إتجهت الأنظار والأفواه والتغريدات في الآونة الأخيرة صوب المغترب اللبناني توسّلاً منه لإنقاذ لبنان من أزمته المالية.
كالعادة، تنصّل المسؤولون من مسؤوليتهم وبدلاً من اقتراح بوادر حلول سارعوا إلى رمي الأزمة بثقلها على كاهل المغترب، المهترئ أصلاً، متمنين منه بكل "تهذيب" أن يضخّ دولاراته في السوق لعله يساهم بإعادة الحياة إلى الدورة الاقتصادية المشلولة.
هل باعتقادهم أن المغترب يتمتع برفاهية الحياة وبحبوحتها؟ هل يعتبرون المغترب بقرة المال الحلوب التي تجلس على تلة من الذهب؟ أثار الأمر حفيظتي كمغترب ومسّ بكرامتي، فأحسست بالاستغلال من زمرة فاسدين توقعوا أن يكون المغترب، الذي هو ضحية فسادهم، منقذهم... فاقتضى التوضيح.
لن يتردد المغترب بمساندة عائلته وأقاربه ولكنه سيفكر مئة مرة قبل أن يضخ الدولار عشوائياً في بلدٍ جعله ضحية مرتين.
مغترب الأمس ومغترب اليوم
تاريخياً، كان لبنان ولا يزال منبعاً للأدمغة والشباب إلى جميع أنحاء العالم. اختلفت الوجهة وتفاوتت فرص النجاح حسب العوامل السوسيو-اقتصادية الموجودة في الحقبة الزمنية المعنية.
تميّزت مثلاً حقبة القرن التاسع عشر بهجرة اللبنانيين إلى بقاع الأرض البعيدة كالأميركيتين وأستراليا. استطاع المغترب قطف ثمار نمو هذه الأسواق عبر انخراطه في أعمال التجارة المختلفة والمهن الحرة في الزراعة والصناعة والأزياء إلخ.
كما شهدت هذه الفترة حالة من النعيم في النظام الاقتصادي العالمي، فازدهر سوق العمل وتعددت الفرص. استفادت العائلات اللبنانية من هذه العوامل واغتنت و اكتسبت نفوذاً سياسياً واجتماعياً، رسّخ اسمها في بلاد المهجر.
عندها، بدأت تتكوّن صورة "المغترب الغني" الذي كان ينتظره أبناء ضيعته عند زيارته السنوية مهللين له وشاكرينه على كرمه.
في منتصف القرن العشرين، تغيرت الوجهة تزامناً مع اكتشاف النفط الخليجي. تحمَّس اللبناني لتقارب الخليج العربي جيوغرافياً وثقافياً ولغوياً فسارع إلى الانتقال هناك. استلم مناصب مهمة في مختلف المجالات من طب، تجارة، مهن حرة، هندسة إلخ. فترسخت عندها فكرة "المغترب الغني ابن الخليج" الذي صُوِّرَ على أنه الشاب الناجح الراقي الأقرب الى البيك.
وبالفعل، استطاعت الكثير من العائلات الجنوبية والشمالية تحديداً من تجميع الثروات واستثمار جزءاً منها في لبنان ليستفيد منها الاقتصاد الوطني والقطاعات المختلفة كالعقارات، البنوك، السياحة إلخ. ناهيك عن كمية التحويلات الهائلة التي كانت تتم شهرياً لإعانة العائلات والأقارب.
حتى الآن، كان الإغتراب لا يزال خياراً طوعياً إرادياً. لم يكن هرباً بقدر ما هو استكشاف لفرص الازدهار وتلبية طموح.
هل باعتقادهم أن المغترب يتمتع برفاهية الحياة وبحبوحتها؟ هل يعتبرون المغترب بقرة المال الحلوب التي تجلس على تلة من الذهب؟ أثار الأمر حفيظتي كمغترب ومسّ بكرامتي، فأحسست بالاستغلال من زمرة فاسدين توقعوا أن يكون المغترب، الذي هو ضحية فسادهم، منقذهم
وصولاً إلى بداية السبعينات، حيث جعلت الأزمات السياسية والتهديدات الأمنية من الهجرة أولوية لدى الشعب اللبناني وأضحت خياراً قسرياً، هرباً من واقعٍ معيشي مرير وسعياً وراء حياة ميسورة مستورة. لم تنتهِ هذه الموجة مع طَيْ صفحة الحرب الأهلية إذ استُبدِلَت الميليشيات بمنظومة فساد ومحاصصة نهبت جميع خيرات البلد وسيطرت على مرافق الدولة فلم يجد اللبناني ملاذاً غير بلاد الخليج الحاضنة.
ولكن هناك ظروف استجدت: حروب على الإرهاب، حروب في الخليج، أزمات إقتصادية، صراع على النفط، صراعات طائفية، تحالفات ونزاعات ضمن البيت الواحد. انعكس كل هذا سلباً على ثروة هذه البلدان النفطية فتأرجح سعر البرميل ليصل إلى مستويات متدنية قياسية أحدثت صدمة لدى حكام دول الخليج أجبرتهم على إعادة النظر الجدية بالمصاريف والتسهيلات السخية وتطبيق سياسات تقشفية مما أدى الى غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الأساسيات بالإضافة إلى تحديات سوق العمل والاعتماد أكثر على اليد العاملة الرخيصة. وكون معظم الاقتصادات الخليجية أُحادية المصدر لجأت الدول إلى استحداث ضرائب الدخل والأرباح والقيمة المضافة كمصادر دخل إضافية جديدة.
بالإضافة إلى ذلك، استند المغترب على الديون البنكية كوسيلة لتسديد مصاريف باتت تفوق دخله كالإيجارات وأقساط المدارس وتذاكر السفر إلخ. أو كرأسمال لشراء عقارات في لبنان فغرق بدوامة الأقساط والتخلف عن الدفع.
مواطن من الدرجة الثانية
الأقسى من الصعوبات المادية التي أصبحت ترافق المغترب اللبناني يومياً في المهجر، هو الانخفاض إلى الدرجة الثانية في سلّم المواطنة. على الرغم من احترام دول الخليج لجميع السكان ومساواتهم إلى حد كبير أمام القانون، إلا أن الأفضلية ستكون دائماً لابن البلد قبل غيره. لن ينال المغترب كامل حقوقه المكتسبة طبيعياً في وطنه فهو لا يستطيع أن يملك عقاراً أو أن يؤسس عملاً بدون كفيل أو أن يحصل على الجنسية ولو بعد سنوات. ستطاله أولاً أي سياسات تقشفية أو قرارات لإعادة الهيكلة الديمغرافية حيث كثُرَ مؤخراً الحديث عن تشجيع القوى العاملة الوطنية لدخول سوق القطاع الخاص مما سيكون على حساب القوى العاملة المغتربة. تجلّت هذه المفاضلة خلال أزمة كورونا حيث ذاق المغترب الأمرين إما بسبب خفض الرواتب أو الصرف من العمل أو بسبب عدم القدرة على الحصول على الخدمات الطبية اللائقة.
المغترب اللبناني هو شخص يكافح من أجل تأمين حياة كريمة لعائلته؛ غارق في الديون؛ يتحمل جميع أنواع المفاضلة في التعامل؛ بعيد عن أهله وبيئته. أضف الى ذلك أنه فقد الثقة نهائياً بسياسيي البلد فهم سبب غربته الأول
الوقاحة
قمة الوقاحة أن يتجرأ أحد ويطلب من المغترب أن يساهم في معالجة الأزمة.
المغترب اللبناني هو شخص يكافح من أجل تأمين حياة كريمة لعائلته؛ غارق في الديون؛ يتحمل جميع أنواع المفاضلة في التعامل؛ بعيد عن أهله وبيئته.
أضف الى ذلك أنه فقد الثقة نهائياً بسياسيي البلد فهم سبب غربته الأول؛ هم الذين استولوا على حصاد عمرهم في المصارف؛ وهم الذين هرّبوا ثرواتهم بطريقة غير شرعية كي لا يطالهم أي اقتطاع فنفِذَ الدولار من السوق و انهارت الليرة.
لن يتردد المغترب بمساندة عائلته وأقاربه ولكنه سيفكر مئة مرة قبل أن يضخ الدولار عشوائياً في بلدٍ جعله ضحية مرتين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...