"معاً ننقذ المركب من الغرق... ثورة من الشمال إلى الجنوب"... هذه كلمات الجدارية الأخيرة في إدلب الخضراء، إدلب التي شارك أهلها في أولى مظاهرات ثورة الكرامة التي انطلقت في سوريا عام 2011، وخاض أهلها كل أنواع الصراعات التي لا يستوعبها عقل بشري، حتى أصبحوا آخر المطاف محاصرين، يحاولون بعد كل حادثة يُهان فيها إنسان ما أن يُخبروا العالم بتضامنهم معه، يحاولون أن يثبتوا للبشرية جمعاء أنهم أناس من لحم ودم، بشريون يتعاطفون، يحزنون ويبكون ويشعرون بمصائب المهدورة حقوقهم، لعلهم ينالون استحقاق الحياة، ربما لأنهم بلعوا الحزن كلّه وحملوا على عاتقهم كل ثورات المنطقة، لا بل تضامنوا مع كل القضايا العربية والعالمية، وكأنهم يحاولون في كل مرة أن يقولوا للعالم: نحن معك، نحن المنسيين الذين ننتظر أولادنا ليكبروا، آملين ألّا تظهر على أجسادهم آثار استخدام النظام للسلاح الكيماوي، ننتظرهم ليكبروا ونتمنى أن يموتوا بحادث سير أو سكتة قلبية، أن يموتوا موتاً مباغتاً لا احتضار فيه ولا دموية، نحن الذين تشمئز من صورنا تحت الأنقاض، وتغيّر محطة الأخبار إذما رأيت لعابنا والزبد يفور من شفاهنا وأعناقنا، نحن الذين ندفعك للتقيؤ بسبب أجسادنا التي لطالما نقصها عضو ما بعد غارات النظام، نحن، بما تبقى منّا، معك أيها العالم بكل جراحك.
ليكون الجنوب السوري مرة منبت الثورة، ومرة غرفة إنعاشها.
"الشعب يريد إسقاط النظام"
لم يكن مفاجئاً ربما استمرار إدلب في المظاهرات، مرة ضد النظام السوري ومرات عديدة ضد الفصائل المسلحة المتشددة، والتي كان الفضل الأكبر للنظام السوري في انتشار قادتها. المفاجأة الوحيدة كانت خروج المظاهرات من الجنوب السوري مرة أخرى، الجنوب الذي انتفض منذ تسع سنوات، وانطلقت مظاهراته من درعا، اليوم تنتفض جارتها التي كما نحبّ أن نسميها: سويداء القلب.
ليكون الجنوب السوري مرة منبت الثورة، ومرة غرفة إنعاشها.
الجنوب السوري نفسه الذي حاول تجّار ومافيات النظام نشر الحشيش والحبوب المخدرة فيه بطريقة جنونية، للانتقام من شبابه أو لتخديرهم، لكن إجابتهم كانت واضحة، فعلى بعد ساعتين من مركز العاصمة، يهتف السوريون والسوريات لإسقاط النظام، بوجوه مكشوفة، بأصوات عالية، يهتفون للبلاد المنكوبة ولبثّ الروح في الثورة السورية، ليقولوا للشعب: حيّ على الثورة.
على بعد ساعتين من القصر الرئاسي، الشعب السوري يرفع الوسطى للأسد مجدداً.
حين نجتمع في بيت أحد الأصدقاء، نغلق الشبابيك والأبواب جيداً لنصنع ثورتنا الصغيرة، نردد الهتافات، وكلنا ثقة أننا سنعود يوماً للساحات، نحن في الداخل الذين توقفنا الحواجز التابعة للنظام كل يوم، لم نتصالح معها، لم نتقبّلها، بل أخذت تحفر في رؤوسنا كل يوم صورُ من كفناهم بدمائهم ودمائنا
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة"
مع انتشار فيروس كورونا، ومع الخطة الحكومية التي كانت تحوم للتسلق على مرض الشعب للتخلص من العقوبات الاقتصادية، كنا قد وصلنا تماماً لمرحلة الموت البطيء، مجرد جثث بليدة تهيم على وجهها في البلاد.
التضخم المالي أصبح واضحاً لابن السابعة، أطفالنا يتحدثون عن سعر الصرف اليوم، راتب الموظف السوري يكفي عائلته ليوم واحد فقط، حيث أصبح الراتب الشهري وسطياً يعادل أقل من 25 دولار.
لنصبح شعباً يملك كلّ مؤهلات الثورة، يملك قلوباً قتلت الخوف، جيوباً خالية تماماً، وأولاداً جائعين.
كل بيت سوري يملك سجلاً كاملاً لشهداء من عائلته، وتاريخاً كاملاً من الذكريات الحزينة التي تنهمر على شكل دموع، إذ ما شغّل أحدهم مظاهرة يغني فيها الساروت من أحد أحياء حمص القديمة:
"حانن للحرية حانن... هالشعب ببيتو مش آمن
كبار صغار بنعرف إنه... يلي بيقتل شعبه خاين"
نحن غير الآمنين، الذين تحيط بنا صور بشار الأسد وحافظ الأسد وقادة روس وإيرانيون، نحن الذين نذكر أنفسنا بثورتنا، ونردد كل يوم، أن الذي يقتل شعبه خائن ومجرم، كنا بأمس الحاجة لتذكّرنا السويدا أنه "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
فمع تحوّل الشعب السوري الثائر لمجرد أرقام على شاشات الأخبار، على صفحات الفيسبوك، أرقام من أسقطهم الرصاص الحي في المظاهرات ومن بلعهم البحر، ومجرد عدّاد يتزايد لشبان وشابات في سجون النظام، أصبح تذكر السنوات التسع الماضية أشبه بشريط دموي طويل يقبض القلب، نتذكر الخوف، الغضب والحقد الذي أخذنا نربيه في قلوبنا.
حين نجتمع في بيت أحد الأصدقاء، نغلق الشبابيك والأبواب جيداً لنصنع ثورتنا الصغيرة، نردد الهتافات، وكلنا ثقة أننا سنعود يوماً للساحات، نحن في الداخل الذين توقفنا الحواجز التابعة للنظام كل يوم، لم نتصالح معها، لم نتقبّلها، بل أخذت تحفر في رؤوسنا كل يوم صورُ من كفناهم بدمائهم ودمائنا.
نحن اليوم أحياء في دمشق، تذكّرنا سويداء القلب أننا لا زلنا نملك ما نعيش لأجله، تذكّرنا أن الثورة ليست من أجل أن نعيش، بل نحن نعيش للثورة، وتقول لنا إدلب: "معاً ننقذ المركب من الغرق"
"ما بدنا نعيش... بدنا نموت بكرامة"
يحذرني الأصدقاء والصديقات من حماسي المبالغ فيه، نطلب من أنفسنا ألّا نكرر الأخطاء السابقة، نحضّر أنفسنا للثورة بأدرينالين مرتفع وبقلوب ترتجف من النشوة.
يخاف البعض من خذلان جديد لن نقوى على تحمله هذه المرة، لكنني أعرف تماماً أن عدم خروجناً اليوم أو غداً في دمشق، لا يعني الهزيمة قطعاً، فالساحة تنتظرنا لا محالة.
نحن اليوم أحياء في دمشق، تذكّرنا سويداء القلب أننا لا زلنا نملك ما نعيش لأجله، تذكّرنا أن الثورة ليست من أجل أن نعيش، بل نحن نعيش للثورة، وتقول لنا إدلب: "معاً ننقذ المركب من الغرق".
في دمشق، نحن الذين لم نسافر لأسباب عاطفية، مادية أو حتى منطقية، رغم خلو هذه البقعة الجغرافية من المنطق تماماً، إلّا أننا هنا كلنا نقف خلف أبواب بيوتنا، ملتصقين بها، ننتظر سماع هتاف ما، أي هتاف، لنركض إلى الشارع ونصرخ: "ما بدنا نعيش... بدنا نموت بكرامة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين