قابلت سانغاي في مطار الكويت، وأنا أنتظر طائرتي المتوجهة إلى العاصمة الهندية نيودلهي. دعاني بإنجليزية رقيقة إلى طاولته لعدم وجود أخرى شاغرة، قام بتقبيل أنامله ووضعها على جبينه في حركة فلكلورية، كالتي نقوم بها عندما نحمد الله ونقبل أيدينا، سألته ما معنى تلك الإشارة؟ فأجاب أنه يشكر الإله، ومن هنا علمت أنه هندوسي.
لماذا خفت؟ هل هذا لتأثير المرة الأولى التي أرى بها شخصاً ينتمي لدين لا أعرفه، أم أنها بقايا أفكار شاردة كانت تراودني عندما كنت أشاهد الأفلام الهندية في فترة المراهقة، وكنت أتساءل: كيف لعلماء وأطباء ومبدعين أن يعبدوا إلهاً صنعوه بأيديهم، بعد مئات السنوات من اختفاء "عبادة الأصنام" في الأراضي العربية؟
لم أتمكن من كسر "الحاجز النفسي" إلا عندما قمت بزيارة تاج محل. هناك وجدت أعداداً كبيرة من الهندوس يخلعون أحذيتهم قبل الدخول، لأنه يعتبر مسجداً ومقبرة. قمت بتمييزهم بناء على ملابسهم، بعدما شرح لي أحد رفاقي أن الهندوس يرتدون الساري والكورتا.
"كنت أضحك عندما أراهم"
شعر حازم درويش، مصري مقيم في الكويت، مدير موارد بشرية، حيال زملائه وأصدقائه الهنود هو الآخر بالغرابة، والتخوف بداية، وكانت تجتاحه تساؤلات من قبيل: هل يجب أن أثق فيهم على المستوى المهني أو الإنساني؟
يقول حازم: "كنت أعتبرهم معزولين عن العالم أو أغبياء، إلى حد كان يجعلني أضحك بشدة عند رؤية أفلامهم أو ممارستهم الطقوس الدينية".
بمرور الوقت بدأت نظرة حازم لزملائه الهندوس تتغير، بل وتتحول إلى صداقات، يقول لرصيف22: "كوني مؤمناً بأن أتعامل مع كل شخص بحسن نية إلى أن يثبت العكس، ساعدني هذا كثيراً في التقرب منهم شيئاً فشيئاً، ولكن بحذر، نظراً لأشياء كثيرة حول عقائدهم وما يترتب عليها".
وبعد توطد صداقته معهم، تغيرت نظرته لمعتقداتهم، يحكي حازم: "اكتشفت الكثير من الحقائق التي جعلتني أعتبرهم أصدقاء وليس مجرد زملاء، أهمها أن فكرة عبادتهم أو تقديسهم للبقر ليس بسبب قلة ذكائهم، ولكنها تعاليم وعقائد وثقافة منذ الآلاف السنوات، وحتى لو صعب علي إدراكها لابد أن أحترمها".ليس ذلك فقط، بدأ حازم يشعر بحسن طباع أصدقائه وأخلاقيات تعكس ثقافتهم الهندية، يقول: "اكتشفت أيضاً أن لديهم قلب صاف، طيب أكثر من جنسيات أخرى عاشرتها، ولكن يشعرون بخوف من الآخر، وهذا يرجع لتجارب كثيرة مروا بها مع أشخاص رافضين لهم ولمعتقداتهم".
"لماذا تعبدون البقر ياصديقي؟"
"نحن غراباً عك عك، we are eating your god، كانت تلك أبرز المزحات التي كنت أسمعها لزميلي راج الهندوسي"، يقول نديم أحمد (28 عاماً)، من البحرين.
كان أحمد يتذكر الأفلام العربية القديمة التي تظهر "كفار قريش" وحقبة الجاهلية في فترة ظهور الإسلام، مثل "فجر الإسلام" و"الشيماء"، ومؤخراً حلقة من مسلسل "فيفا أطاطا"، في دور شهير للممثل محمد سعد "اللمبي"، وتتقافز في عقله كلمات ساخرة، مثل أغنية "نحن غرابا عك"، والأداء الكوميدي لشخصيات جسدت "كفار قريش". ولكن صديقه راج كان يبتسم، رغم سخريته وتكرار سخريته من خلفيته الدينية، يقول: "تبسُّم راج في وجهي ببراءة، وتقبُّله لمزاحي السخيف، رغم أنه يعلم أنني أسخر منه، جعلني أفكر: هل تلك سمات كل الشعب الهندي أم أنه يخشاني لأنه بعيد عن وطنه وأنا في وطني؟".
"اكتشفت الكثير من الحقائق التي جعلتني أعتبرهم أصدقاء وليس مجرد زملاء، أهمها أن فكرة عبادتهم أو تقديسهم للبقر ليس بسبب قلة ذكائهم، ولكنها تعاليم وعقائد وثقافة منذ الآلاف السنوات، وحتى لو صعب علي إدراكها لابد أن أحترمها"
بعد مرور أربعة أشهر على علاقة أحمد براج، قرر التوقف عن "عادته السيئة" في السخرية منه، يقول: "في مرة تجرأت وقمت بسؤاله: "راج لماذا تعبدون البقر؟ وكان الرد صادماً بالنسبة لي".
أوضح راج لأحمد أنهم لا يعبدون البقر بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن البقرة هي مخلوق مفضل للرب ورمز الخير على الأرض، لذلك البقرة مقدسة. كما يتم تقديس النار وبعض الحيوانات الأخرى، كل حيوان يرمز إلى شيء أو شخصيات في أزمنة سحيقة تجلت لهم بمعجزات، اعتبروها دليل على قربهم من الرب، والإله الذي يسكن السماوات اسمه "أوم".
"أنا وآلهتهم في شقة واحدة"
اضطر عبدالله مصطفى، مصري (32 عاماً)، أقام فترة في الإمارات، أن يتعامل مع شريك سكنه والذي أصبح صديقه المقرب، نيرمال الهندي، يقول: "نظراً لظروف عملي لمدة 4 أعوام في دولة الإمارات، وكما هو متبع أن يكون السكن مشتركاً، فكان عليّ أن أجد غرفة في منزل مستأجر، و بالفعل وجدت غرفة شاغرة مع شاب هندي، يعمل مهندس اتصالات".
تردد عبدالله في البداية، فهو يسمع أن الهنود لا يهتمون بالنظافة الشخصية، ولكن وجده على العكس من ذلك وتطورت العلاقة، يقول: "بعد أيام من إقامتي بالمنزل اكتشفت أنه يضع تمثالين و صورة، قال لي إنها آلهته، وهنا كانت صدمة حقيقية لي، فأنا شاب متدين أؤدي الفروض الخمسة، وأحرص على كل شعائر الدين الإسلامي، لذلك كنت أجد أن تواجدي في منزل مع هؤلاء الآلهة قد يكون حراماً".
وكان ما يدهش عبدالله أن نيرمال لم يبد أي اعتراض على أدائه الصلاة أمامه، بل كان يبتسم بإعجاب، لذا قرر عبدالله أن يستشير أحد المشايخ، فأفتاه: "لكم دينكم ولي ديني، و ما دمت لا أقيم معه بنفس الغرفة فلا توجد مشكلة".
لم يتلاش خوفي من الهندوس إلا تدريجياً، عندما كنت في ضيافة أسرة مدير أعمال فنان هندي سأحاوره، وجدت في قربهم وداً واحتراماً وذكاء ودفء الأصدقاء والأسرة، ومن هنا تشجعت، وقررت أن أبادلهم تلك المشاعر الإنسانية، وزرت المعابد الهندوسية
ولكن عبدالله ظل قلقاً لفترة، حتى أنه فكر في مغادرة المنزل، ولاحظ نيرمال، وبدأ يغلق على نفسه غرفته أثناء أداء شعائر العبادة، يقول لرصيف22: "ظل يعاملني بنفس اللطف، ولكن كان حذراً في التحدث معي بأمور تخص الدين، وهنا أدركت أن الحرام ليس في تواجدي مع هؤلاء الآلهة في منزل واحد، ولكن الحرام هو أن أجعل شخصاً يخشى عبادته أمامي خوفاً من ردود أفعالي، لذلك قلت له لا داعي لغلق الأبواب مرة أخرى، وأن له كامل الحرية في أداء شعائر صلاته كما أفعل أنا".
الإمارات كانت أولى الدول العربية التي شيدت بناء أول معبد للهندوس في العالم العربي، وفي إبريل 2019 تم وضع نصب تمثال بوذا على الطريق السريع الواصل بين أبو ظبي ودبي، وذلك نظراً لوجود عدد لا يستهان به من العاملين في دولة الإمارات يتبعون الديانة البوذية، وكذلك الهندوسية.
بعد رجوع عبدالله إلى مصر، بات يتذكر علاقته مع صديقه الهندي بتقدير، يقول: "يظل نيرمال هو الصديق الأقرب إلى قلبي، بعد العديد من المواقف والذكريات التي لا تنسى بيننا".
أما أنا، فلم يتلاش خوفي من الهندوس إلا تدريجياً، عندما كنت في ضيافة أسرة مدير أعمال فنان هندي شهير سأحاوره، وكانت تلك الأسرة هندوسية، وجدت في قربهم وداً واحتراماً وذكاء ودفء الأصدقاء والأسرة، ومن هنا تشجعت، وقررت أن أبادلهم تلك المشاعر الإنسانية، وقمت بأولى زياراتي للمعابد الهندوسية معهم.شعرت بالراحة داخل المعبد، ليس لسبب ديني، ولكن لأن بيوت العبادة دائما ما تحمل هذه الأجواء من الإيجابية والسلام.
ولايزال تعليق، إحدى نساء الأسرة، أثناء تجوالنا في معبد هندوسي، عالق في رأسي ووجداني، حتى وأنا أكتب هذا المقال، قالت لي: "الرب طاقة، وتلك الطاقة موجودة في السماء، أما الإنسان فوجد أسماء كثيرة لتلك الطاقة، منها الله، أوم وأسماء أخرى، وكذلك أوجد رموزاً، ونحن نقدس تلك الرموز أما الإله فواحد، ولكن يراه كل شخص بشكل مختلف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...