في ظل أزمة كورونا التي تلقي بثقلها على مفاصل الحياة كافة، بات الكثير منّا، وبحكم الإغلاق العام، يحاول استهلاك المعلبات والأطعمة التي اشتراها منذ فترة طويلة، وذلك بهدف فسح المجال أمام "تكديس" وترتيب منتجات جديدة، خوفاً من ارتفاع أسعارها أو فقدانها من الأسواق، بخاصة وأننا لا نعلم متى سنتمكن من قلب صفحة كورونا نهائياً والعودة إلى حياتنا الطبيعية.
ولحسن الحظ، في عصرنا الراهن، باتت المواد سريعة التلف تدوم لفترة أطول، بفضل الأساليب الحديثة في الحفظ، مثل التجميد، التعليب، الختم الفراغي والمواد الحافظة الكيميائية، إلا أن السؤال الذي يتبادر إلى أذهاننا: كيف كان الأجداد يحفظون طعامهم لمدة طويلة من دون ثلاجة ومواد حافظة وبطرق طبيعية؟
مشكلة الإنسانية
تعتبر مسألة حفظ الطعام واحدة من المشاكل التي واجهت المجتمعات منذ فجر الإنسانية، إذ كان يتعيّن على الأفراد أن يحفظوا طعامهم بعيداً عن الحشرات والميكروبات التي من شأنها إفساده.
وبالرغم من عدم وجود تكنولوجيا متطورة، إلا أن أسلافنا نجحوا في ابتكار مجموعة متنوعة من أساليب حفظ الطعام.
والواقع، إن عملية حفظ الأطعمة تعود إلى كل ثقافة وأمة في العالم منذ العصور القديمة، ويعتبر المصريون القدماء أول من اكتشف طريقة "التمليح"، أي استخدام الملح البحري الخشن لحفظ كافة أنواع اللحوم والأسماك، إذ إن الملح يمتص الرطوبة ويقتل البكتيريا.
تعتبر مسألة حفظ الطعام واحدة من المشاكل التي واجهت المجتمعات منذ فجر الإنسانية، إذ كان يتعيّن على الأفراد أن يحفظوا طعامهم بعيداً عن الحشرات والميكروبات التي من شأنها إفساده
وفي السياق نفسه، لجأ هؤلاء الى حفر حفرة في الأرض، ثم تبطينها بالخشب، أوراق الشجر أو القش، لتكوين نوع من الحاجز بين الطعام والتربة، وفي الكثير من الأحيان، كان يتم تخزين الأطعمة في حاويات مصنوعة من الجلود أو سلال من القصب أو في أوانٍ فخارية، وتوضع فيما بعد في الكهوف أو في الثقوب المحفورة في الأرض.
التخزين
على مر السنين، وجد علماء الآثار أدلة على وجود مجموعة من التقنيات والأساليب التي ساهمت في جعل الطعام صالحاً لأطول فترة ممكنة، واللافت أن بعض هذه الطرق المتبعة لحفظ الطعام لا تزال شائعة إلى يومنا هذا، مثل التجفيف والتخمير، في حين انقرضت أساليب أخرى مع تطور الزمن، كدفن الزبدة في المستنقعات.
ويمكن القول إن الطرق الأكثر شيوعاً تشمل: التجفيف، التمليح، التدخين، التخليل، التخمير والتبريد في المبردات الطبيعية، مثل الجداول والحفر تحت الأرض.
يعتبر المصريون القدماء أول من اكتشف طريقة "التمليح"، أي استخدام الملح البحري الخشن لحفظ كافة أنواع اللحوم والأسماك
فعلى سبيل المثال، كان الشعب السامي، وهم السكان الأصليون في الدول الإسكندنافية، يواظبون على صيد حيوان الرنة في الخريف والشتاء، فيحفظون اللحم عن طريق التجفيف أو التدخين، كما يتم تخمير الحليب إلى جبن في كتل صلبة قد تدوم لسنوات.
وبالتأكيد يمكن اعتبار جميع هذه الأساليب المختلفة بحفظ الطعام لفترات طويلة فعّالة، لكونها تعمل على إبطاء نمو الميكروبات، وفي هذا السياق يعتبر التجفيف من أفضل الوسائل المتبعة، إذ تحتاج الكائنات الحية الدقيقة إلى كمية معينة من الرطوبة لنقل العناصر الغذائية والنفايات الى داخل وخارج الخلايا، وبدون ماء تنكمش الميكروبات وتموت (أو على الأقل تصبح نائمة)، هذا ويمنع التجفيف أيضاً الأكسدة ونشاط الأنزيمات، أي التفاعلات الطبيعية لجزيئات الهواء والغذاء، والتي تسبب تغيرات في نكهة الطعام ولونه.
اكتشافات مذهلة تدلّ على استخدام القدماء للتدخين والتخمير
بهدف التعرف على تقنيات الحفظ التي من المرجح أن يكون قد استخدمها القدماء، قام علماء الآثار بفحص ممارسات المعيشة، وبدلاً من العثور على فتات طعام، مثل شريحة من لحم غزلان مجفف تعود إلى 14 ألف عام، اكتشف علماء الآثار، في الكثير من الحالات، العديد من الآثار التي تدلنا على طرق حفظ القدماء لطعامهم منذ آلاف السنين.
على سبيل المثال، في موقع سويدي يرجع تاريخه إلى ما بين 8600 إلى 9600 عام مضت، اكتشف الباحثون حفرة على شكل مزراب، مليئة بأكثر من 9000 من عظام الأسماك، كما ورد في دراسة نُشرت في العام 2016 فيJournal of Archaeological Science.
وفي مكان آخر في الموقع، ولكن خارج هذا المزراب، كانت بقايا الأسماك الأكثر شيوعاً، هي أسماك الفرخ وأسماك الكراكي الرمحي، أما داخل الحفرة فكانت غالبية العينات من سمك الروش، وهي سمكة صغيرة يصعب تناولها بدون نوع من المعالجة.
وقد أظهر حوالي خُمس فقرات عيّنات الروش آثار التلف الحمضي، وخلصت الدراسة إلى أن هذه الحفرة كانت تستخدم للتخمير، ما يجعلها أقدم دليل على الطعام المخمّر.
وبالمثل، في دراسة أجرتها مجلة علم الآثار الأنثروبولوجية لعام 2019، حلل علماء الآثار أكثر من 10 آلاف عظمة حيوانية، عُثر عليها في موقع في الأردن يعود إلى نحو 19 ألف عام.
واللافت أن حوالي 90% من العينات كانت من الغزلان، والتي تم العثور عليها إلى جانب حرائق المخيمات، وفتحات تتراوح ما بين 2 إلى 4 بوصات، والتي من المحتمل أنها كانت تحمل عارضات دعم لهيكل بسيط.
واستناداً إلى هذا الدليل والطريقة التي تم بها تحطيم عظام الغزلان وذبحها، يرى مؤلفو الدراسة، أن الثقوب كانت تحمل رفاً، حيث يتم تدخين اللحوم وتجفيفها.
بقايا قديمة قابلة للإستهلاك
قد لا تزال بعض البقايا القديمة قابلة للاستهلاك في يومنا هذا، أو على الأقل يمكن استخدامها لإعداد وجبة أو مشروب جديد.
ففي العام الماضي، قام باحثون من الجامعة العبرية في القدس بإحياء خلايا الخميرة التي عُثر عليها في الأواني الفخارية القديمة.
وبحسب شكلها، يُعتقد أن هذه الأواني كانت أباريق جعة، وقد جاءت من 4 مواقع أثرية تعود إلى فترات تتراوح ما بين 5000 و2000 عام.
وبعد "إيقاظ" الخمائر الخاملة وتحديد تسلسل جينومها الخاص، استخدم العلماء الفطريات لتحضير الجعة، وبحسب دراستهم المنشورة في مجلة mBio لعام 2019، اعتبر أعضاء منظمةBeer Judge Certification Program ، أن هذا المشروب صالح للشرب ومماثل في اللون والرائحة للجعة الإنجليزية.
بعض هذه الطرق المتبعة لحفظ الطعام لا تزال شائعة إلى يومنا هذا، مثل التجفيف والتخمير، في حين انقرضت أساليب أخرى مع تطور الزمن، كدفن الزبدة في المستنقعات
وفي السياق نفسه، تم العثور على حوالي 500 كعكة من الزبدة القديمة في مستنقعات أيرلندا وإسكتلندا.
واللافت أنه منذ العصر البرونزي على الأقل، أي قبل 5 آلاف عام تقريباً، حتى القرن الثامن عشر، قام الناس بدفن نوع من الزبدة الحامضة فائقة الدهنية في المستنقعات، ويتجادل الباحثون في السبب الكامن وراء دفن الزبدة، سواء كان ذلك في خدمة طقوسهم أو بغرض التخزين أو تطوير نكهتها.
وبغض النظر عن الدافع المنطقي لذلك، فقد نجح القدماء في تعطيل النمو الميكروبي والتحلل في المستنقعات، أي في الأراضي الرطبة الحمضية قليلة الأوكسجين.
وعليه استطاعت كتل الزبدة المنسية الصمود لآلاف السنوات، بعضها كان ضخماً للغاية، بما في ذلك قطعة عمرها 3000 عام، اكتُشفت في العام 2009، وأخرى تعود إلى 5000 عام، عُثر عليها في العام 2013.
هذا ويؤكد علماء الآثار أن زبدة المستنقعات صالحة للأكل من الناحية النظرية، لكنهم ينصحون بعدم استخدامها.
الجدير بالذكر أن طاهياً مشهوراً أخذ عينات من بقايا قديمة، واستضافه ستيفن كولبير، في برنامجه The Late Show.
لا شك أن الحشرات والتلف الناتج عن الرطوبة، الطقس، العفن أو الفطريات، تقلل من جودة الأطعمة المحفوظة، ما يعني أنه يجب أخذ هذه العوائق بعين الاعتبار عند التخطيط لتخزين الطعام في المستقبل، وبالتالي إذا نظرنا في كيفية تخزين الشعوب القديمة والحضارات المبكرة لطعامها، فربما بإمكاننا أن نلجأ أيضاً إلى التقنيات القديمة والأساليب التقليدية، وذلك لكي نكون مستعدين دوماً لأي أحداث مفاجئة، بخاصة وأن الأمم المتحدة حذرت مؤخراً من أن العالم قد يواجه مجاعات "مروعة" بسبب تفشي وباء فيروس كورونا، وعليه، فإن الأفضل في مثل هذه الظروف الصعبة الحفاظ قدر الإمكان على طعامنا لأيامنا السوداء...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.