سجلت مصر، الأحد، 14 حزيران/ يونيو، أعلى رقمٍ رسمي من الوفيات في اليوم وهو 91، مستمرًا لليوم الثاني على التوالي بنحو 1600 حالة أُبلغ عنها لأول مرة منذ تفشي الوباء في مصر في منتصف فبراير.
ولكن الألم مع كوفيد-19، لا ينتهي هنا.
شكلت مصر خياراً مثالياً في الأوساط الدولية النيوليبرالية منذ أن أقر صندوق النقد الدولي الإصلاحات الاقتصادية لعام 2016. لكن الوضع تغير الآن بعد فيروس كورونا الذي لا ينفك يكشف عن بواطن الأمور في العديد من الدول، فإذا كانت أوروبا الغربية والولايات المتحدة محاصرتين اقتصادياً بهذا العدو غير المرئي، يمكنك أن تتخيل الوضع في مصر. مع وجود مناطق ضعف كثيرة وعدد سكان يتجاوز 100 مليون، تقف الحكومة على حافة الهاوية التي يمكن أن تجلب ثلاث سنوات من المكاسب الاقتصادية في أسابيع.
لنفكر في الأمر بهذه الطريقة، تماماً كما يُعيي كوفيد-19 الجسم، فهو أيضاً يهاجم الاقتصاد، ثقة المستهلك وسلامة الشركات بالقدر نفسه من الوحشية.
أولاً ، دعنا ننظر إلى الضرر الذي يحدث طبياً.
حتى الأسبوع الماضي، سجلت مصر نحو 45,000 حالة مؤكدة لكوفيد-19، عدد وفيات 1600، وزيادة في عدد الاختبارات التي تم إجراؤها وهو 135,000 اختبار. هذه الزيادة في عدد الاختبارات، برغم كونها أمراً إيجابياً، تكشف عن نقصٍ سابقٍ في الاختبار، وهو كبير إلى الدرجة التي توحي أن نار العدوى مضرمة في مصر ولا سبيل إلى معرفة مصدر شرها. فمع مطلع كل يوم تشير العناوين الدولية إلى نقص عدد الاختبارات، تاركةً بعض الدول تغرق في التخمينات وعدم إدراك حقيقة الوضع الحالي. لذلك، في حين سجلت مصر أعلى معدل للوفيات، وأعلى عدد من حالات الإصابة هذا الأسبوع، فإن هذه الأرقام ليست سوى قطرة في بحر خفي من العدوى.
على الرغم من تفاقم الأزمة، لم تنفق مصر سوى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي على إجراءات مواجهة فيروس كورونا المميت، بينما من المتوقع أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي نحو 15 مليار دولار
وقد صرح ديفيد باتر لرصيف22 ، وهو زميل أول في تشاتام هاوس، ومحلل اقتصادي متخصص في اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتحديداً مصر، أن الاقتصاد الكلي لمصر يواجه هذا الوباء من "مكانٍ جيدٍ بشكل معقول" على حد تعبيره. يتعلق هذا التصريح، بطبيعة الحال، بموقف مصر قبل الإصلاحات التي صدر في إطارها تكليف من صندوق النقد الدولي لعام 2016. ولكن الإبحار بسفينة الاقتصاد المصري لن يكون سلساً من الآن فصاعداً، بل على العكس تماماً.
ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2019، سجلت مصر رقماً قياسياً في جني العملة الصعبة فقط من حصانها الذهبي: السياحة، الرقم الذي بلغ في العام السابق 12٫5 مليار دولار. كان ذلك هو الوضع بالأمس، أما الآن، وبعد أن ضرب فيروس كوفيد-19 البلاد، فيعاني ثلاثة ملايين عاملٍ في مجال السياحة من خسائر تصل إلى مليار دولار شهرياً. مع العلم أن السياحة تمثل 15٪ من الاقتصاد القومي، وأن تحولاً كالذي يحدث في مُجريات الأمور يقلب الموازين بالطبع.
على الرغم من تفاقم الأزمة، لم تنفق مصر سوى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي على إجراءات مواجهة هذا الوباء القاتل. "الأمر الذي يبعث على القلق هو التحويلات المالية، التي كانت قد وصلت في العام الماضي إلى حوالى 27 مليار دولار، وهذا ما سيشكل خسارةً كبيرةً هذا العام، ففي أفضل السيناريوهات، قد تصل إلى 20 مليار دولار على الرغم من صعوبة التكهن بهذا"، يعلق باتر. إضافة لتلك الخسارة هناك الخسائر السياحة التي قد تبلغ قيمتها 15 مليار دولار، سيتلقى الاقتصاد المصري ضربةً موجعة!
"أما في ما يتصل بالواردات والصادرات، فسيكون هناك انكماش مالي (انخفاض متواصل في أسعار السلع والخدمات في كافة جوانب اقتصاد الدولة) في كلتيهما"، يتوقع باتر. "بشكلٍ عامٍ، أنت تنتظر عجزاً كبيراً في الحساب الجاري هذا العام". كانت قد ظهرت أخبار بالفعل، قبل ستة أسابيع، أفادت بأن صادرات الأغذية من المتوقع أن تنخفض بنسبة 30٪" بسبب كوفيد-19.
كوفيد-19 يدمر مصر طبياً واقتصادياً ولن تتحسن حالتها حتى تطبّق حظرًا شاملًا يتضمن خطة اقتصاديةً آمنة لمواطنيها
"لم نرَ انكماشاً بعد لأن كوفيد-19 ضرب مصر قرب نهاية الرُبع الماضي"، صرح باتر. وتوقع أن تشهد مصر هذا الانكماش من الآن فصاعداً، في الرُبع الأخير من السنة المالية التي تنتهي في حزيران/ يونيو وفي الرُبعين الأولين من السنة المالية المقبلة. "من دون تدفق رأس المال أو المساعدة، يمكن أن تنزلق احتياطيات مصر من العملات الصعبة، التي عانت نقصاً بلغ 5,4 مليار دولار في نيسان/ أبريل، نحو منطقة الخطر"، استطرد باتر. وأشار إلى أن "مصر ستكون مكاناً يعاني الكثير من نقاط الضعف بوجود نسبة 60٪ من السكان عدّها البنك الدولي ضعيفة اقتصادياً".
تتعامل مصر مع نقاط الضعف المذكورة من خلال الحصول على قروض تتعلق بصندوق النقد الدولي. قبل شهر، وافق صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 2٫7 مليار دولار، ومن المقرر تقديم المزيد من القروض في الفترة المقبلة.
يعتقد محمد الدهشان، وهو زميل أول في معهد التحرير وشاثام هاوس، أن المشكلات الاقتصادية في مصر أكثر تعقيداً بسبب المُكوِّن الاجتماعي. وبالتطرق إلى قضية الساعة في مصر، وهي إمكان فرض حظر شامل، يتساءل الدهشان بحماسة: "هل نحن بحاجة إلى تطبيق حظر شامل؟ محتمل. هل يمكنهم تطبيقه عسكرياً؟ أعتقد أنهم يستطيعون ذلك. ولكن ماذا ستكون تداعيات الأمر؟".
لقد عانى العمال بأجرٍ يوميٍ في الهند بشكل كبير بسبب الحظر الكلي "مع عدم وجود طعام لإطعامهم هم أو لإطعام أسرهم". يبدي الدهشان قلقه من هذا النوع من الآثار الاجتماعية على وجه التحديد، ويشير بإصبع غاضبة إلى طبقة رجال الأعمال المسعورين بقيادة رجال مثل نجيب ساويرس. "نحن بحاجة إلى تجاهل أولئك الذين يدعون إلى عودة الاقتصاد إلى المسار الصحيح أثناء إقامتهم في منازلهم بالجونة"، يقول الدهشان.
أصيب الكثيرون بالهلع عندما كشف رجل الأعمال المصري حسين صبور عن الحقيقة البشعة في طبقة رجال الأعمال: سلامة اقتصادهم الشخصي أولوية تليها حياة المصريين. "أعد الأشخاص إلى العمل فورًا، فليمُت بعض الناس أفضل من أن نُفلس".
ساويرس، وهو سليل أكبر عائلات رجال الأعمال، كان صريحاً في دفع أجندة الاقتصاد أولاً، "حتى لو مرض الناس، فسوف يتعافون"، "دعني أخبرك شيئاً، سأنتحر إذا مددوا فترة حظر التجول".
لدى السيد الدهشان نظرة مختلفة تماماً. إنه على الرغم من تنفيذ الحظر الكامل لمدة 14-21 يوماً، أشار إلى أن الحكومة، على الأرجح، لا تضع في الاعتبار أنه حتى مع توقع 2500 حالة كورونا في اليوم، فإن وزير التعليم العالي والباحث العلمي، خالد عبد الغفار، قد صرح أن الأعداد الحقيقية للمصابين والوفيات قد تصل على أرض الواقع إلى خمسة أضعاف الأرقام المتداولة في بيانات وزارة الصحة.
في كلتا الحالتين، أتفق مع السيد الدهشان على أن الحظر الكامل ضروري لإنقاذ الأرواح، ولكن النظام، كما ثبت من خلال الحظر الجزئي - الذي انطلق في البداية من الساعة السابعة مساءً إلى السادسة صباحًا، ولكن قُلّص إلى الساعة الثامنة مساءً حتى الرابعة صباحًا- يعيد الإغلاق الكامل حاليًا. يقول الدهشان إن الحل يحتاج إلى تضمين "الخدمات العامة بطريقة مضمونة وتسهيل وصول الناس إلى الأساسيات مع تفعيل بعض الإجراءات العاجلة الذكية". وبدون هذه الإجراءات، سيواجه النظام صعوبةً شديدةً في تطبيق الحظر الشامل على الجمهور.
ما عرضته الحكومة على العمال غير النظاميين حتى الآن، ويُقدر بعض المحللين أنه يمثل 40٪ من إجمالي الناتج المحلي، هو 500 جنيهٍ مصريٍ فقط، المبلغ الذي لا يقترب حتى من حد الكفاية. لقد اقترحت على الدهشان أن 500 جنيه في الأسبوع لكل شخصٍ عاملٍ بالغٍ، رسميٍ أو غير رسميٍ، على مدار ثلاثة أسابيع من الإغلاق الكامل، هو نهج جدير بالاهتمام. بالموافقة، ذكر الدهشان أن دفع مبلغ 500 جنيهٍ مرة واحدة هو"قيمة فاتورة التبغ الشهرية" لمعظمهم، وتالياً يجب عمل أكثر من ذلك بكثير. في الواقع، إن الدولة التي خصصت مليار دولار لمكافحة جائحة فيروس كورونا ستكون ساذجةً إذا اعتقدت أنها يمكن أن تتجاهل المشاكل الاقتصادية لقطاع تقول منظمة العمل الدولية إنه يضم وظيفتين من كل ثلاث وظائف في مصر.
وأوضح المحلل المصري أنه للحصول على مساعدة الأشخاص المناسبين حتى تتمكن من تطبيق حظرٍ شاملٍ يضمن الصحة العامة، فأنت بحاجةٍ إلى "شبكة أمانٍ اجتماعيٍ أفضل يمكنها تعقب الأشخاص المناسبين لتخصيص تلك الموارد". يتفق تقرير صدر أخيراً عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (ECESR) مع الدهشان. فالحكومة اعتبرت بشكلٍ غير عادل أن 120,000 فرد فقط هم المؤهلون للحصول على 500 جنيه كراتب. أي شيءٍ أقل من نظام دعمٍ عادلٍ ومنصفٍ للملايين سيؤدي إلى الاضطراب. نحتاج فقط أن نعود بأذهاننا تسعة أشهرٍ قبل أيلول/ سبتمبر المنصرم، وذلك إلى انتفاضةٍ صغيرةٍ شهدت الآلاف في الشوارع، لفهم مدى عدم استقرار المسرح المصري في الواقع.
ويتساءل الدهشان: "هل يمكننا دفع 20 مليون جنيه مصري، بواقع 1500 جنيه لكل منهم؟ بالنظر إلى كمية الأموال التي تُضخّ في سوق الأوراق المالية المصرية، نعم يمكننا بالتأكيد القيام بشيءٍ كهذا". إذا اتّٰخذ القرار الصحيح بإغلاق البلاد ثلاثة أسابيع حدًا أدنى لتجنب الآلاف من الوفيات، لا تستطيع مصر تحمل تأثر الملايين من المصريين اقتصاديًا، وإلا فإن الثمن سيكون اضطرابًا لا يمكننا تفاديه.
لقد أوضح السيد الدهشان ذلك بإيجاز: "في السنوات الثلاث الماضية، كان لديك عجز يتقلص في الموازنة، ولكن الفقر ازداد في المقابل. في الحقيقة، ركزنا على الأساسيات، وتجاهلنا إلى حدٍ كبيرٍ الجوانب الاجتماعية للإصلاحات الاقتصادية، وهذا ما ساهم في تفتيت البلد وقدرته على الاستجابة لأزمة كوفيد-19".
حتى مع استعداد مصر لفتح المجال الجوي للسفر جزئيًا إلى ثلاث محافظات سياحية هي الغردقة ومرسى مطروح وجنوب سيناء اعتبارًا من 1 تموز/ يوليو، فإن الطريق الاقتصادي يبدو ضيقًا، وطويلًا بل غادرًا.
إذا لم تستخدم مصر التحليل المنطقي لإدارة الأزمة، فقد تتطور كارثة الأمة بسرعةٍ قصوى إلى تغيّر اجتماعي يشبه النكسة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...