شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
رحيل محسن إبراهيم... قائد الصامتين ومعلّمهم

رحيل محسن إبراهيم... قائد الصامتين ومعلّمهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 4 يونيو 202004:59 م

من العسير القول إن موت محسن إبراهيم يختتم مرحلة من تاريخ لبنان. كان الرجل في العقود الأخيرة من حياته متريثاً في العودة إلى الحياة العامة، تريثٌ لم يكن نابعاً من نقص في الشجاعة والإرادة وحسن التقدير، بل ناجماً عن نقص فادح في الأمل.

في أوائل التسعينيات، وحين كنّا، شلة قليلة مغامرة، نحسب أن مقالاتنا الأسبوعية في صحف لبنان كفيلة بتحقيق الانتصار، وإخراج البلد من نفق الهيمنة السورية الطويل، كنت واحداً من الذين حضّوا الراحل على المساهمة في الرأي والكلمة والمقالة في هذه المعركة.

كنت أحسب أن دخوله في هذه المعركة يعطيها زخماً كنّا نفتقد إليه، ويسرّع بتحقيق النتائج المرجوة منها. يومها قال لي: "ليس الرأي الثاقب هو الذي يرغم النظام السوري على إخراج جيشه وكسر هيمنته، فللوصول إلى هذه النتيجة يتوجب أن تتضافر عوامل عديدة داخلية وخارجية ليست ماثلة في الأفق، أما الافتراض بأن مساهمتي في المعركة بالكلمة والرأي والبيان، قد يعدّل في موازين القوى السياسية الداخلية فهو افتراض لا أساس له، ذلك أن التعديل في موازين القوى يحتاج إلى حشود متحمسة تتحلق حول شعار ما، أكثر مما يحتاج إلى أفكار ثاقبة وتحليلات دقيقة".

يومها لم أقتنع برأيه، بدليل أنني واظبت على الكتابة في مواجهة الهيمنة السورية، زمناً طويلاً قبل أن أدخل مرحلة الصمت مرغماً، ومهزوماً وينقصني الأمل. احتجت أكثر من عشرين عاماً لأدخل في الصمت البليغ والشجاع الذي أسسه محسن إبراهيم في المشهد السياسي اللبناني ورعاه.

هل أقول إن البلد لم ينضج كفاية ولم يخرج من حروبه العبثية الضيقة ليتيح لمَن هم مثل محسن إبراهيم أن يؤدوا أدواراً في سياسته؟ أجزم أن هذا هو الأمر بحرفيته. أن يكون محسن إبراهيم حياً ومستمعاً ومراقباً ومثابراً على التحليل، لكنه يعتصم بالصمت، في بلد تضج أروقة السياسة فيه بأمثال وزرائنا ونوابنا وقادة أحزابنا، لهو خير مثال على غربة البلد عن تاريخه وغربة الرجل عن حاضر البلد، والأرجح عن مستقبله.

"أن يكون محسن إبراهيم حياً ومستمعاً ومراقباً ومثابراً على التحليل، لكنه يعتصم بالصمت، في بلد تضج أروقة السياسة فيه بأمثال وزرائنا ونوابنا وقادة أحزابنا، لهو خير مثال على غربة البلد عن تاريخه وغربة الرجل عن حاضر البلد، والأرجح عن مستقبله"

قيل الكثير عن جرأة الراحل وشجاعته في نقد الحرب الأهلية و"تفرعاتها العبثية"، وهو أحد منظريها الأوائل، وقيل الكثير عن تحوّلاته الفكرية العميقة واستمراره على قيد المعاصرة في الفكر والسياسة والاجتماع. لكن ما لم يقل، على حد علمي، هو قناعته العميقة بأن لبنان يوكلنا في الانتماء إليه إلى أنفسنا، وأننا لا نصير لبنانيين إلا باختبار المحن والحروب. أن تكون لبنانياً يعني أن تكون عائداً من حربك التي خضتها خطأ، وقطعت على نفسك عهداً بتعليم الآخرين الندم، وهو درس لا يمكن تعلمه إلا بالتجربة الحية، المجبولة بالدم والقلق والنفي والاعتقال.

كل مَن رثى وسيرثي محسن إبراهيم لا بدّ أن يشير إلى مساهمته في إطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهي مساهمة كبيرة بلا شك. لكن مساهمته الأكبر هي تلك التي أعقبت زمن المقاومة الوطنية، المساهمة التي انتبهت على نحو خطير ولافت إلى أن موقفنا من إسرائيل، سلماً وحرباً، محكوم بميزان طائفي دقيق.

"علّمنا محسن إبراهيم أننا لا نصير لبنانيين إلا باختبار المحن والحروب. أن تكون لبنانياً يعني أن تكون عائداً من حربك التي خضتها خطأ، وقطعت على نفسك عهداً بتعليم الآخرين الندم، وهو درس لا يمكن تعلمه إلا بالتجربة الحية، المجبولة بالدم والقلق والنفي والاعتقال"

فحدودنا الجنوبية بمجملها يغلب على سكانها الانتماء للطائفة الشيعية. وهذا يعني أن أي حرب، أو توتر، مع إسرائيل ستكون آثارها مدمرة على أماكن عيش الشيعة وقراهم وحواضرهم، أكثر مما تؤثر على أبناء الطوائف الأخرى وأماكن عيشهم وإقامتهم، نظراً إلى أن طوائف لبنان تتكتل في كانتونات شبه مغلقة على نفسها.

وهذا يعني أن كل سياسة نتخذها ضد إسرائيل كلبنانيين، ستكون تبعاتها على الشيعة أرجح وأشد وطأة. هكذا حين كانت الحرب غير المتكافئة مع إسرائيل شعار الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، قبل فترة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، غلب على الشيعية السياسية تفضيل مواجهة هذه القوى، سعياً وراء الأمن وتوخياً لتقليل الخسائر المباشرة. وفي السنوات التي تلت الاجتياح والاحتلال كان شعار القوى المهيمنة في الطائفة الشيعية يتلخص بالعبارة الشهيرة: لا للعودة إلى ما قبل 1982، أي لا للعودة إلى هذا الصراع غير المتكافئ مع عدو أقوى وأشرس وأفتك تسليحاً. وحين تنكب حزب الله لمهمة خوض هذا الصراع غير المتكافئ، لم تنجح القوى الطائفية المعترضة على نهجه في هزيمته وثنيه عن حربه المكلفة، ذلك أن هذه الحرب خيضت بالشيعة، دماً وأرزاقاً، ولم يكن في وسع الطوائف الأخرى أن تنافسه في هذا المضمار، لأنها مهما كانت صادقة في صراعها مع إسرائيل فليس بوسعها أن تساهم في هذا الصراع بأكثر من مجموعات مقاتلة محترفة، تفتقد إلى الحضن والأهل والتغطية.

وربما يجدر بنا التذكير بأن فاعلية المقاومة الوطنية كانت حاسمة في المناطق التي كان فيها المقاتلون يستطيعون التخفي بين الحشود في المدن الكبيرة. لكنها ما إن حررت الشطر الأكبر من الجنوب والبقاع الغربي، وبيروت الغربية من قبل، حتى تحوّل مقاتلوها "الأفراد" إلى غرباء بين أهل القرى ولا يستطيعون التخفي والعيش في السر.

بهذا المعنى، يجدر بنا إعادة تعريف مقاومة حزب الله ضد إسرائيل بوصفها "مقاومة أهلية"، بخلاف ما كانت عليه المقاومة الوطنية التي ساهم الراحل في إطلاقها، وهي كانت وطنية بالمعنى اللبناني الصرف، أي أن مقاتليها هم مواطنون، في بلد ليس فيه أمكنة معلومة يمكن أن ينشأ فيها المواطنون. فاللبنانيون يولدون أبناء طوائف وعائلات ويتعلمون بالتجربة واقتراف الخطأ أن يصبحوا مواطنين، والمواطنون غالباً ما يكونون قلة معدودة، ويسهل عليهم كثيراً أن يتخلوا عن أحلامهم، لأن المواطن اللبناني يدرك هويته اللبنانية حين يبلغ من التجربة عمراً تقلّ فيه الأحلام وتخبو، وتخف الحماسة وينتشر الصمت.

رحل محسن إبراهيم، قائد الصامتين ومعلمهم، أولئك الذين صمتوا اغتيالاً أو نفياً أو يأساً. وبرحيله، لم يعد ثمة قائد للصامتين، والأرجح أنهم سيتبعثرون أشلاء في أركان الدنيا الواسعة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard