هو دفتر مذكراتكم الخاص يحمل في صفحاته تجاربكم الماضية والحاضرة، الحلوة منها والتي ترغبون في نسيانها. يحويها كلّها دون حذف أي منها. ذكريات طفولتكم. أفراحكم. أوجاعكم. همومكم. علاقاتكم الناجحة والفاشلة. نظرة الآخر لكم. أين تبقى يا تُرى؟
الجواب: الجسد
ذاكرة النفس ووسيلة تواصلها مع العالم. له لغته الخاصة، لغة كثيراً ما نتجاهلها أو لا نفهمها، لكن الأكيد أنه وسيلة التعبير عن أوجاعنا والمتنفس الوحيد لها. نشعر بنتائجها من خلال آلام الجسد أو الاضطرابات التي يعانيها.
لكن هل ندرك أنها نتيجة ألم عاطفي ما كما علّمنا الفيلسوف الفرنسي مرلو-بونتي "نحن لا نملك جسداً. نحن الجسد"؟
كيف يخاطبكم جسدكم؟
الجسد شاهد حيّ، يراقب، يحاسب ويتصرّف. هو ليس مجرّد كيان منفصل عن النفس وما تعانيه. هو مرآة تلك النفس. نفس ما زال علماء النفس يحاولون فهمها وتحليلها، فيما ينشغل الطب في معالجة الأوجاع الجسدية بمعزل تام عن المشاعر السلبية التي قد تكون في الواقع أدّت إلى إنهاك الجسد ووضعه في حال تأهب أو عجز. فقد أثبتت الدراسات أن الضغط النفسي أو ما يعرف بالـ Stress هو أحد أهم الأسباب الكامنة خلف أمراض القلب والسرطان، ولكن الأمر لا يقتصر على الأمراض العضوية فقط. الجسد له وسائل أخرى في التعبير. يخاطبكم من خلال نظرتكم له وعلاقتكم اليومية به. هل تعاملون جسدكم برحمة أم تقسون عليه؟ من خلال تناول الوجبات الغذائية غير الصحية التي تساهم في زيادة وزنكم وإضعاف مناعتكم، أو من خلال تناول الكحول المفرط الذي يساهم في اختلال توازنكم، أو تشويه شكلكم الخارجي من خلال نخر أظافركم باستمرار؟ هل هذا كلّه يحصل في اعتقادكم بمعزل عن حالتكم النفسية؟ لماذا نشعر أحياناً أن لا سيطرة لنا على أجسادنا؟ وكأن لجسدنا دماغاً منفصلاً يعمل دون إذننا. إن كنّا لا نملك ملكيّة ذلك الجسد فهذا لأننا نحن ذلك الجسد. والـ"نحن" تعني داخلنا، ما لدينا من مشاعر وتجارب. الـ"نحن" تلك صامتة وتستخدم الجسد أداة لمخاطبة العالم الخارجي. عالم يمكن ألا يرى وجعكم الداخلي إن حاولتم إخفاءه لسبب أو لآخر. لكنه بالطبع سيرى تأثيره الخارجي على أجسادكم. غالباً ما نغني للنسيان ونتنماه. نسيان التجارب الأليمة واعتبارها ماضياً تخطيناه. لكن الجسد لا ينسى. يعبّر بطريقته الخاصة من خلال مرض ما أو من خلال سلوك يصعب عليكم تخطيه. وظيفته هي حماية نفسيتكم من آثار الألم إن ظلّ محتقناً داخلكم. يخرجه من خلال خلل في النوم أو في الأكل أو غيرها من السلوكيات التي من شأنها إنذاركم أن بنيتكم النفسية ليست بخير. ومن هذا المنطلق نرى التواصل الواضح بين النفس والجسد، والذي أدّى بالجسم الطبي إلى إعادة النظر في طرائق علاج الأمراض العضوية من المبدأ التالي: كل مرض جسدي هو نتيجة صراع نفسي مكبوت. أي أننا كلّما عرّضنا أجسادنا لضغوط نفسية متتالية دون السماح لها بالتنفيس وأخذ استراحة كافية من تلك الضغوط، ضعف جهاز المناعة النفسية وضعف معه جهاز المناعة الجسدية لتصبح صحتنا الجسدية في مهب الريح، هشة وعرضة للإصابة بالأمراض كالإنفلونزا والإرهاق المزمن وصولاً لصعوبات التنفس والهضم التي نشعر بها بوضوح حين نكون تحت تأثير صدمة نفسية. كل تلك الأمراض وغيرها باتت تصنف في خانة ما يسمى بالأمراض العضوية-النفسية، ومع تطور الطب العضوي النفسي Psychosomatic medicine بات التركيز ليس فقط على معالجة الأعراض الظاهرة بل على محاولة استكشاف الصدمات النفسية التي أدت إلى تلك الأعراض. بات إذاً العلاج الأمثل هو الذي يشمل الجسد والنفس معاً باعتبارهما بنيتين لا ينفصلان.هل يكون جسدكم وسيلة للإنتقام؟
"منذ أن كنت طفلة تكرر أمي على مسامعي: إن لم تنقصي وزنك فلن يرغب أحد بالزواج منك" تقول هالا، فتاة ثلاثينية تعاني اليوم من وزنها الزائد وقد زارت كل عيادات الريجيم وحرمت نفسها كثيراً حتى فقدت الأمل وأجرت جراحة لتصغير معدتها ظانةً أن ذلك هو الحلّ. إلّا أنها بعد وقت قصير استعادت وزنها لا بل أكثر."نحن لا نملك جسداً. نحن الجسد" مرلو-بونتيتنظر هالا لجسدها باشمئزاز. الشعور البشع نفسه الذي كان يصلها كلّما كانت والدتها تنظر إليها. اشمئزاز كبر معها حتى أصبح جسدها محور التواصل شبه الوحيد بين هالا ووالدتها. مثل هالا الكثير من الفتيات اللواتي يعانين من السمنة ومعها نظرة مجتمع لا يرحم وأهل ضحايا ذلك المجتمع يسقطون كل المزايا التي تتمتع بها الفتاة مقتصرين نجاح مسيرتها في الحياة على شكلها الخارجي. لكنهم لا يعرفون أن السمنة لم تكن خياراً بل نتيجة. نتيجة احتقان وتناول سموم عاطفية وليس فقط غذائية. سموم أخذت تمتد في نواحي الجسد ولم تجد بعد من يطردها لا بل هي تتكرّس كل يوم من خلال الانتقادات الجارحة سواء تلك المتعلقة بالشكل الخارجي أو السلوك الداخلي. يصبح حينذاك الشخص كارهاً لذاته غير قادر على فصل شخصه عن الآخر فيصبح جسده وسيلة انتقام من ذاته ومن فشله أولاً، ولكنه أيضاً انتقام من ذلك الآخر الذي يحاول إجباره على فعل ما يعجز عنه. وأنتم، كيف تتعاملون مع أجسادكم؟ خصوصاً عندما تكونون في حالة نفسية صعبة. هل تلجأون إلى تناول الكحول المفرط أو ربما تكثرون من التدخين؟ هل تصبحون غير قادرين على النوم أو على العكس تنامون أكثر من اللازم؟ هل تمارسون الجنس بشكل مفرط وتعددون الشركاء الجنسيين دون أي مشاعر أم بالعكس تمتنعون من ممارسة الجنس نهائياً؟ هل تسمحون للـ"أنا" الحزينة أن تنهك جسدكم أم أنكم تحاولون العمل على الأصل أي على المشكلة النفسية؟ ليس الأمر بهذه السهولة طبعاً. لأن بعض الأشخاص يكدّسون المشاعر السلبية معتقدين أن الوقت والزمان سيتكفلان بعلاجها ورميها جانباً، وينسون أن كل زاوية من جسدهم تحمل ذكرى مرّة أو لمسة موجعة أو نظرة أيقظت فيهم الذنب. تكديس المشاعر السلبية خطير لأنه يقتل الرغبة فيكم ويحوّلكم من كائن مليء بالرغبة إلى شخص آلي يقوم بأفعاله بدافع الواجب أو التنفيس أو الجبر أو حتى ظانين أن ذلك سينسيكم ألمكم أو يبنّجه. فكروا في حياتكم الجنسية مثلاً. هل سبق أن مارستم الجنس من دون رغبة أو لجأتم إلى تعدد الشركاء الجنسيين دون متعة كمحاولة للهرب من مشاكلكم بالجنس؟ هل يستحق جسدكم معاقبته بغياب الرغبة؟
للآخر حصة من جسدكم
هو "الرسم الواقعي للحياة". هكذا يسميه الطبيب بيار لجونياس. حين يذهب الجسد تنتهي الحياة. هو ذلك البوق الذي نستعين به لمخاطبة الآخر. لكننا أحياناً نعجز عن مخاطبة الآخر بلساننا. نعجز عن قول "أنا أتألّم. أشعر بالوحدة. أشعر أنني أختنق". في أوقات كثيرة، يكون الوجع أكبر من أن يختصر ببضع كلمات إما لعظمته أو لعدم امتلاك الشخص أدوات المخاطبة السليمة. فيصدح حينذاك صوت الجسد ليوصل الرسالة نفسها: "أنظروا إليّ. أنا لست بخير". تجعلون من أجسادكم وأنفسكم ضحايا وتسمحون للمرض والألم بالسيطرة عليكم لكسب اهتمام الآخرين من خلال تشويه جسدكم أو القيام بما يؤذيه. لأنه يبقى من السهل رؤية ما هو محسوس على محاولة إدراك ما هو في الداخل، أي الشعور. تسقطون أرضاً من شدة السكر أو تتخطون السرعة أثناء القيادة فتعرضون أنفسكم لخطر الموت، وغيرها من السلوكيات التي تخاطبون أجسادكم من خلالها وتخاطبون الآخر فتطلبون مساعدته من خلال ضعفكم أو عجزكم، أو ببساطة ربما تطلبون منه الحب. حب خالٍ من إشارات النقد ومحاولة إلباس جسدكم ثوباً لا يليق به. حب لا يريد تغيير الجسد ولا إيذاءه. فالحب أساسي في نمو الجسد والنفس ولا يمكن للجسد أن يحيا وينمو من دونه.ما السبيل لاحترام الجسد؟
ما العمل إذاً حين تشعرون أن أفقكم محدود، وأن جسدكم هو السبيل الوحيد للتنفيس عن احتقانكم؟ هل تستمرون في السماح لغضبكم باستخدام جسدكم أداة للانتقام أم تحاولون الذهاب إلى أصل المشكلة، أي إلى الوجع النفسي الذي تشعرون به؟ فبدلاً من أن تتسببوا بأذية الجسد، ربما من المفيد استخدام ما تملكون من قدرات تعبيرية أخرى، كالكلام أو حتى الصراخ. الحديث عن ذلك الألم. تحوير الانتباه مرحلياً عن المشكلة. ابتعدوا عن المكان أو الشخص الذي يزعجكم حتى ولو للحظة. نادوا مناعتكم النفسية وحضروا أسلحة المواجهة وتأكدوا أن تكون موجهة صوب الخارج لا صوب الذات. لن يحترمكم الآخر إن لم تبدأوا أنتم باحترام جسدكم. ربما يوجد أشخاص منكم غير قادرين على الابتعاد فعلياً. يشعرون أنهم في سجن أو مجبرون على البقاء. لا بأس. انسداد الأفق على بشاعة آثاره الآنية من شأنه إيقاظ مخيّلتكم. فهي أيضاً لديها أسلحة دفاع ومُحارِبة. أهربوا بمشروع ما تحضّرون له. بهواية تسرقكم وتحميكم من واقعكم الصعب. بفكرة وهمية تشعركم أن الحياة أفضل. بحلم. أي حلم يمكن أن يصبح حقيقة إن ركّزتم عليه عوضاً عن التركيز على كيفية إيذاء أجسادكم.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...