شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"والله مو مبيّن عليكِ إنك عربية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 24 أغسطس 202003:26 م


"شو مفكرتينا عايشين بأوروبا؟"، جملة كان أبي يكرّرها في مناسبات عديدة عند طلبي العودة متأخرة قليلاً إلى البيت، أو عند ارتدائي ملابس يعتبرها "غير محتشمة"، أو عند حديثي مع أصدقاء "شباب". ثم عبارة: "بدك يانا نعيش متل الأفلام الأجنبية؟! عرب نحنا". نعم عربية أنا، ضاعت مني هويتي مرتين: مرة في بلدي العربي سوريا، ومرة أخرى في بلاد الأجانب.

غربة في البلد الأصيل وغربة في قلب الغربة

في سوريا كنت أحلم بالعيش متحررة من العادات وكلام الناس، والأكثر: من الخوف، خوف من التأخر دقيقة عن موعد العودة إلى البيت، خوف من أن أعبّر تماماً عن مشاعري ورأيي، خوف من أن تكشف كذبتي ويكتشف أهلي أني بالفعل خرجت إلى السوق، ولكن مع من أحب، حتى لو كنا لا نفعل "العار"، بل نريد أن نتمشى ببساطة ككل الأحباء، وننسج ذكريات في حارات دمشق القديمة. ومن هناك خرجت وسافرت وحيدة، حيث لا خوف من الأهل والجيران، ولكن هنا بات السؤال: "شو يعني هلأ إذا عشتي بأوروبا صرتي أوروبية؟"، لأضيع من جديد في كل مرة أُسأل فيها عن أصل اسمي، أو من أين أنا، والأكثر أن أسمع إجابة: "بس مو مبين عليك من سوريا"، لأسأل نفسي: كيف تبدو السوريات؟ ويختل توازني على حبل الأحكام المسبقة الرفيع والحاد.

"والله من سوريا"

أفرح لدى ذهابي لشراء "ملوخية" مثلاً، فهي من أطباقي المفضلة، أو "طحينة"، وفي كل مرة أدخل بقالية عربية في باريس أو برلين، أو مدينة أوروبية أخرى، ولحظة الحساب، أبتسم وأتكلم مع صاحب المحل بالعربية، سعيدة لتمكني من التواصل بلغتي، لأسمع العبارة المستهجنة نفسها: "ليش إنت عربية، والله فكرتك أجنبية"، لماذا؟ أجيب مستغربة أحياناً، ضاحكة أحياناً أخرى، فيجيبون: "هيك والله مو مبين عليك"، فأرتبك وأخجل وأسأل نفسي: كيف يمكن أن يعبّر شكلي عن هويتي وثقافتي؟ هل هي وشومي؟ هل هي ملابسي؟ ليست كل العربيات محجبات ولا مسلمات حتى، فما سبب إخراجي قسراً عن هويتي؟ وأبدأ بالشك.

حالة رفض وطرد من صورة الفتاة العربية، أو كيف يتوجب على الفتاة العربية أن تكون، وأعود لأتذكر أبي ومقولته عن أننا لسنا أجانب. ولكن يا أبي، لا يعرف صاحب المحل أي وقت أعود فيه لمنزلي، ولا مع من قضيت وقتي، ولكنه ببساطة أخرجني من هويتي وشبهني بالأجانب، هل السبب لهجتي؟ ربما ابتسامتي؟ أحتار وأحزن، ثم أحاول التفكير بإيجابية، فأقول لنفسي: ربما هي من عبارات المجاملة التي لم أعرفها من قبل؟ ولكن إن كانت غزلاً مثلاً فهل يعني أنني أجمل إذا كنت أوروبية؟ ولتشككي في الإجابة، أذوب خجلاً وأخاف من إنكاري مرة أخرى من أصولي وأكرر: "من سوريا أنا... والله من سوريا".

 "شو يعني هلأ إذا عشتي بأوروبا صرتي أوروبية؟"، لأضيع من جديد في كل مرة أُسأل فيها عن أصل اسمي، أو من أين أنا، والأكثر أن أسمع إجابة: "بس مو مبين عليك من سوريا"، لأسأل نفسي: كيف تبدو السوريات؟ ويختل توازني على حبل الأحكام المسبقة الرفيع والحاد

أمثّل نفسي فقط

سؤال بسيط يطرح على أي غريب في أي بلد لا تتكلم لغته أو لا تشبه أهله:

- من أين أنت؟

- (أتحاذق)… خمّن

- من إسبانيا؟ - لا - من إيطاليا؟ - لا - من إسرائيل؟

- لاااااااااا من سوريا

وهنا تبدأ حالة الدهشة يتبعها فيض من الأسئلة، والعجيب أن يكرر الأوروبيون كلام العرب ذاته: "ولكن لا تبدين عربية"، يلحقها: "هل لديك جذور أخرى؟"، أو: "هل كل السوريات يشبهنك؟"، أو حتى اعتبار إجابتي على أنها دعابة والضحك، ثم سؤالي مرة أخرى: "من أين أنت في الحقيقة؟".

وعند إصراري وتأكيدي، يفتح أمامي باب صندوق الفتاة العربية على مصراعيه، ليحشرني الآخر داخل علبة لا تناسبني، ويتحول أي حديث مع ساعي البريد أو متشرد كان يسألني مالاً أو سيجارة، أو حتى مع شاب استلطفني، إلى حديث سياسي عن الحرب والمعاناة، وعن أهلي، وسبب وجودي في أوروبا، وطريقة وصولي، وحتى سؤالي إن وصلت بالطائرة أم بالقارب، وعن تفاصيل حياتي الشخصية، وعن ماضيّ وغيره… ورغم فهمي لهذه الحالة الفضولية الإنسانية بالشكل العام، إلا أن تكرارها بعدد مرات تردادي لاسمي، ومنذ أكثر من تسع سنوات، بات أمراً مرهقاً.

بالإضافة إلى السؤال حول كيف يمكن لشكلي أن يكون هكذا وأنا فتاة عربية، بات متعباً أكثر، فيُفترض غالباً أنني مسلمة، لا أشرب الكحول مثلاً، لا أخالط الذكور ولا أعرف أي شيء عن الثقافة الأوروبية، وكأنني جاهلة أو أعيش في قوقعة بعيدة عن مكان وجودي. وبما أني نباتية، فعندما أرفض أكل اللحوم يكون الرد: "ولكنه ليس لحم خنزير!". لا فرق.. خنزير أو خروف أو ضفدع، حلال أم حرام… لا فرق! أنا نباتية! هل هذا أيضاً يصعب فهمه؟ أم أن العربيات لا يمكن أن يكن نباتيات!؟

عدا طبعاً عن سؤالي إن كنت لاجئة، والحديث عن اللاجئين وكثرة المهاجرين في أوروبا، وعدم فهم الناس لماذا نأتي إلى هذه البلاد. وأجد نفسي محامية دفاع عن العربيات واللاجئين وحقوق الإنسان. كأني أقف على المنصة وسط شارع عام، أو في مقهى، أو حتى في حفلة ما، ولا أتحدث عما أحب أو ما أعمل، أو آرائي الشخصية عن الحياة، وإنما أحاور وأدافع عن الفتيات العربيات، وعن الصورة النمطية، وعن حق كل إنسان أن يكون مختلفاً بغض النظر عن جنسيته، تربيته، ثقافته، عرقه أو دينه، فأضيع مرة أخرى وأنسى نفسي، وأعود لأقول: أنا أمثل نفسي فقط... ولكن لحظة: من أنا؟

بما أني نباتية، فعندما أرفض أكل اللحوم يكون الرد: "ولكنه ليس لحم خنزير!". لا فرق.. خنزير أو خروف أو ضفدع، حلال أم حرام… لا فرق! أنا نباتية! هل هذا أيضاً يصعب فهمه؟ أم أن العربيات لا يمكن أن يكن نباتيات!؟

حكمي على نفسي

غريبة في دمشق وغريبة في الغربة، ولا أتسع في صندوق يكتب عليه عنوان ما وأنسى داخله: من أنا؟

تربيتي وثقافتي العربية تطلب مني أشياء لا أستطيع تنفيذها، فلم أقتنع بها يوماً ولكنني ما زلت عربية الاسم والهوية. أتفق مع الأوروبيين في بعض المفاهيم وأختلف معهم في أخرى. دافعت عن نفسي كثيراً أمام العرب والغرب، حتى بدأت أشكك في حكمي على نفسي وعلى كل الأشياء من حولي. هل أفعل هذا كما تفعل البنات العرب أم الأجانب؟ هل أرفض هذا لأن أهلي يرفضونه؟ هل أقبل ذاك لأنني أعيش في أوروبا؟ كيف يمكن أن آكل طعاماً من كل بلدان العالم، ألبس ثياباً تتفق مع الموضة الدارجة أو تخالفها، أخاطب الله بكل اللغات التي أتحدثها وأتماهى مع كل الأديان ولا أمارس أياً منها؟

من الهند إلى أوروبا مررت عبر العديد من الألوان، ولست بيضاء أو سوداء أو رمادية. من أنا؟ كيف عليّ أن أكون؟ وهل سأغوص وأختفي في محاولة إقناع الآخر أنني مجرد إنسان، وهل يحقّ لي أن أكون مختلفة كحق الجميع في الاختلاف؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image