شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
من ملفات المخابرات إلى شاشاتنا... كيف كرست الدراما المصرية حكم الأنظمة؟

من ملفات المخابرات إلى شاشاتنا... كيف كرست الدراما المصرية حكم الأنظمة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 24 يونيو 202012:32 م

اجتمع المصريون في رمضان، كما يجتمعون كل عام، ليشاهدوا الأعمال الفنية التي كانت مزيجاً من التعليق الاجتماعي والخطاب السياسي المدعوم من الدولة، شاهدوا هذا العام مسلسل "الاختيار" من تأليف باهر دويدار وإخراج بيتر ميمي وبطولة أمير كرارة، الثلاثي الذي قدم من قبل مسلسل "كلبش" بأجزائه الثلاثة. والرسالة واضحة في العملين: تحديد معنى القومية المصرية، ومعالم شخصيتها الاجتماعية والدينية والسياسية وفقاً للرؤية العسكرية للدولة فيما هو أشبه بجهود سلطوية "لعسكرة الهوية المصرية".

راج في خمسينات القرن الماضي في السينما المصرية نمط من الأعمال عملت على تمجيد بطولات الأنظمة والمؤسسة العسكرية والمخابراتية. كان أولها فيلم "الله معنا" (1955) للمخرج أحمد بدرخان الذي تناول قضية الأسلحة الفاسدة في هزيمة 48، ومجّد اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر كأبطال للانقلاب العسكري ضد الحكم الملكي لمصر، وقد حضر تصويره اللواء نجيب وحضر حفل افتتاحه الرئيس عبد الناصر.

وتتالت الأفلام التي تقدم مبررات للهزيمة وتبرز نزاهة الضباط العسكريين في أفلام مثل "أرض الأبطال" (1952)، "بورسعيد" (1957)، و "رصاصة في جيبي" (1974). هذا النمط تحول إلى قصص الجاسوسية في فترات لاحقة وشق طريقه إلى الشاشة الصغيرة ليتكرس في الدراما في فترة الثمانينات والتسعينات. وكان هذا الاتجاه ينحو إلى استلهام قصصه البطولية من ملفات المخابرات المصرية لضباط عملوا كجواسيس في إسرائيل في حبكة مكررة تقوم على تفوق الضابط المصري بدهائه على جهاز الموساد الإسرائيلي.

ويبدو أن أعمالاً مشابهة في الهدف عادت لتظهر لجمهور الشاشات المصرية في الأعوام الأخيرة، مزجت بين التعليق الاجتماعي والخطاب السياسي المدعوم من الدولة والمستوحى من أرشيفها العسكري هذه المرة، أمر تم التأكيد عليه، خصوصاً، بعد انتهاء حكم الإخوان لمصر. كيف كرست الدراما حكم الأنظمة العسكرية؟ وهل كان هذا على حساب طرح مشكلات اجتماعية حقيقية واجهتها البيئة المصرية ولا تزال تواجهها اليوم؟ هذا ما نحاول البحث فيه في هذا المقال.

دراما من ملفات المخابرات

كرست الدراما الدور "البطولي" الذي لعبته المخابرات المصرية على مدار عقود، حيث تناولت عشرات المسلسلات أعمالاً من ملفات المخابرات منذ ثمانينيات القرن الماضي.

 ولعل أول هذه الأعمال مسلسل "دموع في عيون وقحة" والذي كان من أوائل المسلسلات المصرية التي تكشف أنشطة المخابرات العامة، ودورها في حرب أكتوبر، من خلال تجسيده لشخصية جمعة الشوان (اسمه الحقيقي أحمد الهوان) الذي تمكن من التجسس على إسرائيل لصالح مصر، فترة من الزمن، أمدهم خلالها بالعديد من المعلومات المغلوطة التي كانت سببا في نصر أكتوبر، إضافة لتمكنه من الحصول على جهاز إرسال نادر وقتها، لم تكن تملكه سوى إسرائيل. والمسلسل كان من إخراج ليحيى العلمي، سيناريو وحوار صالح مرسي.

وأشهر مسلسلات الجاسوسية هو "رأفت الهجان" (1987) القائم على قصة حقيقية من ملفات المخابرات وضعها بين يدي مؤلف العمل صالح مرسي ضابط شاب في المخابرات بحسب تصريحه، قام ببطولته محمود عبد العزيز على مدى ثلاثة أجزاء ثلاثة أجزاء أنتجها اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري الحكومي. الأجزاء، التي استمر عرضها حتى منتصف التسعينيات، تدور حول قصة الجاسوس المصري رفعت علي سليمان الجمال الذي تم زرعه داخل المجتمع الإسرائيلي للتجسس لصالح المخابرات المصرية، وتظهر دوره الفعال في الإعداد لحرب أكتوبر. 

كما عرض في رمضان 2012 مسلسل "الصفعة" لشريف منير وهيثم أحمد زكي والذي أعد قصته من المخابرات المصرية اللواء عادل شاهين وأنتجته شركة سينرجي، التي تعد حالياً شركة السلطة للإنتاج الفني، ويقوم عليها “فلتة جيله” تامر مرسي، وتحتكر الدراما في مصر منذ الانقلاب العسكري على حكم الرئيس مرسي، تتبع لمجموعة "إعلام المصريين" التابعة بدورها لجهاز المخابرات المصرية.

بقي ضباط المخابرات منذ تسعينيات القرن الماضي يمدّون الدراما المصرية بنصوص كتبوها بأنفسهم من الملفات الأمنية لمؤسستهم

دراما الدولة البوليسية

بدت منذ رمضان (2017) سطوة المسلسلات التي تلمع صورة الأنظمة البوليسية عبر مسلسل كلبش المأخوذ أصلاً عن رواية للكاتب يوسف حسن يوسف، سيناريو باهر دويدار وإخراج بيتر ميمي وبطولة أمير كرارة الذي قدم عبر ثلاثة أجزاء، عرض آخرها في 2019 شخصية ضابط المباحث سليم الأنصاري. أجواء المسلسل تدور في فترة متوترة من إحكام القبضة الأمنية بعد انتهاء حكم الإخوان، وبدء حملة الحرب على الإرهاب التي تبناها النظام العسكري. تنتشر حواجز التفتيش في كل مكان من القاهرة، وتعرض المشاهد استخدام العنف اللفظي والجسدي من قبل رجال الشرطة مع المواطنين الأبرياء والمتهمين على حد السواء تحت دواعي أمنية يبررها "حرصهم على مصلحة الوطن".

الضابط سليم، هو الشخصية المحورية، الضابط الأعنف، الجاد، والمتفاني في سبيل القضاء على الإرهابيين وتجار المخدرات، وحتى لو تجاوز صلاحياته القانونية في التحقيق فهذا التجاوز نابع عن غايات سامية. يقع في مأزق حين يقتل شاب شاهد على قتل ابن عضو في البرلمان لفتاة إثر حادث سير بسبب تعاطيه المخدرات من قبل أمين شرطة (زيناتي) أثناء تعذيبه ليتراجع عن أقواله. يلفق زيناتي التهمة للضابط سليم مستنداً إلى سوابقه في العنف وضربه المشتبه بهم بلا هوادة، ويبدأ رحلة بحثه عن براءته.

يتابع المسلسل في جزئيه الثاني والثالث ما بدأه الجزء الأول: ضابط عنيف لكنه شريف وجريء، مشاهد أكشن سريعة الإيقاع لا تتيح فرصة للمشاهد العادي ليحلل الأحداث بشكل منطقي، خلطة متشابكة من جرائم القتل والإتجار بالمخدرات والإرهاب، ورجل البوليس، "باشا مصر" الذي يبرع في الخروج من المآزق.

دراما العسكرة، الموجهة

شاهدنا تعاوناً آخر من قبل ثلاثي "مسلسل كلبش" دويدار، ميمي وكرارة، في مسلسل "الاختيار" من إنتاج شركة سينرجي. المسلسل مأخوذ عن قصة حقيقية لحياة ضابط الصاعقة أحمد صابر منسي، الذي قتل في رفح بسيناء على أيدي مسلحين. ويهدف إلى التأكيد على شجاعة ضباط الجيش ووطنيتهم والتضحيات، التي يقدمونها من أجل الوطن بالمعايير الفنية الدنيا والأداء المباشر، والترويج بشكل فج للمؤسسة العسكرية.

تبدأ أحداث المسلسل في الإطار الزمني لرئاسة محمد مرسي عام 2012، لتروي قصة عصر الفتن والقيادة الفاشلة في عهد الإخوان، الشعب بين مؤيد أعمى، المؤامرات، محاضرة الثوار المهزومين في معنى الوطنية من السردية التباينية بين آل منسي وآل عشماوي أثناء حكم الاخوان. هذه السردية لا ترمز فقط لأجواء الاستقطاب التي عاشتها مصر آنذاك، ولكنها تظهر "الاختيار" أشبه بمانفيستو للقوات المسلحة، يحدد فيه معنى القومية المصرية، ومعالم شخصيتها الاجتماعية، والدينية، والسياسية.

من صعيد مصر إلى الدلتا، يسترجع المسلسل قصصاً وأحداثاً لطالما تناولتها الدراما المصرية: ذراع السلطة الحاكمة، إعادة انتاج صورة نمطية للمصري الكادح القادم من خارج العاصمة، يفلح في أرضها، ويحمي حدودها القومية. بطل هذه السردية سعد، مجند قناوي يعود لقريته من الخدمة العسكرية في سلاح الصاعقة ليعيل عائلته. ويطرح سعد الصورة النمطية للتدين المصري متفادياً الخطاب الإخواني، الذي يطرحه صديقه معتصم، ويصرف النظر عما يعتبرها "عقيدة تفرقة ونفاق".

تصوير المسلسل لتجربة المجندين في الجيش يعكس قصصاً عن الإخلاص والعلاقات الأخوية التي تخلقها تجربة القوات المسلحة، السردية القومية التي تمجد أهداف التجنيد الإجباري، في الحفاظ على قوام المجتمع، وعلى وحدة الوطن. كما تستدعي القصة كليشيهات عن وحدة صف الشعب، فنجد جندي مسلم يسأل جندي مسيحي عن موعد إفطار رمضان، وفي مشهد آخر يلقي جندي بنفسه في طريق انتحاري لينقذ الكمين. هكذا يعيد إنتاج مسلسل "الاختيار" صورة القوات المسلحة والجيش كمصنع لرجال مصر الأبطال.

ديفيد ليمان: "بينما أدار الإنتاج الفني في مصر ظهره لكل المشكلات الاجتماعية في الشارع، ركز على مجموعة من الأعمال التي تبرز ‘بسذاجة‘ دور الدولة في محاربة الإرهاب، وصورة الإسلام الحقيقي، تلك الأعمال كانت محمية بشكل مباشر من أجهزة الدولة المصرية"

تختلف شخصية ضابط الجيش عن بقية شخصيات المسلسل. الضابط شخصية معقدة متعددة الجوانب، نتعرف عليها وعلى أسرتها وأصدقائها. يتفاعل الضباط مع بعضهم البعض بدعابة وحميمية ويعاملون المجندين برأفة الأخ الأكبر، تساهم هذه المشاهد في خلق صورة مناخ من الأخوة والرحمة مصدرها الضباط. وتكتمل صفات الخير في الممثل العسكري للمسلسل؛ فهو متدين ولكنه ليس متشدداً، هو صارم لكنه أيضاً حليم، يهتم حقاً بالمجندين وبأهل سيناء وبالوطن ليصبح هو ‘الملاذ‘ لمصر وشعبها.

تتداخل عوامل خطاب القوات المسلحة مع الخطاب القومي والديني، وتصبح رسالة العمل واضحة؛ فالقوات المسلحة، وحدها، مؤتمنة على تعريف الهوية المصرية، دينياً وقومياً، وحمايتها من الذين كفروا بها

وبينما تظهر شخصية الإرهابي في حلتها المعتادة؛ ولكنتها الغريبة، وتزمتها الديني السطحي، ومعها الشخصية الإخوانية، نجد التطابقات المتوقعة من التزمت الديني والكفر بالهوية المصرية نصرةً للجماعة، ولكن تأتي أيضا اختلافات عقائدية مهمة توضح أسباب انخراط القوات المسلحة وراء رئاسة محمد مرسي - في لحظة ما -، احتراما ًلإرادة الشعب والديمقراطية، كما يشير منسي في العديد من المشاهد.

المسلسل متمسك بخطاب إسلامي محافظ يقترب من خطاب الإخوان في حثهم على اتباع الشريعة ويختلف معهم على معانيها، ففي مشهد يحاضر شيخ أزهري مجندين الصاعقة عما يصفه بتحريف الإرهابيين لفكر ابن تيمية ويوضح أن كتابات ابن تيمية لها سياق تاريخي يتجاهله التكفيريون، ليوظف هذا الفكر الإسلامي كأداة إجرامية يكفر بها الابرياء ويقيم عليهم حدوده من غير حدود الله.

ترسم الحلقات صورة الدولة المصرية، ممثلة في القوات المسلحة، وهي تسعى لحماية أهل سيناء وضمهم للمفهوم الجمعي المصري ولكن تقابل تلك الجهود بمقاومة من قبل السيناوية؛ فالانخراط في الهوية المصرية الرسمية يحتم تجرد الشخصية السيناوية من طباعها وصفاتها الخاصة. على عكس السيناوية، لا مكان لضم الإرهابيين والتكفيريين للمفهوم الجمعي المصري فهم أعداء، خانوا الوطن، ومن الواجب محاربتهم.

وهكذا، يرى المشاهد تداخل عوامل خطاب القوات المسلحة مع الخطاب القومي والديني، وتصبح رسالة المسلسل واضحة؛ فالقوات المسلحة، وحدها، مؤتمنة على تعريف الهوية المصرية، دينياً وقومياً، وحمايتها من الذين كفروا بها.

كتب سليم عزوز في القدس العربي "لا تصنع البروبغندا من "الاختيار مسلسلاً" ناجحاً، وإن تم فرضه بقوة السلاح". يكشف سليم عزوز عن حصول تشويه في الأحداث الحقيقية في القصة "لجعلها على المقاس"، فعشماوي، محور التطرف والشر في العمل لا يمت للإخوان بصلة، وأن في الواقع قبض عليه في ليبيا لأنه منضم لتنظيم داعش. واعتبر الكاتب، المتعاطف مع الإخوان أن هذا المسلسل لم يشوههم وإنما شكل دعاية مضافة لهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image