عاش المؤرخ مارتينوس بولونوس "Martinus Polonus" في القرن الثالث عشر، وكتب كتاباً أسماه "تاريخ الأباطرة والبابوات،Cronikon Pontificum en Lemperatum"، ذكر فيه اسم كل بابا مرّ على رأس الكنيسة، أفعاله، صفاته، وما قدمه للكنيسة والرعية، وكذلك الملوك والأمراء. وكان عمله قد حظي بتقدير جميع البابوات الذين مرّوا على الكنيسة، وصدرت منه عدة طبعات وترجمات، وبينما يغطي كتابه الفترة حتى عام 1276 حيث توفي بعدها بسنة، استمر مؤلفون آخرون بتحديث هذا السجلّ، وإضافة مآثر البابوات الجدد، بحيث غطى الكتاب الفترة حتى عام 1500 تقريباً.
يذكر بولونوس العديد من القصص والمآثر عن رجالات الفاتيكان، وبعض القصص الغريبة وغير المفهومة أيضاً، فمثلاً يذكر أنه في عام 857 تم إعلان البابا يوحنا الثامن، ثم بعد ذلك بحوالي عشرين سنة تم إعلان اسم البابا الجديد باسم يوحنا الثامن مرة أخرى، وكأن هناك باباوين بنفس الاسم، ثم يذكر من السجلات القديمة تفاصيل قصة على قدر كبير من الغرابة، تم طمسها لاحقاً من النسخ الجديدة من كتابه، بل ومن تاريخ الفاتيكان كله أيضاً.
طقوس ترسيم البابا الجديد
ذكرت العديد من المواقع المتخصصة بعض الطقوس المصاحبة لترسيم البابا، رأس الكنيسة الكاثوليكية وخليفة الله على الأرض، بعض هذه الطقوس فخرية ومقدسة، وبعضها يشوبه شيء من الغموض الطريف. من أطرف الطقوس طقس يدعى "خلع الملابس"، حيث يجلس البابا الجديد على كرسي مثقوب، بحيث تتدلى أعضاؤه الجنسية من الثقب، ثم يتولى أصغر الكرادلة مسألة "جسّ" الأعضاء التناسلية للبابا الجديد، ثم يصرخ:"Duo testis bene bondeta"، أي لديه اثنتان ومعلقتان بشكل متين، فيصرخ حشد الكرادلة الحاضرين: "Deo gratias" أي لنشكر الله!
من الطقوس المصاحبة لترسيم البابا طقس "خلع الملابس"، والذي يدلي فيه البابا أعضاءه التناسلية من كرسي مثقوب، ليتم جسها من قبل أصغر الكرادلة، ثم يصرخ: لديه اثنتان ومعلقتان بمتانة
ما أصل هذا الطقس، وكيف أصبح جزءاً من مراسم تنصيب بابا الفاتيكان؟
حسب نفس المؤرخ، يعود الأمر إلى العام الميلادي 859 تقريباً: كان البابا يوحنا الثامن الذي تلقى ترسيمه عام 857، ذا جمال أسطوري فاتن، لكنه لا يستخدمه لإغواء الفتيات، فقد تعهّد بالعفة. بابا سيادي ممتاز، نادراً ما غادر قصره، يحمل بجدية لا تشوبها شائبة، على كتفيه النحيلتين، عبء الخطاة، ويسعى لمصالحتهم مع الرب وتدبير غفرانه.
لكن الأمور لا تسير دوماً على النحو الذي نريده، فالرب يمتلك خططاً غامضة على الدوام، ففي أحد احتفالات صعود يسوع إلى السماء، قرر مشاركة الناس في الاحتفال، فركب بغلته وسار في موكب عبر مدينة روما.
في الطريق تزاحم الناس لرؤيته، التبرّك به ومحاولة لمس الرجل المقدس، ويقال إن بعض النساء أغمي عليهن لشدة جماله ولسحره قدسي الهيئة، فجأة وقع ما لم يكن أبداً بالحسبان: لقد سقط البابا الفاتن على حصى روما، وبدأ بالصراخ وهو يضع يديه الاثنتين على بطنه..
هرع الناس لنجدته، ولكن، وتحت أعين جمهور المؤمنين الذاهلة، كان ثمة جنين وردي اللون يخرج من تحت القفطان المقدس: قد يبدو غريباً ما نقول، لكن... لقد أنجب البابا يوحنا الثامن طفلةً للتوّ.
ثوان من التردد قبل أن يكتشف الجمهور أن البابا في الحقيقة هو "ماما"، أو بابا مؤنث مثلاً، تنتاب الجمهور المؤمن، وكرادلة الكنيسة الذين لا يسمحون أبداً بهذا الزيف، لحظة وحشية من الإحساس بالخديعة، ويقومون برجم البابا المؤنث وطفلته بالحجارة حتى الموت..
عودة إلى الخلف
بالعودة إلى تاريخ حياة هذه المرأة/ البابا، كانت امرأة انجليزية ولدت تحت اسم جون بالقرب من ماينز في ألمانيا، وكان أبوها مبشراً. القريبون منها كانوا يدعونها جلبيتا Gilbetta وأحياناً جوتا Jutta. بدأت بعمر 12 عاماً بلبس ملابس الصبيان والتشبّه بهم، حتى أن من يراها لا ينتابه الشك أبداً بأنها صبي. ولأن التعليم كان مرهوناً للذكور ولرجال الدين فحسب، بدأت بالتنقل كرجل وقامت بدراسة الفلسفة في أثينا، ثم الرحيل إلى روما بعدها لتنضمّ للسك الكنسي بعد التنكر بزي الرجال، وتدرجت في المناصب وأقامت علاقات ممتازة مع جميع كرادلة الفاتيكان، نتيجة لباقتها ولطفها ومسيّحيتها التي لا تشوبها شائبة، وترشحت لمنصب البابا بعد وفاة ليو الرابع عام 857 وحصلت عليه بمباركة الجميع، واتخذت لقب "يوحنا الثامن"، واستمرت في هذا المنصب عامين وخمسة أشهر وأربعة أيام.
لقد هزّ هذا الحدث بعمق رجال الكنيسة، ودفنوا الجثتين في نفس المكان الذي رجمتا به، ووضعوا شاهدة من المرمر وتمثالاً يصور امرأة تحتضن طفلة، قبل أن يأتي البابا بيوس الخامس أواخر القرن السادس عشر ويأمر بإزالة التمثال والشاهدة ومحي كل ما من شأنه أن يظهر الأمر في أرشيف الفاتيكان، وبعدها أصبح لزاماً، لضمان عدم تكرار هذه الخدعة، "فحص" البابا الجديد للتأكد من رجولته.
يشكّك العديدون بهذه القصة، ويقولون إن البابا يوحنا الثامن ذاك لم يكن موجوداً أبداً، رغم وجود العديد من التفاصيل الأخرى التي توردها الكتب التي تناولت القصة، لكن الأمر يعزى إلى الشيطان دائماً الذي يكثر من التفاصيل.
ما قصة الرسالة التي أرسلها البابا ليو التاسع إلى بطريرك القسطنطينية في منتصف القرن الحادي عشر، والتي يقول فيها "إن امرأةً احتلت مقعد أحبار روما"؟
خلال العصور الوسطى، ذُكر البابا يوحنا الثامن في العديد من الأعمال، إضافة لكتاب "تاريخ البابوات والأباطرة" سابق الذكر، قيل إن البابا ليو التاسع نفسه ذكر في رسالة إلى بطريرك القسطنطينية، في منتصف القرن الحادي عشر "أن امرأة احتلت مقعد أحبار روما".
الجانب المذهل الآخر، أن الخليفة المذكور للبابا ليو الرابع، أي ما يفترض أنه المرأة المحتالة، هو البابا بنديكت الثالث، الذي لا يعرف عنه الكثير سوى أنه كان يرفض مغادرة قصره ومات في عام 858 فجأة، رافضاً الدفن في بازيليك القديس بطرس، معتبراً أنه "لا يستحق أن يكون بالقرب من القديسين".
ثمة رواية أخرى يمكن ملاحظتها هنا، بعض الوثائق في تلك الآونة تستخدم اسماً أنثوياً للتدليل على البابا يوحنا الثامن الجديد الذي جاء في عام 872، فتسميه "Papesse" بدل "Pape" و"Jeanne" بدل "Jean"، ويقال إن ذلك بسبب ضعفه في وجه كنيسة القسطنطينية القوية، وربما أيضاً وجود علامات على مثليته الجنسية آنذاك، والبعض يقول إن المسلمين من قاموا بالترويج للاسم.
هل قام الفاتيكان بخلط الشخصيتين لإخفاء هذا الأمر؟ أم أن هناك ارتباكاً شائناً حاول الجميع طمسه؟ أم أن الأمر مجرد مخيلة لا أكثر من أحد "الزنادقة" الملحدين؟ لا أحد يعلم فعلاً، لكن إحدى أوراق "تاروت مرسيليا" تحمل اسم البابا المؤنث، وترمز للأنوثة والانفتاح وازدواجية الرجل والمرأة، أي جميع الرموز التي تدلّ على البابا المؤنث يوحنا الثامن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...