شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عندما قرّر علي أن يُنهي حياته في مقهى بيروتي...

عندما قرّر علي أن يُنهي حياته في مقهى بيروتي... "أنا مش كافر"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 3 يوليو 202003:52 م

"أنا مش كافر". كُتبت هذه العبارة على قصاصة ورقية، أسفل سجل عدلي يتوسطه تأكيد "لا حكم عليه" وبجانبه صورة لصاحبه، وفي الأعلى ظهر علم لبنان ملفوفاً. ثلاثة عناصر وُضعت في وعاءٍ ترابي أسود اللون أمام مقهى على رصيف شارع الحمرا البيروتي الشهير. في هذا المقهى، كان يجلس المواطن اللبناني علي الهق، بعدما طلب فنجان قهوة على جاري عادة الزبائن. ما هي إلا دقائق، حتى سمع الجالسون عبارة "لبنان حر مستقل" قالها الرجل، ثم أعقبها بإطلاق النار على نفسه.

هكذا انتحر علي في وضح النهار، في مقهى يقع بين مسرحين شهيرين، يضع أحدهما على بابه ملصقاً لمسرحية يعرضها بعنوان "عم بقولوا اسماعيل انتحر…".


سرعان ما انتشرت صورة علي ممدداً على الأرض، كما تداول لبنانيون كثر صورة سجله العدلي مع علم لبنان، أما العبارة التي كتبها فأصبحت وسماً شارك عبره مغردون كثر ردود أفعالهم على الحادث.

في كل مرة تُذكر عبارة "أنا مش كافر" تعقبها أخرى تقول "بس الجوع كافر". الجوع الذي بات شبحه مخيّماً في كل زاوية من لبنان. وشبح الجوع يكون أحياناً أشد وطأة من الجوع نفسه. هكذا يعيش اللبنانيون على وقع أخبار "الانهيار" وتحوّل البلاد برمتها إلى "نكتة سمجة".


خبر الانتحار الذي هزّ اللبنانيين صبيحة اليوم الجمعة، في 3 تموز/ يوليو، تضافرت فيه مؤثرات عدة جعلته أقرب لمشهد سينمائي شديد البرودة والرعب.

تُركت جثة علي لساعات على الأرض، إذ نقل شهود عيان ومتابعون للحادثة أن الاتصالات مع المستشفيات لم تُسفر عن موافقة أي منها على استقبال جثته. "البرّاد مكلف"، هكذا كتب مغردون ساخرين، في إشارة إلى "عجز" الجهات المسؤولة عن تأمين أبسط حقوق الإنسان من جهة، وكلفة الموت الباهظة من جهة أخرى.

وذكّر البعض بالسلطة العاجزة في أن "تمون" على مستشفى خاص، في إشارة إلى معضلة لبنانية أكبر حول نفوذ القطاع الخاص وهشاشة السلطة في مواجهة الاستحقاقات المتلاحقة.

"الحقيقة أن البلد بحكومته وعهده كافر"، "الجوع والذل كافر"، "الرصاص لازم يتوجه إلى رؤوس اللي قتلونا وكفرونا"... عبارات كثيرة من هذا القبيل شاركها لبنانيون تعبيراً عن غضبهم مما جرى، محملين المسؤولية لكل من أوصل الشعب اللبناني إلى نقطة اللاعودة، إلى اللحظة التي يتخلى فيها الشخص عن غريزة الحياة ليرى في الموت خلاصاً.

في هذا المقهى، كان يجلس المواطن اللبناني علي الهق، بعدما طلب فنجان قهوة على جاري عادة الزبائن. ما هي إلا دقائق، حتى سمع الجالسون عبارة "لبنان حر مستقل" قالها الرجل، ثم أعقبها بإطلاق النار على نفسه

لم يكن علي أول من انتحر هرباً من الجوع والذل ولن يكون الأخير. هذا ما تشهد عليه الأخبار التي تتوالى منذ مدة عن أب انتحر لأن المدرسة أذلّت ابنته التي لم يستطع دفع أقساط تعليمها، وآخر أنهى حياته وحياة أولاده لأنه لم يعد بإمكانه إطعامهم. وللتأكيد، وتزامناً مع انتشار خبر انتحار علي، وصل خبر عن شنق سامر حبلي لنفسه في منزله الكائن بمنطقة صيدا، جنوبي لبنان. من ضمن ما تم تداوله، بعد حضور القوى الأمنية إلى منزله، أن سامر الذي كان يعمل سائق باص ولديه بنت صغيرة، انتحر بسبب الضائقة المادية التي يعاني منها.

تساءلت إحداهن تعليقاً على حادثة الانتحار في الحمرا قائلة: "هل يكون علي الهق هو بوعزيزي لبنان؟ أتمنى ذلك"، لترد أخرى "لا أفهم لماذا تكتبون هنا على مواقع التواصل، اتركوا ما بين أيديكم وانزلوا إلى الشارع، اقطعوا الطرقات، قوموا بأي فعل حقيقي غاضب".

ربما تختصر هاتان التغريدتان نقاشاً كبيراً يدور منذ بدأت الأوضاع الاقتصادية بالتدهور، وفي كل مرة يتم التعويل على "بوعزيزي" يستحضر النموذج التونسي في التغيير، لكن الأمور تعود لمرحلة الجمود. وهو الحال كذلك في مسألة التعبير عن الغضب، والتي يرد البعض بالقول "الجوع لا يعني بالضرورة القدرة على الاحتجاج الذي يقود إلى التغيير"، و"لا يعني توجيه الرصاصة إلى من يستحقها".

عموماً، انتشرت دعوات للتجمع في شارع الحمرا احتجاجاً على ما أوصل علي إلى اتخاذ قرار الانتحار، كان البعض قد تجمّع في الشارع أساساً. الشارع نفسه الذي شهد يوم أمس الخميس، في 2 تموز/ يوليو، تظاهرة نظمها صحافيون للاجتجاج على سياسة القمع الممنهجة والمتزايدة التي تعتمدها السلطة بحقهم، وهو الشارع الذي شهد تظاهرات متفرقة أمام مصرف لبنان المركزي ووزارة الداخلية.

وهو الشارع الذي كان يُعدّ الأكثر حياةً في العاصمة بيروت بمقاهيه ومسارحه ومحاله التي لا تنام، وقد تحوّل بفعل الأزمة الاقتصادية إلى أشبه بشارع مهجور ليلاً.

كثرٌ أقفلوا محالهم في هذا الشارع لعدم قدرتهم على مجاراة سعر الصرف المتغيّر بين ليلة وضحاها، وآخرون قلّصوا أعمالهم فيما غاب معظم الرواد الذين إما بفعل التراجع الحاد لقدرتهم الشرائية أو بسبب البطالة المستجدة. 

تزامناً مع انتشار خبر انتحار علي، وصل الخبر عن شنق سامر حبلي لنفسه بسبب الضائقة المادية... "الحقيقة أن البلد بحكومته وعهده كافر"، "الرصاص لازم يتوجه إلى رؤوس اللي جوّعونا"، وعبارات أخرى شاركها لبنانيون يرون ما حصل جريمة، والطبقة الحاكمة مسؤولة عنها

أكثر ما يبدو مخيفاً من التعليقات على انتحار علي هو استحضار منطق "الانتحار بالتقليد" (Copycat) والمخاوف من أن الحادثة ستكون فاتحة لحوادث كثيرة مشابهة.

إذا ما عدنا لنموذج عالم النفس الشهير توماس جوينر، في كتابه "لماذا يموت الناس بالانتحار؟"، حول "القدرة المكتسبة" (Acquired capability) على مقاومة الخوف من الموت، يتضّح أن اكتساب الشخص لدرجة من الألفة مع الأفعال المؤلمة أو العنيفة يعطيه درجة من الألفة مع الفعل الانتحاري، وهكذا يكون من المُسلّم أن كمّ العنف المعنوي والنفسي والجسدي المحيط باللبنانيين سيزيد من منسوب ألفتهم مع الموت.

علي وسامر ومن سبقهما ومن سيلحقهما على ما يبدو، يصححون بانتحارهم - بسبب الظلم الخانق- المفهوم الشائع عن الانتحار باعتباره خياراً فردياً لشخص يود أن يموت، ليصبح المنتحر شخصاً يود بقوة التخلص من ألمه، وأن يكون له صوتٌ في بلد تُغرقه طبقته الحاكمة في تفاهة ووقاحة غير مسبوقتين. في بلد لم يعد الانتحار فيه، على ما يبدو، خياراً فردياً. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image