يأتي هذا المقال ضمن تعاون مع مجلة Arts Asia Pacific التي تعنى بتغطية الفن المعاصر والأحداث الثقافية في سبع وستين بلداً ضمن آسيا والمحيط الهادي والشرق الأوسط.
في عددها 118 يونيو/حزيران ـ يوليو/تموز لهذا العام 2020، تنشر مجلة Arts Asia Pacific، مقالاً بعنوان Revolutions in the Margins، تقدم فيه مراجعات لثلاثة كتب من إعداد Chloe Chu, HG Masters, Ophelia Lai. نقدم هذه المراجعات لقرائنا هنا، باللغة العربية.
جذريون خجولون: السياسة المناهضة للنظام للانطوائي المناضل
من الأمور التي أظهرها التباعد الاجتماعي الذي فرضه علينا كوفيد19 هو مدى فقر حياتنا الداخلية. لماذا تكاثرت إرشادات الأنشطة المنزلية؟ ألا يعرف الناس كيف يتصرفون في نطاقهم الخاص؟ لماذا يبدو بعض الساخطين ممن أخذوا إجازة الربيع وسط جائحة عالمية، على استعداد للمخاطرة بحياتهم "ليثملوا قبل أن تغلق كل المحال"؟ هذه هي أعراض النظام العالمي المنفتح، والذي تتعالى أصوات، ليست بالضرورة منطقية، للترويج له. أصوات يتم بيعها علنًا لرأس المال الاجتماعي (والفعلي).
وفي ظل هذا النظام العالمي المنفتح، لطالما تم الضغط عليّ للحضور والتحدث في التجمعات. لقد كلفني رفضي الامتثال للدعوات ليس التقدير فحسب بل الفرص أيضاً، في حين أن محاولاتي للتأقلم قد هددت سلامتي العقلية. لذا أود بكل سرور أن أتعهد بالولاء للثورة التي طال انتظارها ضد هذه الهيمنة الموضحة في كتاب الفنان والكاتب البريطاني من أصل باكستاني هيمجا أهسن "جذريون خجولون" (2017).
الكتاب عبارة مجموعة من الكتابات الساخرة حول جمهورية أسبرجستان -وطن "الشعوب الخجولة المضطربة والانطوائية والتوحدية المظلمة"- وقد طبع بخط صغير يلائم صفحاته التي لا تتعدى حجم الجيب، يحكم وثاقها غلاف رمادي غير مصوّر بشكل يتعذر معه استعمال الرقة في فتح نسخة جديدة.
يقع الكتاب في ستة عشر قسماً. القسم الأول، هو مسودة دستور جمهورية أسبيرجستان، والتي تتخذ من قول لاو تزو "كلما أصبحت أكثر هدوءاً، كلما زادت قدرتك على الاستماع" كمبدأ تأسيسي لها. وقد أسعدتني إمكانية إلغاء "وجهات النظر الخاصة والاحتفالات الافتتاحية وحفلات الإطلاق"، كما هو منصوص عليه في المادة 30 من قانون شيريا، "الذي يشجع على تطهير الطبقة الاجتماعية". وبينما تثير معظم العروض العلنية للافتخار القومي ضيقاً في داخلي، تمكنت بسهولة من الاستماع إلى نشيد أسبيرجستان بوضع صدفة على أذني، وفقًا للمادة 24 من دستور الجمهورية.
لكن كتاب "جذريون خجولون" ليس مجرد خيال طوباوي لشخص انطوائي، هو أيضاً نقد لاذع لمبدأ التفوق المتطرف. إذا كنت قد تساءلت عن القواسم المشتركة بين باريس هيلتون، داعش، والإمبريالية، فهي باختصار سيطرة النزعة التفاخرية لديهم. في مقابلتها، مع صحفي مجهول، تصور مواطنة أسبيرجستان والسجينة السياسية السابقة إيمي ليتلوود تفشي الأيديولوجيات المتطرفة المؤمنة بالتفوق، واصفةً مؤلفي كتب المساعدة الذاتية (الدليل)، مثل "تعلم كيف تنجو في عالم منفتح" بالخونة. وتسأل: "ما الذي يجعلهم يفترضون في الأساس أن العالم ينتمي إلى المنفتحين؟"
كتاب "جذريون خجولون" ليس مجرد خيال طوباوي لشخص انطوائي، هو أيضاً نقد لاذع لمبدأ التفوق المتطرف. فإذا تساءلت عن القواسم المشتركة بين باريس هيلتون، داعش، والإمبريالية، يخبرك الكتاب أنها باختصار سيطرة النزعة التفاخرية لديهم
بالفعل، إن الخطر الحقيقي يكمن في إحكام قبضة نزعة التفوق للمنفتحين على مخيلاتنا "التحررية". وفي قسم الكتاب المعنون "الحلفاء والائتلاف" يشكك الكاتب في مزاعم مالكولم إكس القائلة "إذا كنت تريد شيئًا، فحريّ بك أن تحدث بعض الضوضاء"؛ ويقول الكاتب "في الواقع، هذا يعني قبول وجود النظام في شكله الطبقي الأصلي: سلطة أعلى تتحدث، حضور يهللون، وتدرج في الطبقات". والنص الذي بين يدينا يرى أن "التحرر الحقيقي يكمن في الهدوء".
أغاني الحمار المملة
كتب فنان الأداء السينغافوري الأصل لي وين في سبتمبر 2014: "كلما أموت أكثر، كنت أعيش أكثر". ومنذ ذلك الوقت منذ وفاته في مارس 2019، اكتسبت حياة الفنان السنغافوري وأعماله أصداءً أكبر. كانشغاله باستكشاف الضغوطات والتناقضات في مجتمع متعدد الأعراق، الذي تجسد في سلسلة من العروض التي أداها تحت عنوان "رحلة رجل أصفر" (1992-2012)، لم يقتصر من خلالها على النظر إلى العنف وأشكال السيطرة المجتمعية التي تتيحها الفئات العرقية والمجموعات الإثنية ولكن، كما قال في محاضرة ألقاها عام 1997، "تتسع لتشمل التصنيفات الطبقية، اللغة، الدين، الجنس والتفضيلات الجنسية، السياسة، العلوم، والبيئة" حيث استكشف لي أين يمكن أن يتقاطع مجال الثقافة مع الاهتمامات السياسية الملحة في الدفاع عما أسماه "الانفتاح الأكثر تعقيدًا في مجتمع يعج بالمحظورات".
تبدو قصائد لي وين بصياغتها غير التقليدية، وبنيتها الشبيهة ببنية المذكرات، وتكرار أبياتها، وكأنها كتبت لتلحن وتعزف على غيتاره الخاص
كتاب "أغاني الحمار المملة" (2017) عبارة عن مجموعة من قصائد كتبها لي بين عامي 2013 و2016، تصور أسلوب الفنان في التعبير عن وجوده. يؤكد محرر الكتاب، جيسون وي، أنه على الرغم من أن لي لم يكن كاتبًا بشكل أساسي، إلا أن قصائده -في "فوضاها الغنائية وتكرارها العبثي"- تشتمل على "كرم ضيافته الواسعة التي ترحب وتقدر أولئك الذين يصرون على تبني الاستقلال السياسي والفني". بصياغتها غير التقليدية، وبنيتها الشبيهة ببنية المذكرات، وتكرار أبياتها، غالبًا ما تبدو قصائد لي "اللاشعرية" وكأنها كتبت لتلحن وتعزف على غيتاره الخاص. وهذا ما نراه في قصائده الغنائية "ضوء القمر على كتفيّ"، "حصلتُ على 22 درجة من الوحدة"، و"لدينا تاريخ مليء بالأكاذيب" وأنا حصلت على 22 درجة من الوحدة ". ويشير محرر الكتاب إلى أن الفنان قام بتحويل الكلمات إلى أغانٍ شارك تسجيلاتها في مشروعه الموسيقي الذي أطلقه عبر الإنترنت تحت عنوان Anyhow Blues.
تتسم قصائد لي بحس الكآبة وحضور الصراع الشخصي، مثل التعامل مع مرض باركنسون. يصف هذا في قصيدة كتبها في يوليو من عام 2015 بقوله:
"يوقظني الألم كل نهار،
والدموع في عينيّ.
أشق طريقي جاهداً للوصول إلى أدويتي،
تلك العقاقير المخدرة التي يشرع تعاطيها القانون."
كما يبدو البعض الآخر من قصائده أشبه بمقالات مصغرة، كتلك التي كتبها في أكتوبر من عام 2014 مندداً فيها بمركزية القوى والأسلحة النووية والعسكرة. وفي قصائد أخرى، يشيد لي بفناني الأداء ممن سبقوه وكان لهم تأثير جليّ عليه، بما في ذلك معلمه الروحي تانغ دا وو ؛ تيشينغ هيسي؛ والمؤدي جوزيف إن جي، الذي حوكم في سنغافورة لتشذيب شعر عانته في عرضه الذي أداه عام 1994 احتجاجًا على اعتقال 12 من الرجال المثليين.
تتكون إحدى قصائد لي من شطر مفرد: "سأستبدل قصائدي بأكاذيبك كي لا أكون مضطراً للامتثال لأجندة مشغليك". وهو مثال عن كتابات لي المستمرة حول تواؤم الفن والموت والحب والحرية، مع كل المشاعر الصرفة التي ترافق منظور "الحالم بأحلامه التي لم تتحقق". يقول في قصيدته "عهد": "يوماً بعد يوم، خاض قلبي الأهوال بحثًا عن الجمال" (My heart fought daily in search of beauty).
أجيد الحب، أجيد البغض، وأتعثر بين البينين
يقول مايكل راكويتز في كتابه الأخير: "معظم عملي يوظف غياب الأشياء المفقودة على طول الطريق". حيث يجمع وثائق لمشروع يقوم به على المدى الطويل حول الفنان ليونارد كوهين في كتابه "أجيد الحب، أجيد البغض، وأتعثر بين البينين"، والذي يمكن أن يُعتبر التفسير التأملي لراكويتز لمواقف الموسيقي الراحل التي اكتست بالغموض بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وبحسب وصف راكويتز لممارسات كوهين، فإن محتوى الكتاب يركز على حالتي غياب: أولهما، إلغاء حفل كوهين عام 2009 في رام الله (الذي تم الإعلان عنه بعد مقاطعة عرضه في تل أبيب، إثر اتهامه بالقوادة)، وجهود راكويتز، التي أحبطت، في تنظيم أدائه الخاص لموسيقى كوهين في الضفة الغربية.
يكشف الكتاب عن تأثيرات متشعبة على المشروع -كعلاقة راكويتز الشخصية بموسيقى كوهين؛ واكتشافه أن المغني عزف للقوات الإسرائيلية خلال حرب تشرين عام 1973- والطريقة التي يعيد بها راكويتز سرد القصة تتفرع عنها "مواقف مختلفة" (بالإشارة لألبوم كوهين الذي صدر عام 1984).
عزف للقوات الإسرائيلية خلال حرب تشرين عام 1973... عن كتاب راكويتز "أجيد الحب، أجيد البغض، وأتعثر بين البينين"، والمأزق الأخلاقي للمغني الراحل ليونارد كوهين الناجم عن دعم الصهيونية على حساب تشريد الفلسطينيين
في رسالة يعيد نشرها من عام 2015 وجهت للمؤلف الموسيقي، يتأمل راكويتز في المأزق الأخلاقي الناجم عن دعم الصهيونية على "حساب" تشريد الفلسطينيين، والتي يتم تخفيض عواقبها بوضح أكبر من خلال النظر إلى خلفية الفنان الخاصة باعتباره يهوديًا عربيًا (والتي تبدو الآن وكأنها مفارقة). تصور الرسالة، التي لم يتم الرد عليها، عملاً حول إقامة كوهين في سيناء كـ "شاعر محارب" في صورة أخذت له من لقطة فيلم بعد ذلك بعامين -في فندق قصر الحمراء في رام الله، الذي يعد محطة توقف لنجوم منتصف القرن، والتي تعيد صياغة رحلة كوهين من وجهة نظر خيالية بحتة- مظهراً مارك جوزيف بيرغ، صديق راكويتز، الذي قام بتمثيل دور كوهين مع صور بالحجم الطبيعي من زمن كوهين في الصحراء.
رغم أن التراكبية بين الصورة والصوت الذي تنطوي عليها عدة جوانب من المشروع هي صيغة متعمدة من التأليف للابتعاد عن الكشف الفضائحي، الفصل بدقة بين الأرشفة والتكهنات، غير أن الكتاب لا يخلو من الثغرات: كاقتباس نص سينمائي مهمل في وسائل الإعلام، واستخدام صور تخرج عن سياق مادة البحث مثل قصاصات التذاكر إلى كم قميص قديم ملقى على أرضية الآجر. وهناك تلميحات عن مشروع كتاب آخر نشر لراكويتز بعنوان "حري بعدو غير مرئي ألا يكون موجوداً" (2007)، كاستخدامه صوراً لقصاصات من عبوات الطعام بالأحرف العربية التي عمد إليها لخلق نسخ مشابهة للقطع الأثرية المفقودة من المتحف الوطني في العراق. ويعلق راكويتز على هذه النسخ في الكتاب بقوله: "ما أقوم به ليس إعادة بناء لهذه القطع، بل في الواقع أعيد ظهورها لتختفي مجدداً".
في الحقيقة، يبدو كوهين كطيف باهت في مشروع راكويتز. فقد فشل راكويتز في توضيح النوايا الأصلية لكوهين من خلال إعادة إنتاج رؤاه وآثارها المادية. ولكن كما هو الحال مع معظم الأعمال المؤثرة لراكويتز، فإن هذه الاستحالة هي جزء لا يتجزأ من تقديره للمساحات الراديكالية والإمكانات التي تُخلق معها. وكوهين، بالنسبة له، ليس إلا شيفرة أكثر تعقيدًا لرموز تتعلق بالتراث والذاكرة وسياسات المقاطعة، تمت صياغتها أملاً في إصلاح خلاف يبدو متعذراً إصلاحه في يومنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...