطبق، يسأل كيف تطورت طريقة التحضير، حتى وصلت إلى ماهي عليه الآن".
عاد أيلول مجدداً، وبدأت عائلات بالتفكير بالمؤن الشتوية، فالرفوف في أغلب البيوت تعاني من جفاف المؤن مع بداية كل عام جديد، الرفوف التي اعتادت أن يزينها المكدوس بداية كل أيلول، خجلى هي اليوم في البيوت السورية
طقس جماعي ثقافي
"مافي ست بحلب أو صبية ما بتعرف تعمل مكدوس، ومكدوسنا أطيب من مكدوس الشام"، هكذا ردت السيدة الحلبية مخلصة طحان، 55 عاماً، عند سؤالها عن أصل طبق المكدوس، وقالت: طبعاً حلب!
السيدة التي ورّثت صناعة المكدوس لأفراد عائلتها، قررت أن هذا الطبق يعود بأصوله لمدينتها، لكنه هذا العام لن يحضر على مائدة الشتاء، فحال الأسرة لا يسمح بصنع المكدوس، وخصوصاً أن معظم أهالي حلب يستخدمون زيت الزيتون لصنعه، لذلك 70% من أهالي المدينة لن تصنع المكدوس هذا العام حسب تقديراتها، وتقول ذلك بحسرة، وتشرح لرصيف22 كيف كانت العائلات تساعد بعضها بعضاً في صناعة المكدوس، فالعائلات الحلبية قبل الحرب كانت تضع كميات كبيرة منه في بيوت المؤن.
وهذا ما تؤكده الصحفية نور أبو فراج، بأن صنع المكدوس هو طقس مثير للاهتمام لأنه طقس جماعي، وفيه مراحل كثيرة تتطلب الدقة، وتنتقل جيلاً بعد جيل، وهو طقس يشارك به كل أفراد الأسرة، ابتداء من الأطفال وصولاً للرجال، وخصوصاً بالمهام التي تتطلب جهداً عضلياً، مثل سلق المكدوس وكبسه.
منافسة شريفة
ربما لا تخلو عائلة سورية، من ذاك الفرد الذي يشبه شخصية الفنان فادي صبيح، "سلنغو"، بمسلسل "ضيعة ضايعة"، وهو يردد أمام زملائه: "يلي ماداق مكدوس أمي ما أكل!"، بذات المفردة تتنافس النسوة من هي صاحبة "الطبق الألذ" من المكدوس، رغم أن طريقة التحضير واحدة في كل المحافظات السورية والمقادير واحدة. هنا تعقب أبو فراج أن تنافس النساء بموضوع الطعام عموماً والمكدوس خصوصاً، يعكس ويؤكد علاقة الناس بالطعام كثقافة، وهي مساحة جميلة، فيها قيم تخص التعامل، بالأخص أن هذا الطبق بتحضيره قائم على المساعدة بين العائلات.
لا تقتصر المنافسة بين النساء على من منهن تتفوق في صنع المكدوس، بل كل منهن تنسب أصل الطبق التراثي إلى مدينتها، رغم أن بعض المواد الصحفية التي كتبت عن الطبق كتراث ذكرت أنه أصوله حلبية.
عن هذا تقول نور أبو فراج: "الحقيقة لا يوجد معلومة عن أصل المكدوس، وحسب دراستي لأطباق سورية ثانية، المهم ليس المدينة بل المنطقة الجغرافية، فدراسة أي طبق تثبت أن المناطق الجغرافية التي تتوافر فيها نفس المكونات وتكون حاضرة بمتناول الناس، يمكن أن تطور أطباقاً شبيهة ببعضها، فالبيئة الطبيعية بكل منطقة تفرض مجموعة من المكونات، وتلزم البشر بمرحلة معينة بصنع أطباق، وكانت مكونات المكدوس متوافرة بكثرة في الشمال السوري، لذلك من الممكن أن تكون البداية بحلب لأنها هي أصلاً نقطة التقاء لأكثر من مدرسة بالطبخ، أرمنية وتركية، وهذا ما يمكن أن يفسر أنه يعود لحلب، وهو مثل كل الأطباق التي تطورت حتى وصلت إلى شكلها الحالي".
أمهات اليوم ورثن عن الجدات ثقافة صنع المكدوس الدسم المدعوم بجوزه وزيته، يورثن لبناتهن وأبنائهن اليوم ثقافة لا يريدون التخلي عنها، لكن يعلمهن التأقلم مع الواقع لصنع مكدوس بأقل التكاليف، كيلا يغيب طبق السوريين والسوريات عن موائدهم يوماً
الواجب مقدس
رغم شكوى العائلات من غلاء أسعار كل مكونات طبق المكدوس التراثي، إلا أن هناك إصراراً من الغالبية على مواصلة تحضيره، حتّى لو بكميات قليلة مقارنة بسنوات سابقة، كما والاعتماد على الفستق بدل الجوز، وعلى الزيت النباتي بدلاً من زيت الزيتون، هذا الإصرار الذي يمكن ملاحظته من أجوبة أم حيان وأم محمد، ومن منظر السيدات والرجال السائلين عن مكونات المكدوس في أسواق الخضار.
تبرر الباحثة نور أبو فراج هذا الإصرار الحالي بأن هذه المؤن توفر على الأمد الطويل لأنها تبقى على مدار السنة، والناس يسألون: ما هو البديل؟ أما الجانب الآخر من الإصرار على تحضيره فهو نفسي، وهذا الشيء لا يسقط على المكدوس فقط، إنما على أطباق أخرى. فعلياً يوجد للطعام بعدٌ نفسي وثقافي غير مرتبط فقط بالحاجة للطعام، فالناس مثلاً عندما يتخلون عن عادة تموين المكدوس، هذا إعلان صريح واضح بأنهم صاروا فقراء تماماً، أو بمرحلة خسارة اقتصادية كبيرة جداً، استيعاب الفكرة صعب، حتى لا يشعروا أنهم وصلوا للدرك الأسفل.
أمهات اليوم ورثن عن الجدات ثقافة صنع المكدوس الدسم المدعوم بجوزه وزيته، يورثن لبناتهن وأبنائهن اليوم ثقافة لا يريدون التخلي عنها، لكن يعلمهن التأقلم مع الواقع لصنع مكدوس بأقل التكاليف، كيلا يغيب طبق السوريين والسوريات عن موائدهم يوماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون