في ركن الانتظار للمسافرين/ات على خطوط الحب جلستُ طويلاً، حتى ظنّ كثير من العابرين/ات أنني لم أتحرك من مكاني، لكني ركبت شتى القطارات ونزلت في محطات مختلفة، محطة الحب الأول، محطة الحب الخيالي، محطة الزواج، محطة العلاقة العابرة، وفي كل مرة أعود لأجد مكاني في زاوية المنتظرات والمنتظرين، ورغم تبديلي كل وسائل النقل إلا أنني، حتى عند الاستعانة بصاروخ، لم أصل إلى "فتى أحلامي"، لأقرّ بعدها أن مكانه الوحيد هو كما في اسمه: أحلامي.
بدأ الأمر يأخذ منحى أكثر جدية، مهما فعلت، أينما ذهبت، يظل الحب شغلي الشاغل، ويدور مثل أسطوانة قديمة في رأسي دون توقف. بدأت البحث، ربما أجد مفتاح الكنز المفقود، وعصرت ذاكرتي جيداً لأعود إلى معظم المحطات، لربما أرى في استعراضٍ بطيءٍ لشريط تجاربي مع الحب، ما يوصلني إلى مكان ما.
ألا يمكننا أن نكون ببساطة، مع إنسان نختاره لنتشارك معه طريقاً مفتوحاً، لا قفصاً مقفلاً يحجب الحب والأحلام؟
محطة الحب الأول
أول حب لي في صفوف الحضانة، كم أحببت ذلك الصبي، لم أعرف لماذا وكيف، لم تكن لدي أي رغبة جسدية ولا مادية، ولم أكن أتخيله حبيباً أبدياً، لكني أحببت مشاركته سندويشتي، تفاحتي، مقعدي واللعب معه في الفرصة، كنت أتلهف كل صباح لأراه من جديد، حب لم أعشه منذ سنوات المدرسة، خالٍ من أي حاجات أو غيرة، امتلاك أو تعلق، حب لأجل الحب: إن كان كان وإن لم يكن لا يترك فراغاً موجعاً، لم أبك حين جاءت العطلة الصيفية ولم أره مرة أخرى في حياتي، لكني ما زلت أذكره كحبي الأول الذي سقطت معه إحدى أشهر مقولات الحب وتلاشت، إذ كيف يمكن لـ"وما الحب إلا للحبيب الأول"، أن تكون حقيقة؟
محطة الحب الخيالي
"رأيت خياله في المنام"... أغاني وأفلام الحب، قصص وملاحم غرامية، وصور شباب فرقي الموسيقية المفضلة كانت تملأ حيطان غرفتي وقلبي، قلبٌ بدأ ينبض باختلاف مع نضج جسدي، ارتفاع سوية هرموناتي وظهور رغبة خفية تجاه الجنس، حاولت طبعاً إخفاءها بسبب القمع الأسري والمجتمعي وغيره، وأطلقت لها العنان في مخيلتي، هذا المزيج مما أسمعه وأشاهده عن الحب وبداية ظهور الرغبة لدي، كانت دوافعي الأولى للتشوق لملامسة جسدٍ آخر، ومعرفة إن كنت قد تحولت من طفلة إلى صبية جميلة، ومن سيتغزل بي إلا فتى أحلامي الذي بدأت شيئاً فشيئاً برسم صورته وتلوينها، رغم إعجابي بالكثير من الممثلين والمغنين وغيرهم من المشاهير، لم يكن لدي لون مفضل للبشرة أو العينين أو الشعر، غالباً ما تخيّلت أنني مغرمة دون صورة مفصّلة أو ملامح واضحة لوجه الحبيب، اعتقدت أني "متواضعة" في بحثي، فكل ما أريده هو أن أحب، وغلبَت قصة "لقاء فتى الأحلام" على أحلام اليقظة التي نسجتها عبر سنوات المراهقة، وتعددت القصص وتغيّرت معها صفات فتى أحلامي غالباً، بإضافة صفة جديدة قررت مع الوقت أن وجودها عامل مهم في شخصية من سأحب، دون الانتباه إلى تراكم هذه الصفات في نظري، والتي وحده من يستطيع أن يجمعها فعلاً هو من في خيالي، والأكثر، أن هذا الإنسان الوحيد والفريد الذي خلق لي، سأعرفه من النظرة الأولى، وسيقع في غرامي لحظتها، فهو ينتظر لقاءنا لنطير في سماء الحب ونحلق كالعصافير، أو نقرر العيش معاً في القفص، لكن الذهبي، وهنا بدأت أشعر برغبة الحب المستمر لشخص واحد يصعب لقاؤه، يبدأ بقبلة كنت عطشى لتجربتها ولا ينتهي، و بتصديق وجود شخص واحد فقط يكمّلني حتى الموت.
في ركن الانتظار للمسافرين/ات على خطوط الحب جلستُ طويلاً، حتى ظنّ كثير من العابرين/ات أنني لم أتحرك من مكاني، لكني ركبت شتى القطارات ونزلت في محطات مختلفة، محطة الحب الأول، محطة الحب الخيالي، محطة الزواج، محطة العلاقة العابرة، وفي كل مرة أعود لأجد مكاني في زاوية المنتظرات والمنتظرين
محطة الحب الزوجي
لم تغرِني يوماً معايير الأهل أو المجتمع للعريس المناسب: شاب محترم، ابن عائلة، لديه بيت وعمل جيد، لا يهمني النسب أو الدين أو اللون أو المال، ولم تكن أي من هذه الشروط سبباً لاختياري زوجي الذي أحببته، كما في مخيلتي في المراهقة، من "النظرة الأولى"، انجذاب غريب دفع علاقتنا، وبضغط اجتماعي، للدخول إلى القفص الزوجي، الذي لم يكن سوى بيت يجمعنا دون كلام الناس، لنعيش تجربتنا العاطفية حتى النهاية، بالتأكيد لما أكن أعلم أن لحبنا نهاية أصلاً، أو أنه يمكن أن ننفصل بعد وصال تحدينا فيه الكثير.
ولم أفهم لماذا يسمى هذا الرابط "المقدس" قفصاً، وليس طريقاً نسيره معاً دون أن نُحبس خلف قضبان حتى لو كانت ذهبية، مع مرور السنوات كبرنا وتغيرنا، حتى تغيرت معنا تطلعاتنا ومشاريعنا، ومع تبدل شخصياتنا ونضجها، شُقّ دربنا الواحد إلى اثنين وافترقنا، كانت لحظة إدراكي أن كل شيء يتغير باستمرار، وأن بقاء الحب نفسه واستمراره دون تغيير طوال الحياة، كما الوعد الذي أطلقناه كزوجين يوم الزفاف، هو أمر أقرب للاستحالة.
التعب من العثور والبحث، النجاح والفشل، متعة اللقاء وحرقة الفراق، وتكرار وتراكم الذكريات، كل هذا لم يدفعني للتوقف عن الإيمان بالحب، لكن الثغرات التي اكتشفتها في حياتي العاطفية حتى الآن هي ما غيّر مفهومي عن هذا الشعور القوي والهش في الوقت نفسه، الذي يتكلم عنه الجميع أكثر من مقدرتهم على تعريفه أو حتى عيشه
محطة العلاقة العابرة
عابرة لأنها تمر سريعاً، أولى الأسئلة التي يرددها والداي: "شو ما تعرفتي على حدا؟"، وانتهاء المكالمة الهاتفية بدعاء أمي: "الله يبعتلك ابن الحلال"، كما قصص من حولي عن العثور على الحب، ومعه حاجات جسدية وحسّية، هي مطبّات سهلة لتعثري ووقوعي مجدداً في فخ البحث عن "ابن الحلال" الموجود في مكان ما، وبالتأكيد يبحث "عني"، مرّات لم تكن لدي طاقة للخروج من المنزل ولكن أجبر نفسي، ودافعي ومحركي الوحيد أنه "لربما" ألتقي به، ثم أسمع من يقول عندما تتوقفين عن البحث تلتقين به، فأقرر الكف عن التفكير أو محاولة البحث، لأعود من جديد، كبرت وتغير شكلي ومفاهيمي ومعها صورة "فتى أحلامي"، هذا الشاب، الوسيم، العميق في فكره، الحنون في لمسته، ولكن القوي الخشن عند الحاجة، الحالم في خياله والمبدع في أعماله ولكن العملي الواقعي، صفات قد تبدو مثالية وعامة، لكنها أكثر تفصيلية في ذهني، فأفضل نمط ملابس وألوان وطول معين والعزف على آلة موسيقية، أو التمثيل مثلاً، وغيرها من التفاصيل التي جمّعتها عبر الوقت من مجموعة شبان التقيتهم أو شاهدتهم على التلفزيون في حياتي، لتتحول أي من هذه التفاصيل إلى سبب انجذابي لأي شاب، وأحاول فوراً مقارنته بالصورة التي في خيالي، أحياناً أحشر أحدهم في قالب لا يناسبه، وبعد فترة قصيرة اكتشف أنه لا " يناسبني"، وعند رؤيتي أو إحساسي بأي شي مختلف عن صورة الأحلام، أنفر ويتحول انجذابي إلى رغبة بالهرب، اكتشفت أنني أقوم بعملية حسابية لا علاقة لها بالمشاعر، فهمت أنني أنجذب في البداية غريزياً إلى الشكل أو الرائحة، بشكل واعٍ أو غير واع.
أولى الأسئلة التي يرددها والداي: "شو ما تعرفتي على حدا؟"، وانتهاء المكالمة الهاتفية بدعاء أمي: "الله يبعتلك ابن الحلال".
لكن مع انجذابي نحو العديد من الشباب من مختلف الأعمار والأشكال، أدركت أنه من الوهم تصديق عبارة "الحب الأوحد"، وأن ما يبدأ بقشعريرة جسد خفيفة يتحول إلى عملية ذهنية، وأبدأ بتسجيل كل تصرفات وردود أفعال هذا الشاب تحت قائمتَي: "ما يناسبني" و"ما لا يناسبني"، وكأن الحب مسابقة وأنا الجائزة الكبرى، وبما أني قمت بهذه العملية مراراً، بات من السهل إنهاء أي علاقة بمجرد القول: "نحنا ما بناسب بعض".
محطة الـ"لا انتظار"
التعب من العثور والبحث، النجاح والفشل، متعة اللقاء وحرقة الفراق، وتكرار وتراكم الذكريات، كل هذا لم يدفعني للتوقف عن الإيمان بالحب، لكن الثغرات التي اكتشفتها في حياتي العاطفية حتى الآن هي ما غيّر مفهومي عن هذا الشعور القوي والهش في الوقت نفسه، الذي يتكلم عنه الجميع أكثر من مقدرتهم على تعريفه أو حتى عيشه، أوهام صدقتها دون تفكير، كالحب الأول، الأوحد أو الأبدي، ووجود فتى الأحلام الذي قد تكون صفاته اجتماعاً لصفات خمسة أشخاص أو أكثر، فلا أفهم مثلاً، لم على الحبيب أن يكون الصديق المتفهم والبطل المنقذ، الحنون القوي، الحالم الواقعي، المغامر المستقر، العالِم الفنان؟ ألا يمكننا أن نكون ببساطة، مع إنسان نختاره لنتشارك معه طريقاً مفتوحاً، لا قفصاً مقفلاً يحجب الحب والأحلام؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...