رحلات كثيرة نظّمها أعلام الفن الاستشراقي إلى المدن العربية، وخصوصاً إلى شمال إفريقيا، نذكر من ذلك رحلة فاسيلي كاندينسكي إلى تونس، ورحلتي الفنانين الفرنسيين، أوجين دولاكروا عام 1832، وهنري ماتيس عامي 1912 و1913، إلى المغرب الأقصى، كما تعلق الفنان الفرنسي إتيان ديني، بمدينة بوسعادة الجزائرية، اعتنق الإسلام وطلب أن يدفن فيها بعد موته، وتم تشييد متحف باسمه في هذه المدينة.
أما رحلة الفنان التشكيلي الألماني بول كليPaul Klee إلى مدينة القيروان التونسية، بمعية رفيقيه، أوغست ماكي ولويس مواييه، فقد كانت منجزاً مختلفاً ومثيراً للدهشة بعد مرور أكثر من قرن عليها، لا تزال تزداد ألقاً وتوهجاً. فتلك الرحلة العجيبة، التي لم تدم إلا 11 يوماً من شهر أبريل سنة 1914، كانت زيارة برقية وخاطفة بما يكفي لتغير مسار حياة هؤلاء التشكيليين. هي رحلة بحثية في المقام الأول، زيادة على أنها كانت تمثل فسحة للفرار من الضجر المدني الأوروبي، وجحيم الحرب العالمية الثانية في ذلك الوقت.
كان أوغست ماكي هو صاحب فكرة الرحلة، بينما لويس مواييه كان واثقاً من افتتان صديقيه بتلك الأراضي ساطعة الأضواء، حيث كان قد زار تونس مرتين، آخرها سنة 1910. وفي الواقع، يطغى اسم بول كلي على رفيقيه في الرحلة، فهو أكثر شهرة منهما نظراً لعطائه الغزير ولنفسه التجديدي في الفن المعاصر.
فما الذي يجعل رحلة قصيرة لفنان غربي نحو مدينة عربية ملهمة إلى هذا الحد؟ ترى أي أدوات بحثية فكك بها بول كلي المخزون الجمالي والخبيء للقيروان؟
من أكثر رحلات أعلام الفن الاستشراقي إلى المدن العربية إثارة للدهشة هي رحلة الفنان التشكيلي الألماني بول كلي إلى مدينة القيروان التونسية، والتي لا تزال برغم قصر مدتها منجزاً ساحراً حتى بعد مضي أكثر من قرن عليها، لنتعرف كيف فكك كلي المخزون الجمالي الخبيء لهذه المدينة
إشعاع مدرسة القيروان
تمثل مدينة القيروان التي تبعد عن العاصمة تونس قرابة 160 كلم، تاريخاً تليداً، فمنها تم تجهيز حملات الفتح العربي باتجاه الجزائر، المغرب الأقصى، شبه الجزيرة الإيبيرية، صقلية، مالطا، دول الساحل والصحراء الإفريقية. وفي ضاحية رقادة، بنى إبراهيم الأغلبي بيت الحكمة، كامتداد لنظيرتها ببغداد التي أسسها هارون الرشيد، فنشطت حركة العلم وظهرت طبقات من اللغويين والمحدثين والأدباء والنقاد والمترجمين عن اللاتينية، كما ازدهرت علوم الطب والهندسة والفلك بشكل غير مسبوق.
يتحدث بول كلي في مذكراته عن إقامته ولويس مواييه ثلاثة أيام في ضواحي تونس العاصمة، بحي الزهراء (السان جرمان) المتاخم للبحر، وزيارتهم لمدينة تونس العتيقة وضواحي حلق الوادي وقرطاج والمرسى، حيث رسموا اسكتشات في كراساتهم بالألوان المائية، قبل انتقالهم إلى مدينة القيروان عبر مدينة أكودة بالساحل التونسي
غير أن هذا التطور العلمي لمدرسة القيروان لم يدم طويلاً، حيث حاصر الهلاليّون (قبائل رياح، بنو سليم وبنو معقل) القيروان وخربوها سنة 1054م، لتدخل المدينة مرحلة انحطاط فكري وثقافي وتخلخل ديمغرافي، زاد في تعقيده صراع الخوارج والشيعة (الفاطميين) على السلطة، وتواصل معاقبة القيروان في مختلف الأحقاب السياسية، فتراكمت فيها البطالة وتزايد فيها حجم الجريمة، كما تم تهميش بعض شبابها لدرجة أن يهلكوا بشرب الكحول المخلوط بالعطور الرخيصة (القوارص) Eau de Cologne، لغلاء الجعة وندرة الخمور، بسبب الفقر ولقداسة مدينة القيروان حيث يمنع فيها النبيذ.
بيد أن التطور المعرفي لم تنطفأ جذوته بالقيروان، بل مدّ الفكر جذوراً عميقة وعلق في ترابها ومعمارها، على الرغم من بقاء المدينة طي النسيان تلوي أحزانها. كل المدن الحاضنة للتحضر تستحيل مجالات حية نابضة تخبو وتستفيق، مستحثّة حذق ساكنيها وساحرة زوارها العابرين والمغامرين بفتنتها، كما تلفظ هذه المدن دوماً دعاة الفتنة والجهل (النكارية وثورة صاحب الحمار 944 م)، وتحتفي بدعاة المعرفة والتنوير. رفضت استعراضات الرياضات القتالية "الزمقتال" لحركة النهضة وأنصار الشريعة بعد ثورة 2011، واحتفت بالسينما وبالشعر (ظهور جماعة القيروان للشعر المعاصر كما يسميهم أدونيس). لكأن كنوز القيروان كانت تنتظر رساماً من طينة بول كلي حتى يتملّى بهاءها القديم ويعلي حسنها المحدث، من الزرابي (السجاجيد) البديعة إلى الرونق الهندسي لتخطيط المدينة وشموسها وألوانها وجمالها.
في مذكراته، يسرد بول كلي المراحل الكبرى لزيارته لتونس، فهو يتحدث مثلاً عن ميلاد فكرة رحلة الثلاثي، كلي، ماكي ومواييه، ببحيرة أوبرلند، بمدينة بيرن السويسرية، لكن يبقى السؤال المطروح: هل الطبيب السويسري جاغي، صديق لويس مواييه، هو من نصحهم بفرادة الطراز المعماري للقيروان وجدارة المكان بالاستكشاف والبحث؟
لقد كونت القيروان خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي نخبة من الفنانين والعارفين بأسرار المدن والأمكنة، فوتوغرافيين وسينمائيين وأدباء ورحالة، ويبدو الدكتور جاغي من المحبين والداعمين لهذه النخب، حيث استقبل صديقه الرسام لويس مواييه مدة ثلاثة أشهر، خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وعند وصول الرسامين الثلاثة، استقبلهم الطبيب السويسري بسيارته الليموزين الفاخرة إكراماً لهم يوم 7 أبريل 1914، قادمين من مرسيليا على متن الباخرة قرطاج.
أقام بول كلي ولويس مواييه في بيت الدكتور جاغي، غير أن أوغست ماكي فضل الإقامة بالنزل. مكثت الجماعة ثلاثة أيام في ضواحي تونس العاصمة، بحي الزهراء (السان جرمان) المتاخم للبحر، ثم زاروا مدينة تونس العتيقة وضواحي حلق الوادي وقرطاج والمرسى، وكانوا يرسمون الاسكتشات في كراساتهم بالألوان المائية. وفي 14 أبريل، استقلوا القطار باتجاه مدينة الحمامات، ثم انتقلوا منها إلى مدينة القيروان عبر مدينة أكودة بالساحل التونسي.
استيعاب التيارات الفنية وتخطيها
أنجز بول كلي في مدينة القيروان وحدها قرابة 35 لوحة مائية و11 رسماً آخر، بالإضافة إلى الأعمال المدهشة التي أنجزها فيما بعد، إثر عودته من رحلته. ومباشرة بعد عودته من الرحلة الإفريقية، كان بول كلي جاهزاً بما يكفي لإقامة معرضه بمدينة ميونيخ، وكان بعنوان "الطراز القيرواني"، في مقابل ذلك، كانت حصيلة أعمال أوغست ماكي 33 لوحة مائية و79 رسماً إضافياً، أما زميلهما لويس مواييه، فقد ادّخر جهده إلى حين انتقاله إلى المملكة المغربية وجنوب إسبانيا.
منذ بداياته، كان لبول كلي قصة طريفة مع الفنون، حيث اشتغل في البداية في مجال النقد المسرحي، الرسم على الزجاج، الحفر على النحاس والاعتناء بالطباعة والغرافيك، وارتبط بعازفة البيانو الألمانية ليلي شتومبف، وأقام في مدينة ميونيخ بعد أن وهبته طفلاً، وعشق موسيقى الأوبرا الكلاسيكية. نشأ بول كلي في محيط فني، وأهدته جدته لأمه أقلاماً للزينة وأوراقاً للرسم وهو لم يتجاوز الثالثة، وكان كلي قبل رحلته القيروانية قد خاض تجربة احترافية وتعرف بشكل مبكر على فاسيلي كاندينسكي، وشارك معه في معرضه الثاني تحت يافطة جماعة "الحصان الأزرق، Blauer Reiter".
كتب بول في دفتر مذكراته: "لقد تملكني اللون، لست في حاجة البتة للقبض عليه. لقد غزاني وإلى الأبد. أعرف ذلك. إنه برهان تلك اللحظة السعيدة. إن اللون هو أنا. لقد صرنا واحداً. أنا الآن رسام"، وبذلك يبدو أن كلي قد نال مبتغاه وأنجز الهدف الذي رسمه في ذهنه من وراء رحلة تونس. لقد حررته السفرة من عبء الفن التجسيدي.
كتب بول كلي في دفتر مذكراته عن انبهاره بكمية الضوء في الإشراق في القيروان: "لقد تملكني اللون، لست في حاجة البتة للقبض عليه. لقد غزاني وإلى الأبد. أعرف ذلك. إنه برهان تلك اللحظة السعيدة. إن اللون هو أنا. لقد صرنا واحداً. أنا الآن رسام"
أما جملته التي أطلقها، فهي تكشف بجلاء عن إمساكه الشيء الثمين الذي سافر لأجله، إذ يقول في فقرة من مذكراته: "إن الفن لا يعيد إنتاج العالم المرئي بل يجعله مرئياً". لقد انبهر بكمية الضوء والإشراق في أرجاء القيروان واندمج في تموجاته، وقد تولى كلي نشر كتابه الأول "اعترافات إبداعية"، الذي بين فيه محاولته استيعاب ما اطلع عليه من تيارات فنية، ثم كيف تخطى هذه الأسيجة المدرسية.
التخلص من الاغتراب الروحي
تقول كريستين هوبفينغارت، أمينة معرض دولي أقيم سنة 2010 في مركز بول كلي: "شكلت التكعيبية قوة دافعة بالنسبة لبول كلي، لكنه لم يرسم الحياة الساكنة أو الشخصيات مثل بيكاسو، بل كان يتبنّـى البُنية الأساسية ويَبني عليها مواضيعه وتَصَوّراته الخاصة".
وبالفعل لم يذب بول كلي في دوامة رسام شهير مثل بيكاسو، فارتأى معارضته بطريقة كاريكاتورية فنية راقية، فهو يسخر من تجسيد بيكاسو للهياج العنيف للثور "المينتور" ويبتكر حيوانه الخاص، كما تقول كريستين هوبفينغارت، فأسماه أورخسي Urchse، مُشتقّاً إياه من الجذر العجيب لمقطع "أور" في الفيلولوجيا الريفية السويسرية، أو الجذر الألماني أورخيغ Urchig. لكأن ثيران بيرن المبتكرة هنا تحتفي بـ"أراخي" القيروان السائبة، ومفردها "أرخة" باللهجة العامية التونسية، أي الأبقار الفتية الوديعة، جيدة التغذية، لريف القيروان.
يتيح موقع متحف بول كلي www.zpk.org ، من تصميم المهندس المعماري الإيطالي رينزو بيانو، معلومة مهمة عن مغامراته المبكرة، حيث سافر سنة 1901 مع النحات المقيم في بيرن، هرمان هالر، إلى إيطاليا، وهي رحلة دراسية دامت قرابة ستة أشهر، سالكاً طريق منابع النهضة الأوروبية الحديثة لمدن فلورنسا وجنوة وليفوزن ثم روما، كما قام برحلة مهمة جداً دامت أسبوعين إلى باريس، تعلم فيها الكثير، وشاهد عن كثب أعمال عمالقة الرسم بمتاحف عاصمة الأنوار، فبعد أن مرغ بصره في نفائس ميكيل آنجلو، أكب بصره بإمعان في أعمال هنري ماتيس ورينوار، وغيرهما من الرسامين الإسبانيين ذائعي الصيت، كدياغو فلاسكيز وفرانشيسكو غويا.
بعيداً عن عقدة التقليد
إجابة عن سؤال وجهه له رصيف22، حول خلفية ابتهاج بول كلي بأنه أصبح رساماً بمجرد زيارته للقيروان، يقول الفنان التشكيلي المعاصر، الجزائري يزيد خلوفي: "عامة، وبخصوص مسألة انبهار فناني الغرب بشمال إفريقيا والعالم الإسلامي، أعتقد أن المسألة لها علاقة بالفلسفة الجمالية التي تقوم عليها الإشارات في هذه المنطقة المغاربية، عندما نقول شمال إفريقيا يعني الأندلس. ثم أن الفلسفة التي تقوم عليها الفنون الإسلامية هي فلسفة تدعو إلى الإبداع والتحرر من عقدة التقليد، فعندما يقول بول كلي في زيارته إلى القيروان إنني أصبحت رساماً... هو يعبر عن قبس الجلال الذي تراءى له من خلال جماليات المكان وقوته المفعمة بالطاقات.
وكما هو معلوم، كان بول كلي متأثراً بكتابات غوته Goethe، وغوته بدوره كان مسكوناً بالشرق وبالروح التي تسكنه وله الكتاب الشهير الديوان الشرقي.
ويضيف الفنان الحروفي خلوفي قائلاً: "كنت مرة في معرض تشكيلي دولي بفرنسا، ودار نقاش مع بعض الفنانين الغرب عن الحديث النبوي الذي يحرم التصوير، على أساس أن الإسلام يحدّ من الإبداع. يبدو لي على العكس من ذلك، الإسلام لا يحبذ التقليد، ودعوته بتحريم التقليد هي دعوة صريحة للفنان بالتماس عمق الصورة وعدم الاكتفاء بتقليد ظاهرها الزائف. إن الفن الإسلامي يدعو الفنان إلى التماس عمق الشيء، وذلك من خلال محاولة استنطاق كنهه وحقيقته التي تختفي وراء ظاهر ما نلمسه. هذا المنطلق المهم وعاه جيداً فنانو الغرب، وبالأخص مدرسة البوهاوس، ويبدو أن خلفيتها الفكرية الجمالية تنطلق من فكرة التوحيد التي تميز بها المنجز الفني الإسلامي.
ثم لا ننسى أن كاندينسكي يتقاطع في الكثير من قناعاته في كتابه "الروحانيات في الفن" مع كتابات أخوان الصفا. بالمختصر الغرب وجد نفسه في روح الشرق، لهذا عادة تجد بعض فناني العالم الاسلامي يكتشفون أنفسهم بعد ما يقومون بزيارة الغرب. العملية معكوسة، والرسام الجزائري محمد خدة، يعترف بهذا في تنظيراته. هناك بعض المخابر البحثية بفرنسا والتي كانت تشتغل على الفكر الكولونيالي، اهتمت بكل الإشارات والكلمات التي تتكئ عليها الجزائر، فقاموا بعمل جبار، وهو ما مكنهم من عملية الهدم وإعادة بناء كل الأطر المعرفية التي تشكل المنطقة ومن بينها الدلالات الجمالية. فمثلاً تجدهم يشددون على مدرسة الجزائر العاصمة من خلال فيلا عبد اللطيف. هذه المدرسة التي تستمد منطلقاتها من الوشم، النقطة والخط ودلالاتها الفلسفية من المباحث التي اشتغلت عليها الفنون التي تنتمي إلى الفضاء السامي، الممتد من بلاد الرافدين وإلى ما يعرف قديما بسورية الطبيعية أو سورية الكبرى، ووصولاً إلى شمال إفريقيا.
محدودية الطابع التزويقي
يؤكد الحروفي يزيد خلوفي أن ما يشتغل عليه كثير من الفنانين المعاصرين ببلاد المغرب العربي، والمنتمين حصراً إلى الفضاء الثقافي "الأمازيغي" ينخرطون شكلاً ومضموناً في حيز هذا الفضاء "الجغرافي والسوسيو-ثقافي" الاستشراقي، وذلك من خلال العناصر المشكلة لأعمالهم الفنية، كالوشم والرمز، وانعكاساته المتعددة في بوتقة المنظومة الجمالية (التعدد في المظهر والوحدة في الجوهر).
وبخصوص بعض التجارب الجزائرية مثلاً التي سايرت هذا المعطى، لم ترتق للأسف إلى الفعل الفني الخلاق، ويتضح ذلك جلياً من خلال تركيزها على البعد "التزويقي" المسطح، لحاجتها للفكر التنظيري التأطيري لهول ما أصابها من التشويش الهوياتي الممنهج من خلال عملية "الهدم والبناء". لقد تم الزج بها في مخيال ثقافي هجين "أفرو-زنجي" شكل من قبل بعض الاستقراءات الكولونيالية والنيوكولونيالية، وللتدليل على خطورة بعض الاستشراقيين، يمكن ذكر تجربة الفنان الفرنسي دوني مارتيناز ومريديه تماماً، بما فيهم ديلاكروا، (اشتغل دوني مارتيناز مدرساً ومؤطراً بمدرسة الفنون الجميلة بالجزائر).
إن الدور الاستعماري لفرنسا كان يرتكز على جهود تدميرية، من أجل طمس المراجع الفنية العربية الفينيقية الكنعانية والإسلامية ببلاد المغرب، وقد جند قادة الاحتلال الفرنسي الكثير من الفلاسفة والمفكرين، أو هم اشتغلوا طوعياً، حتى يتم تهمش هذه المراجع وتسهل التعمية واختراق الثقافة المغاربية ويطول أمد امتصاص خيراتها، ومن هنا يسهل إبقاؤها تحت المراقبة. إنه موضوع متداخل ومعقد تتقاطع فيه الفنون بالجوسسة والجيوبولوتيك.
وتشير الباحثة نادية قجال، في تحليلها لخطورة الفن الاستشراقي ودوره المحايث للتبشير في التمهيد للحملات التوسعية الغربية، إلى أن الرسام الاستشراقي، فيما هو يلون ويبتكر ويبدع، يقوم بدور التعمية على ما تسميه بـ"السيطرة على الأهالي المهزومين"، يحدث ذلك عبر المراوحة بين "تصوير عري الحريم أو الرقص النسوي"، ورسم أبطال الفروسية أو المحاربين الأشاوس، بأزيائهم المهيبة الملونة الغارقة في غمامة الغبار أو غلالة الضباب الأسطوري.
يبدو أن بول كلي من خلال رحلته البحثية قد جاء ليعصف بهذا الاستخدام السياسي الماكر للريشة والعدسة، ولذلك تمت محاربته بلا هوادة في سويسرا بالذات، ولم يمنح الجنسية السويسرية في حياته التي طلبها وبقي ينتظرها بلا جدوى.
شذ بول كلي عن نهج الفن الاستشراقي في تنميط الشرق والشمال إفريقيا عبر لوحات عري الحريم والرقص الشرقي، ليعصف بهذا الاستخدام السياسي الماكر للريشة والعدسة، ولذلك تمت محاربته بلا هوادة في سويسرا بالذات، ولم يمنح الجنسية السويسرية التي طلبها وبقي ينتظرها بلا جدوى
في البداية وفي سنة 1920 تم انتداب بول كلي في مدرسة البوهاوس BAUHAUS، ليدرس نظرية الأشكال والألوان، وأجبر سنة 1930 على العمل بجامعة دوسلدورف، ثم سريعاً أقاله النازيون، وفي سنة 1939 تفاقمت المتابعات البوليسية والمضايقات اللصيقة إلى أقصاها، وخضع بول كلي لاستجوابات قاسية كادت تدفع به إلى الجنون، ولم تتفجر الهجومات عليه من الأمن بل من الفنانين السويسريين، واعتبروه نموذجاً لرسام يجسّد "السبّة" للفن الراقي، لكن أي فن راق لدى هؤلاء، ووفق أي منظار وأي معيار فني؟
كان وجود بول كلي بينهم يثير امتعاضهم، باعتباره رساماً مفلساً لولا تمويل اليهود له، وخلال هذا الهجوم يعترف أعداؤه مرغمين بقيمته الفنية وبمنحاه التجديدي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...