يرتبط الطعام باللذّة، الجسد والصحة، كما يرتبط بالهوية، التراث والثقافة، ما يجعله وسيلة للتعبير عن الذات والمعنى. تبيّن أوما ناريان، وهي باحثة نسوية في مجال الدراسات الثقافية، أن الطعام "يكشف الكثير عن كيفية فهمنا لهوياتنا الشخصية والجمعية. تعكس أفعال الأكل البسيطة نكهات لمعانٍ ثقافية معقدة وأحياناً متناقضة. يمكن أن يساعد التفكير في الطعام في الكشف عن القوام الغني والفوضوي لمحاولاتنا لفهم الذات، بالإضافة إلى فهمنا وإدراكنا لعلاقتنا بالآخرين".
ضمن منطقة الشرق الأوسط نحتفل بموروثنا الغذائي الذي نتناقله من جيل إلى آخر، ونعتزّ بمطبخنا كجزء أساسي من ثقافتنا. موروثنا من طبخ الجدّات وذكرياتنا حول طفولتنا المرتبطة بغذائنا، تحمل تصورنا حول ذاتنا وعالمنا. ضمن هذه الرؤية، كيف يقوم النباتيون والخضريون بعكس هذه التساؤلات على نظامهم الغذائي والعمل لخلق انسجام بين معتقداتهم وبين غذائهم؟ لتحقيق هذه المعادلة، يسعى بعض نباتيي وخضريي المتوسط، للتجريب والابتكار وإيجاد مساحة لهم ضمن موروثهم من الوصفات التقليدية التي كبروا على نكهاتها ودفئها.
تعبّر وصفاتنا التقليدية عن معنى الطقوس والاحتفالات المختلفة، فالأعياد والأفراح وحتى الجنازات، لكل منها وصفاتها الخاصة، وبحسب دراسة تبحث في الطعام التقليدي، تعرّف هذا النمط من الغذاء كمنتج يتم استهلاكه بشكل متكرّر، يرتبط باحتفالات و/أو مواسم محددة، ينتقل عادة من جيل إلى آخر، يتم صنعه بعناية بطريقة محددة وفقاً لتراث الطعام، وهو معروف بسبب خصائصه الحسية، ويرتبط بمنطقة أو بلد محلّي معين.
يعرض هذا التقرير تجارب وشهادات لنباتيين/ات وخضريين/ات عرب، من فلسطين، سوريا، العراق، الأردن ولبنان، حول نظامهم الغذائي النباتي وعلاقته بموروث المنطقة الثقافي، فعلى عكس ما يعتقد البعض، يرى معظم النباتيين/ات انسجام نظامهم الغذائي مع موروث منطقة الشرق الأوسط والعناصر الغذائية المتوافرة فيها
يعرض هذا التقرير تجارب وشهادات لنباتيين/ات وخضريين/ات عرب، من فلسطين، سوريا، العراق، الأردن ولبنان، حول نظامهم الغذائي النباتي وعلاقته بموروث المنطقة الثقافي، فعلى عكس ما يعتقد البعض، يرى معظم النباتيين/ات انسجام نظامهم الغذائي مع موروث منطقة الشرق الأوسط والعناصر الغذائية المتوافرة فيها، فرأى أغلب المشاركين أن اللحوم دخيلة على ثقافتنا، وأن المكون الأساسي لوصفاتنا التقليدية هو الخضروات والنباتات بتنوعاتها.
المسخّن... استبدال الدجاج بالفطر
وبحسب أحلام هارون، من رام الله- فلسطين، فإن موروث منطقة الشام هو نباتي في غالبيته، وتم إضافة اللحوم للعديد من الوصفات في العقود الأخيرة، نتيجة تغيّر العادات الغذائية والتوجه للنمط الاستهلاكي، فعند تحولها لنباتية لم تجد صعوبة بإزالة اللحوم من بعض الوصفات، والعودة للوصفات الأصلية، كالفاصوليا، البامية، المقلوبة، الملوخية، الملفوف... إلخ، ومن الجميل برأيها، أن بعض أفراد العائلة باتوا يفضلون الوصفات النباتية ويشاركونها الطعام.
كما تشعر سيرين سلوم أبو فنة، من خلال تجربتها، بأن النظام النباتي شجعها على الطبخ والاستمتاع بأنواع الخضار المختلفة، وكفلسطينية من الداخل الفلسطيني، استمرّت بإعداد الوصفات التقليدية، مثل المسخّن الذي استبدلت فيه الدجاج بالفطر والمحاشي، كما تضيف داليا القضاة من الأردن- بريطانيا، أن المنسف أيضاً صار جزءاً من الموروث النباتي الذي تقدمه بطريقة خضرية لأصدقائها في لندن.
مع الصور المتناقلة في الفضاء الإلكتروني لوصفات العيد، يشارك النباتيون والخضريون بدورهم وصفاتهم التقليدية التي تم تعديل بعضها لتتناسب مع خضريتهم.
الآن، ومع الصور المتناقلة في الفضاء الإلكتروني لوصفات العيد، يشارك النباتيون والخضريون بدورهم وصفاتهم التقليدية التي تم تعديل بعضها لتتناسب مع خضريتهم.
من العراق تشارك نور أحمد وصفات العيد التقليدية بطريقة نباتية، وتؤكد أن نظامها النباتي لم يمنعها من طبخ الوصفات العراقية التقليدية، مثل الدولمة، البامية والبورك، ومن الحلويات مثل زنود الست، وفي منطقة الشرق الأوسط، تأتي المكونات مثل التمور، الجوز واللوز، كعناصر أساسية لوصفات الحلويات من المعمول وكعك العيد، والذي يقوم النباتيون بتحضيره دون الحاجة إلى إدخال تعديلات على بعض الوصفات.
الطحينة كبديل للألبان والأجبان
تبيّن فاتنة ليلى من سوريا- ألمانيا، من خلال اتباعها النظام الخضري الصرف، بأنها عملت على التركيز على الطحينة كبديل للألبان والأجبان، وصارت الخضار والسلطات بأنواعها من الأطباق الرئيسية لها وللعائلة. فاتنة من الخضريات اللواتي يعطيهن هذا النمط فرصة للتجريب وحرية الابتكار والتنويع، فبالإضافة للوصفات التقليدية، تسعى فاتنة لابتكار وصفات جديدة وتحاول تسجيلها، ففي لحظات تطوير الوصفة تعتمد على إحساسها بإضافة العناصر المتنوعة دون اتباع مرجع محدد. ترى فاتنة أن اتباع الخضرية الصرفة خلق بينها وبين متبعي هذا النمط حالة من التعاضد والود، حيث يتبادلون أنواع الوصفات على النت.
وبالنسبة لتناول الوجبات في الفضاء العام في منطقة الشرق الأوسط، يبين أغلب النباتيين سهولة إيجاد خيارات نباتية. ترى رين أبي راشد من لبنان، أن النباتية كنظام لم تمنعها من الاستمرار بالاستمتاع بالمطبخ اللبناني الذي يعتمد في جوهره على الخضار، وتتابع: "أعتقد أن المطاعم اللبنانية تقدم أطباقاً نباتية بشكل تلقائي، مثل التبولة والفاصولياء بالزيت والمقبلات بأنواعها والحمص". بينما كانت تجد أثناء دراستها في فرنسا صعوبة، لاحتواء أغلب الأطباق على منتجات الحليب والأجبان، أما في لبنان لا تدخل هذه المنتجات بشكل رئيسي ضمن الأطباق.
وتؤكد جوليا من سوريا والتي تتبع هذا النظام من 15 عاماً، أنها لم تجد صعوبة في إيجاد أطباق نباتية في المطاعم والكافتيريات في دمشق، حيث أن المنقوشة وأنواع المعجنات والفول والفتة، هي وجبات سريعة نباتية، وأن الفتوش والتبولة وأنواع السلطات هي نباتية بجوهرها، على عكس السلطات الأوربية التي يتم إدخال اللحوم ومنتجات الألبان فيها، مثل سلطة سيزر.
أصبح النظام النباتي بصبغته الشرقية موروثاً ينقله النباتيون لأبنائهم، ويحملونه معهم في تغريبتهم، ليرفدوا ثقافتهم والثقافات الأخرى بمزيج غني من التاريخ والنكهة الغنية باللذة والصحة
"صحّي وخضري"
"من التجارب المميزة هي لديما نصر الدين من سوريا والمقيمة في كندا، والتي أسست مجموعة على الإنترنت وقناة على اليوتيوب، لمشاركة وتقديم وصفات نباتية من التراث الشرقي.
تم تأسيس مجموعة "خضري وصحي وصديق للبيئة" منذ ثلاث سنوات، وتضم آلاف المتابعين/ات والعدد في ازدياد. جاءت هذه الفكرة من رغبة ديما بمشاركة الأفكار مع الأصدقاء والعائلة، ولكنها سرعان ما لاحظت إقبال الكثيرين ورغبتهم بتعميق معرفتهم بهذا النمط الغذائي.
يتشارك النباتيون العرب على الصفحة وصفات تقليدية بطرق نباتية، ما يميز المجموعة التبادل الثقافي بين المغرب والمشرق العربي، حيث تجد أحداً من تونس يسأل عن معنى "المجدرة" الشهيرة في بلاد الشام، وآخر من سوريا يستفسر عن طرق تحضير الكسكس النباتي، الذي يشتهر فيه المغرب الكبير.
تبيّن ديما، كأم لعائلة نباتية، كيف صار النظام الغذائي النباتي هو الموروث الذي يُربى أبناؤها عليه وكيف كوّن أطفالها علاقة عاطفية مع هذا النظام. أصبح النظام النباتي بصبغته الشرقية موروثاً ينقله النباتيون لأبنائهم، ويحملونه معهم في تغريبتهم، ليرفدوا ثقافتهم والثقافات الأخرى بمزيج غني من التاريخ والنكهة الغنية باللذة والصحة.
ارتكز هذا التقرير على عدد أكبر من المتحدثات النساء، رغم وجود حضور كبير للنباتيين من الرجال على مجموعات التواصل الاجتماعية النباتية، والتي ازدادت مؤخراً عبر منصات كالفيسبوك، لربما يعكس ذلك مدى الارتباط الجندري المستمر بين المطبخ والموروث وبين النساء، إلا أن هذه المسألة تحتاج إلى تقرير آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...