شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
أرض السمك... الدرويش في مديح الشك والتغيير وفي هجاء الموت والقمع

أرض السمك... الدرويش في مديح الشك والتغيير وفي هجاء الموت والقمع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 26 يوليو 202012:37 م

يتألف ألبوم (أرض السمك) للفنان (هاني السواح، الدرويش) من 13 تراك-تسجيل تتنوع بين الموسيقي، الصوتي، والغنائي. لقد صمم المؤلف الألبوم على أساس بنية سردية تجعل منه وحدة متكاملة فنجد فيه المقدمة والفصلة، يتابعه المتلقي كما هو النص المسرحي أوالرواية. ويمكن مقاربته مع المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية التي تتألف من مقدمة، والحركات والخاتمة والتي تكرست بوضوح مع ظهور المدرسة الرمانتيكية في أوروربا. كلمات الألبوم بالكامل للدرويش، بينما الإنتاج للفنان مازن السيد الراس، مع أغنيتين من إنتاج مقاطعة والناظر.

ألبوم أرض السمك للفنان هاني السواح، الدرويش... خطوة يقدم من خلالها فناً ملتزماً هاجسه التغيير ، عن طريق موسيقى معاصرة قادرة على أن تعكس التجربة السياسية والاجتماعية

"بركي بشد الأمة وحيلا"

المقدمة بعنوان (كأني لم أداعبها) يمرر المؤلف خلالها تسجيلات من أغانٍ عربية معروفة مثل (سليمى، محسن أطميش) و(نبتدي منين الحكاية، عبد الحليم حافظ) نسمعها على إيقاع موسيقى الداب تمبو Dubtempo، مدموجة مع مقتطفات من نشرات الأخبار، نسمع فيها عن أحداثاً سياسية من الحرب العربية الإسرائيلية، الغزو الأمريكي للعراق.

من الموضوعات التي يتناولها ألبوم أرض السمك للدرويش، موضوعة لجوء السوريين إلى أوروبا طلباً للجوء، وتفاصيل عنف الحرب السورية ونكبة التشريد واللجوء بطريقة تربط قصته الخاصة بقصص الشباب السوري

إنها المفارقة بين الأغان العربية الغارقة في العشقيات وبين واقع الحالي السياسي والإجتماعي الذي تعيشه المنطقة. مما يوحي بأن المؤلف ينتقد هذه المفارقة، بحثاً عن موسيقى محملة بموضوعات أخرى، قادرة على أن تعكس التجربة السياسية والإجتماعية. سنتلمس في كلمات أغان الألبوم مقدار تمسك المؤلف بفن الإلتزام، فن التغيير، في الأغنية التالية مثلاً، ترد عبارة: "بشد على كلامي بركي بشد الأمة وحيلا".

العبارة السابقة من الأغنية الثانية وهي بعنوان (ديك الجن)، يخصص المؤلف عدداً من أغنيات الألبوم للمدن السورية. هذه الأغنية خاصة بحمص، بالتجربة التي عايشتها المدينة حمص في السنوات الأخيرة بين الثورة، القمع، العنف المسلح، والضحايا. تخاطب كلمات الأغنية المدينة، تطلب منها أن تغزل الحكايات: "حمص اليقين واضح، فبخبي شكي جواتك، وبخبيكي جوا شكي".

تخاطب كلمات الأغنية زائر المدينة أيضاً، عليه الإنتباه عند الدخول كي لا يدهس دماغاً أو طفلةً قرب الحاجز، لأن العنف جعل الوقت في المدينة يتقدم على إيقاع صوت الطلقات، تقول الأغنية: "في حمص ألف جيفة وألف تابوت". ومع نهاية الأغنية، يوضح المؤلف السبب الذي دفعه للغناء لأجل حمص والدفاع عنها: "لأني بحبك، أنا منك، وأنت مني"، المغني هنا يقدم أسباب الإلتزام بالدفاع عن قضايا المدينة من الثورة إلى الحرية.

تحضر في كلمات الأغاني العديد من الإحالات حيث يصف المؤلف أناه الخاصة، في هذه الأغنية تجمع ذاته بين أساس التكوين والموسيقى: "أنا جفر مخبى بمكة، فيي سفر للتكوين وفيي سفر للدربكة". إن ذات المؤلف هنا تشبه الكتاب الذي تعنى بعض فصوله بأصل الوجود، وفصول أخرى من الموسيقى.

التراك الثالث هو سماعي بعنوان (فصلة 1)، نستمع فيه إلى حديث هاتفي فيما يبدو أنه نقاش أخوي حول موضوعة الهجرة إلى أوروبا طلباً للجوء، تنبه الأخت أخيها عن ضرورة اتخاذ القرار سريعاً، فالدول الأوروبية المستقبلة قريباً ستعلن اكتفاءها من استقبال اللاجئين، تقارن الأخت بين مصير الفلسطينيين أولئك الذين بقيوا في البلاد العربية وأولئك الذي اتجهوا إلى أوروبا كيف تغير مصيرهم. هذا الحديث الأخوي هو حديث كل عائلة سورية، بين الأخوة والأخوات على امتداد نكبة الهجرة السورية، يختاره المؤلف ليشكل جزءاً من ألبومه الموسيقي.

" نحنا ضيق صبر الثورة يلي ضلت صابرة"

أغنية (براني: أنا/نحن/أنتِ) تتعدد مستويات التأويل لكلماتها، فهي تنطلق من الذاتي: "مزاجي بركة مي وسخة"، إلى العام الجمعي: "لترضي سيد أو ترضي سما، عبيد للخوف وعبيد لحامي الحمى"، الجمع مقسم بين الإستلاب الديني وبين التبعية للسلطة، وتتبين الأغنية أساليب النضال للخلاص من القمع: "بيقولو كانت وقعت كل المخافر من ضحكة"، تتناوب الأغنيبة بين الحض على التغيير والنضال، وبين الواقع المأساوي الذي وصل له الراغبون في التغيير، وخصوصاً حضور الموت المستمر. وتوحي بعض العبارات بالسخرية من قرار النضال السلمي.

تتكرر الصور الشعرية المستمدة من الحكايات المقدسة في كتابات المؤلف، كما تتعدد القيم الداعمة للفنون. في أغنية (يمكن) يصف الكاتب جماعة تحيي الرقص عند باب النار، جماعة مهما تأكدت من كونها حقيقة حية، إلا أنه محكوم عليها أن تصنفها الذاكرة كأسطورة. إنهم الحالمون بالتغيير. اللازمة الغنائية في هذه الأغنية تقول: "ما رح اسكت، مارح اسكت"، هي جماعة تمثل الصوت العادل حتى لو لم يعد لها ما تتمسك به سوى سطور قصتها. هي جماعة تتمسك بمفهوم ال "يمكن"، أي محاولة التغيير، تنتهي الأغنية بالعلاقة بين الإمكانية والخلاص: "كل ما قول يمكن خلص، من يمكن بخلق خلاص". إيقاع الأغنية الموسيقي الحيوي يشجع على التأويل الداعي للعمل والتغيير الموجود في الكلمات.

دمشق الموت

أغنية (طريقك طريقة) تسعى إلى أسلوبية لغوية مغايرة، ينوع المؤلف في شعرية كلمات أغاني الألبوم. في هذه الأغنية يستلهم الشعرية الصوفية. فالأغنية هي غزلية بمدينة دمشق، والعنوان يأتي من الطرق الصوفية، فتقارب الأغنية أسلوبيات وجماليات الشعر الصوفي، فتحضر مفاهيم مثل: التوق، الصدق، الحقيقة، الجسد: " أتوقُ إليكِ صوفيّاً طريقكُ لي طريقة، أُخاتل الكذب كي أسمّيك حقيقة، أرمي الشمس في بحرك كي يشرق الجسد".

يقدم ألبوم أرض السمك للدرويش لقطات شعرية نجدها مثالاً عنها في أغنية "طريقك طريقي" عن مدينة دمشق: "قومي من الركامِ حطّمي جِباه الموتِ، غنّي شعبكِ أسطورةً وكوني صوتي لأغنّي"

لكن دمشق الموجودة في الأغنية هي دمشق المعاصرة، دمشق حضور الموت، تدعوها كلمات الأغنية للإنتفاض والنهوض: " للموتِ لحنٌ محزنٌ سينتهي، اخلعي مِئْزر الصمت أنا خلعتُ مِئْزري". الإنتفاض ما سيجعل المدينة حبلى بالحرية: "انتِ غيمةٌ حُبلى بطفلِ النور، حرّيةٌ أنتِ وأنتِ السور". ينشد المؤلف التماهي بين حاله المنتفضة وحال دمشق، على المدينة أن تنهض من الركام، أن تتجاوز الموت، ذلك يتم عبر الفن، بالغناء: "قومي من الركامِ حطّمي جِباه الموتِ، غنّي شعبكِ أسطورةً وكوني صوتي لأغنّي". ينحو الأداء الغنائي في هذه الأغنية أيضاً إلى الغناء الصوفي، حين يشارك صوت الجوقة خلف صوت المغني الأساسي، الجوقة تشكل الصدى، تردد بعض العبارات بمونوتونية صوفية.

قصيدة الراب

تراك (أترى؟) إلقاء شعري مع موسيقى سكونية، نستمع مباشرة إلى صوت الشاعر بما هو أقرب للقصيدة منه للأغنية، هذا يسمح للكاتب بالتعامل مع مفاهيم ويعالجها دون قيود القافية أو الغنائية، لذلك تنطوي (أترى؟) على حضور مفاهيم فلسفية:

" لا يروّض الدّهر ثورتنا.

تسبقنا خُطانا إلى الأمام.

لا يروّض الدّهر ثورتنا.

نرقص على أطراف الخلل.

يا أيها الموت المحدّق فينا... ما أتفهك".

إن الثورة مرتبطة بالإعتقاد الراسخ بأن الزمن يتحرك للأمام، تستمر الثورة مادامت هي القادرة على الرقص حول الخلل، لكن تخضع لنظام الموت والحياة. في القصيدة، يخاطب المؤلف الموت مباشرةً، يتوجه الكاتب إلى الموت بالشتيمة، بالتقليل من شأنه وتأثيره، هو نوع من تحد للموت، اعتبار أن كل ما هو خارج الحياة يدخل في حكم التفاهة.

لكن القصيدة حين تمدح الحياة تطالب بإستمرارية النضال للتخلص من الخوف، فتنتقد الأغنية من يقبلون بالذل ويكسبونه كساء الرضى:

"يتقاسمون الهواء الرّطب، ويعلّمون بعضهم كيف يلبس الذلّ ثياب الرضى،

مذ احتلّنا الخوف، وهرب جميع الأبطال من رواياتنا الشعبيّة

أتيت توقظِ المجزرة.

يا أيّها الموتُ المحدّق فينا... كول خرا".

ومن أبرز المفاهيم الفلسفية التي ترافق المستمع على طول الألبوم، هو مفهوم "الشك"، الذي يحضر بإستمرار في كلمات المؤلف. يحضر الشك في ثلاث أغانٍ في الألبوم، أبرزها في أغنية (أترى؟)، التي تنتهي بجدليات فلسفية بين السؤال والجواب، الدين والشك، فليس هناك من روح، بل الذات هي احتمالات:

" مشيتُ نحو طواحينٍ تشبهني،

راودت إجاباتي عن نفسها أن لا شفاء في سؤال.

لكنّي أدين بدين الشكّ، فلا بقاء لروحي... بل كلّ احتمال"



في نقد الثورة

تتميز أغنية (شوف الوضع) بدرجة مكثفة من السخرية، تنتقد الكلمات نوعاً من المدعين الذين يقودون الثورات من المقاهي وفي سهرات السكر والأحاديث الجنسية، نوع من المفكرين يمحورون كل الأجوبة حول الجنس أو السكس، يمضون الوقت في التحدث على كؤوس الكحول. الأغنية ترسم هذه الصور لهذه النوعية من المفكرين: "قام يروح بس ضيع من بعد سادس كاس، هدوا خيم اللاجئين أنسى وعمر راس".

في اللحظة الموصوفة، تهدم خيم اللاجئين بين المفكر المدعي تائه بين الكأس والآخر التي تغيب قدرته على المحاكمة أو الفعل، وحين يتلمس عجزه أمام هذا الحدث، يقرر النسيان ويشرع بالتدخين الفعل الذي يعبر عن الكسل واللامبالاة. ومجدداً، هناك انتقاد لثقافة التعصب، عدم التغيير، والطاعة: "نحنا رقبة عم تنقطع وعم تتصعب للسكين".

تحضر بإستمرار نية المؤلف في نقد الثورة والثوار أو الناشطين، وهي نقطة هامة تنقذ المؤلف من أن يصبح فناناً ثورياً، يجمل عالم الثورة نحو المثالية. في الألبوم تُنتقد الثورة، النشطاء، المناضلين في أكثر من مو ضع، لكن هذه الأغنية تنتهي بأبرز وأوضح هذه الإنتقادات: "ثورتنا اليوم نصبت مشانق وبكرا عليها مننشق". فمن المعروف أن الثورات المنتصرة ما تلبث أن تتحول إلى السلطة، وتفرض أفكارها ورؤاها، وتسعى إلى إنهاء المنتقدين أو المختلفين عنها في الرأي، فتنصب المشانق تحت اسم الثورة. في كتابها (في الثورة) تتطرق الكاتبة (حنة آرنت) إلى تحول الثورات من الإنتفاضة إلى السلطة القمعية، فضحايا سقوط النظام القيصري في روسيا لا يتعدون عشرات الآلاف، بينما ضحايا تشييد النظام الثوري الشيوعي بعده يتجاوزون السبعة ملايين ضحية.

صورة الأنا الثنائي

يحضر في هذه الأغنية واحدة من ألعاب الأنا الخاصة بالمؤلف المغني. فالمعروف أ (هاني السواح) قد اختار (الدرويش) كإسمه الفني، الذي ينتج أعماله الموسيقية من خلاله. في هذه الأغنية تظهر ذات (هاني السواح)، الذات الأصلية للفنان. فيقول في نهاية الأغنية: "هذا كان محدثكم العادي جداً هاني السواح، اعتذر على مداخلتي المفاجأة، وأترككم مع الدرويش". إذاً، إن ذات (هاني السواح) تظهر في هذه الأغنية مستقلة، يعبر المغني مباشرة عن ذلك. هي لعبة مرايا الهوية.

لقد كتب الشاعر (فرناندو بيسوا) ونشر الشعر تحت أربعة أسماء مستعارة، جعل لكل منها شخصية وأسلوبية مختلفة عن الآخر. كذلك العلاقة في هذه الأغنية بين الإنسان (هاني السواح)، والفنان (الدرويش). وعند سؤاله عن السبب الذي دفعه لاختيار هذه الأغنية لتكون على لسان (هاني السواح)، أجاب: "بأن هذه الأغنية موجهة لنقدم الناشطين السوريين في المجال الإنساني والسياسي، وأن هذا النقد يصدر منه بكون الإنسان السوري هاني السواح، وليس الفنان".

أرض السمك

الأغنية التي يحمل الألبوم عنوانها (أرض السمك)، تكثف العديد من الأسئلة عن الذات والهوية، وفيها تقريباً كل الموضوعات الموجودة في الأغان الأخرى. لكن ما يبرز في هذه الأغنية بوضوح هي الدعوة إلى العنف. تتكرر في الألبوم الدعوة إلى التغيير عبر الفعل، العنف، ويسخر في أكثر من موضع من محاولات التغيير عبر الثقافة. إن أي مستمع للألبوم سيتلمس بحذر دعوة الفنان المستمرة إلى العنف.

فمن المعروف، أن هذا الإنقسام الفكري حاضر في كل الثورات أو في كل أنواع النضال، بين من يؤمن بالنضال السلمي، وتيار آخر يؤمن أن التغيير يحدث عبر العنف. وكذلك، أنطرح السؤال على الثورة السورية بقوة في مرحلة من مراحلها، مما فتح تعدد في الآراء حولها. الفنان يسخر من السلمية: "قلي راسي إذا السلم لغة العقلاء جن"، إن العقل بالنسبة للمؤلف لا يقود إلى السلم. لكن الفنان لا يتوقف عند هذا الحد، بل يصرح المؤلف بأنه مقاتل، وأن ما يقدمه من غناء وموسيقى هو ليس فناً.

هل هي إشارة واضحة لتفضيل المؤلف العنف على الفن؟ القتال على الإبداع؟ تميل النصوص أحياناً بإتجاه هذه الفرضية: "أنا مقاتل فاللي عم تسمعه ليس بفن، أنا غير معني بمسميات جماد ما بتسمعني، أنا غير معني بتصنيفي". إنه يثور على مسميات الفن ، إنه تمرد كل فنان على التصنيف والتأطير.

(أرض السمك) تتضمن تراكيب فكرية في العلاقة مع الذات، مع الشك، مع النقد الذاتي، والثورة على الذات، ولعل واحدة من أجمل عبارات الألبوم، هي تلك التي يصف المؤلف نفسه فيها كغريب، كشك – يحضر مفهوم الشك مجدداً- المؤلف يثور على نفسه التي هو سجينها، تراكيب جدلية مبنية بدقة لتشمل تنويعات عن الذات: "أنا غريب أنا شك، أنا صليب نفسي، بنتمي لبرا السور عحالي بثور، أنا سجين حبسي".



التراك العاشر بعنوان (فصلة 2)، وهو أيضاً إلقاء شعري، وكما في (فصلة 1)، تعود موضوعة النزوح، الهجرة، اللجوء، الهرب من الموت التي عرفها المجتمع السوري على طول السنوات الماضية. في هذه القصيدة، تحاول قوافل الشام العبور إلى الشمال، قاصدة اللجوء أو الخلاص نحو الله. لكن الشمال الأوروبي يرفض استقبالهم، فيتأكد اللاجئ أن الله مفقود حيث اعتقد الخلاص.

تصف الكلمات هجرة السوريين الطويلة، قوافل مع أطفالهم يعبرون مخاطر الحدود بين الدول، تصف الغرقى بقوارب الموت التي تعبر المتوسط. لم يعد هناك مدى: "رأيت المدى مشدوهاً أمام ضيقنا". صورة غلاف الألبوم من تصميم (صدقي الإمام) تظهر سمكتان في البحر تعبران بجانب جنين له ملامح رجولة، مغمض العينين، قابع داخل محارة. الصورة تحيل إلى الضحايا من الأطفال الغرقى، إن السمك هو الشاهد على حجم المأساة، وتكاثر الضحايا من الغرقى، لأن قاع البحر أشبه بالمحارة التي تحتوي عديد الموتى.

عن الكبت والأنثى والنقص والاكتمال

الأغنية الحادية عشرة (ابن الكبت)، تمتاز بكون المؤلف يشارك المستمع عملية تأليف كلمات الأغنية، القافية، العبارات. يصرح المؤلف في البداية أن برأسه مقاطع كثيرة لتبدأ كلمات أغنيته، لكنها في كل مرة لا تصل إلى مستوى القصيدة. ثم ينتقد التكرار بين الشطر والآخر، ويصرح بين الحين والآخر أن هذه الأغنية مكررة، وأن ما سمعناه لا يحمل الجدة أو الإبتكار التي يبحث عنها. تميز الروائي التشيكي (ميلان كونديرا) بأنه يشرك القارئ في خياراته في كتابة الرواية، بناء الأحداث، وطبيعة الشخصيات، فتصبح الرواية نوعاً من المشاركة بين الكاتب والقارئ. في أغنية (ابن الكبت) نلحظ هذه الأسلوبية، حيث ينتقد المؤلف أغنيته وكلماته ويبين نقاط ضعفها أو ركاكتها من وجهة نظره.

يحضر مفهوم "الكبت" في علم النفس، لكننا من النادر أن يرن مصطلح الكبت في أسماعنا في أغنية. المؤلف هنا يعلن أنه (ابن الكبت)، ومجدداً تحضر ذات المؤلف بكونها شك، وكذلك  علاقة الذات بالموت: " أنا ذرّة شكّ بالوجود خلق يقين من العدم. أنا اللي راح بقارب موت أنا اللي بقي وانعدم". يرسم الفنان (محمد خياطة) اللاجئ والنازح بكونه حضوراً إنسانياً يحمل خيمة على رأسه، هذه الصورة التي تحضر أيضاً في الأغنية "ع راسك خيمة نازح" في إشارة إلى مصير الرحيل الدائم واللانهائي للهاربين من الحرب.

سؤال الذات يتجدد مرة أخرى، ولكن هذه المرة مع استعارة "الحكاية". المؤلف هو حكاية تخشى من أن تكرر نفسها، وتسعى لأن تخلق سرداً جديداً، لقد منح كل حنينٍ لديه إلى الموت، لا رفاهية للموتى أن يشعروا الحنين، جميعنا غارق في الموت حد أن يستدجي من الموت، ذاكرة: "أنا ابن حكايتي اللي بتخاف تعيد حالها وبدها تخلق سرد جديد. اعطيت حنيني للموت، والموت أعطاني ذاكرة".

يخاطب الفنان هاني السواح في كلمات أغنيته "روقي" الحضور المؤنث بالمطلق: هي الأم الحنون، هي العاشقة، هي الحبيبة الصديقة، هي الموسيقى، هي الأرض، هي الطريقة

أغنية (روقي) تخاطب المؤنث بالمطلق، هذا المؤنث قد يكون الأم، الحبيبة، الأرض، الموسيقى: " إيدي عم تتمشى عجسمها، لمستها حفظت كل تفصيل فيها، يمكن يوقع الكون إذا بتهزّ خصرها. في أمطار بكل شهقة وعندي عطش. أنا صحرا. عم أتوّحد بجسمها أتصوّف فيها واتصوف لها"، وفي الفقرة الأخيرة من الأغنية، تسلسل محاولات توضيح ما هو المؤنث المخاطب في كلمات الأغنية، فيقول المغني هي الأم الحنون، هي العاشقة، هي الحبيبة الصديقة، هي الموسيقى، هي الأرض، هي الطريقة. إنها علاقة المؤلف مع المؤنث المستقل عنه ومع المؤنث في دواخله.

الأغنية الأخيرة (نصف نص)، أقصر أغان الألبوم، تحمل في عنوانها لعبة لغوية بين الفحصى والعامية نصف تعني نص. توّصف الأغنية حالة ذهنية حيث الأفكار شذرات ناقصة، والجمل تعجز عن الإكتمال، إنها حالة من الخلل الغير قادرة على خلق الإكتمالات، رغم السعي المستمر لكن لا جدوى، لقد تعبت الأقدام من المشي لدرجة الشلل، دون أن تصل إلى مرادها. في العبارة الأخيرة من الأغنية تتماهى حال المؤلف مع حال المجتمع والعائلات السورية في حال الهجرة واللجوء، فيقول: "نصفي برا نصفي، عم يعمل لنصفي لم شمل". لم الشمل هو النظام الذي يسمح للاجئ بالمطالبة بقدوم أقاربه وعائلته. هنا المؤلف ينقسم إلى نصفين منفصلين، يطلب كل نصف لم الشمل مع الآخر. هو مجاز شعري يشمل ذات المؤلف وحال المجتمع في الآن عينه.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard