أثارت قضية الحجر الصحي في المدن الجامعية المصرية سخط العائدين من الخارج، رغم ترحيبهم بادئ الأمر بهذه الإقامة المجانية، لكن رحلتهم المأساوية من مطار القاهرة لهذه المدن، طريقة تسكينهم، غياب الرعاية، تدنى مستوى الخدمة، والمتابعة الصحية، كل ذلك زاد من مخاوفهم بشأن إمكانية إصابتهم بفيروس كورونا، أو أمراض معدية أخرى.
وفرضت مصر على العائدين من الخارج شرطاً كتابياً بإخضاعهم للحجر الصحي على نفقتهم، لكن بعد إثارة القضية، أصدر الرئيس السيسي قراراً بتحمل صندوق "تحيا مصر" تكاليف إقامة العائدين من الخارج لمدة 14 يوماً، تماشياً مع توصيات منظمة الصحة العالمية، لكن الفجوة الكبيرة بين الإقامة المدفوعة في الفنادق، ما يقارب ألف دولار، والإقامة المجانية في المدن الجامعية، فجّرت أزمة في الشارع المصري لدى الخاضعين للحجر وأسرهم.
وتبارى إعلاميون مصريون معروفون بولائهم للنظام في الدفاع عن "الدولة" ضد شكاوى الخاضعين للحجر المجاني، فعلَّق الإعلامي عمرو أديب قائلاً: "دي ظروفنا، ودي بلدنا، واللي مش عاجبه ميجيش"، موضحاً أن الدولة بذلت قصارى جهدها لتوفير أماكن حجر صحي مجانية، رأفة بغير القادرين أو "مدعي عدم القدرة"، ومع ذلك كان رد الجميل من القادمين، حسب قوله، هو تسريب فيديوهات لـ"الإعلام المناهض للدولة المصرية"، متناسين الظرف الذي نعيشه، بدل أن يساهموا مادياً مع قطاعات الدولة لتجاوز هذه المحنة.
"صرف صحي مش حجر صحي"
وعن هذه الأزمة، يقول عونى نافع، صحفي (40 سنة)، يخضع للحجر الصحي في المدينة الجامعية التابعة لجامعة الأزهر شرق القاهرة: "لا أعرف إن كنّا هنا في حجر صحي أم في صرف صحي، فأماكن الحجر هنا بيئة حاضنة للفيروس، وتساعد على انتشارها أكثر من الأماكن الخارجية، لا يوجد وقاية طبية ومتابعة صحية، كما أن التجمعات هنا كبيرة للغاية، مصلى المدينة يجتمع فيه العشرات كل صلاة، ودورة المياه الواحدة يستخدمها أكثر من 300 فرد دون تعقيم".
"لا أعرف إن كنا هنا في حجر صحي أم في صرف صحي، فأماكن الحجر هنا بيئة حاضنة للفيروس، وتساعد على انتشارها أكثر من الأماكن الخارجية، لا يوجد وقاية طبية ومتابعة صحية، كما أن المصلى مزدحم، ودورات المياه بلا تعقيم"
ولم يتصور نافع أن يعيش تجربة سيئة كهذه، بعدما علق بالسعودية لفترة بعد أداء العمرة، بسبب إجراءات الطيران، وشروط الخضوع الإجباري للحجر الصحي، وحينما تساهلت الحكومة في توفير أماكن للحجر بالمدن الجامعية، وبعد عودته، لم يجد أبسط وأدنى إجراءات الوقاية في المطار، حيث تم عمل مسح عشوائي للعائدين لم يستغرق 10 ثوان لكل واحد من القادمين معه على متن نفس الطائرة، وبعدها تم اقتيادهم لأماكن العزل.
ويضيف نافع لرصيف22: "في المدينة نعامل كسجناء، كل شيء متدنٍ باستثناء وجبات الطعام الذي يمكن وصفها بالمتوسطة، لا يوجد مرور من فريق طبي للاطمئنان على النزلاء، أجزم أن من يدخل هذه الحجر سليماً يغادره مصاباً بكورونا".
"المصابون والأصحاء في مكان واحد"
يروي محمد عاطف، محاسب (33 سنة)، حكايته التي بدأت بعدما ظهرت عليه أعراض الإصابة، ذهب إلى مستشفى السلام الدولي، وبعد عمل التحليل اللازمة تم ثبوت إيجابية العينة، فغادرها متجهاً لمدينة حلوان الجامعية، وهناك أصيب بصدمة كبيرة، نتيجة فرق الإمكانيات، والرعاية بين المستشفى وبين المدينة، وبمجرد دخوله للسكن؛ فوجئ بعدم وجود رعاية بالغرف، وتدني مستوى النظافة، كما أن الرعاية الطبية تكاد تكون معدومة، ولا يمر طبيب على المصابين سوى مرة كل 72 ساعة.
وكشف عاطف في تصريحاته لرصيف22، أنه تعرض لارتفاع درجة حرارة، وتدهور في الحالة الصحية بعد دخوله المدينة بيومين، وطلب الطبيب للكشف عليه 3 مرات ولم يجد إجابة، ويقول: "المدينة في البداية كانت عزلاً صحياً للمصابين فقط، وبعد أيام قليلة تحولت إلى عزل وحجر صحي، للمصابين، الأصحاء والمشكوك في إصاباتهم، ولم تضع إدارة المدينة، أو وزارة الصحة، حداً للتباعد بين الفئات الثلاث، بمعنى أن فرص الإصابة أصبحت أكثر وأكبر".
ويضيف عاطف أنه "اضطر لاستخدام زجاجة مياه واحدة، لاستخداماته الشخصية لمدة 3 أيام، نظراً لعدم وجود أي مياه للشرب في المدينة، كما كانت التغذية في أول أسبوع عبارة عن سندوتشين فول وفلافل كإفطار، وثمرتين فاكهة كغذاء، قبل أن يتم السماح بوصول وجبات من أقاربنا لأمن المدينة، وتوصيلها إلينا عن طريق العمال".
وعندما طلب محمد عاطف وجبات طعام تناسب ظروفهم المرضية، وتسد جوعهم، فاجأهم مسؤول في المدينة، بأن الإدارة تعتمد على الإعانات وليس هناك ميزانية معتمدة لهم لسد مصاريف النزلاء حتى الآن، لكن هناك تحركات من الإدارة لدمجها ضمن المدن التي تحصل على أطعمة من الوزارة، بداية من الشهر المقبل.
"المسؤول كان عايز يضربنا"
أبدت سارة (37 سنة)، مدرسة بالتربية والتعليم من محافظة قنا، وتخضع للحجر الصحي بعد عودتها من السفر من إحدى الدول العربية، استياءها من مستوى الرعاية والخدمة والنظافة في مدينة معبر الجامعية في قنا، قائلة: "عايشين في غرفة مساحتها 2.5X2.5 بها أربعة أفراد، السراير مهلكعة، والمراتب والمخدات معفنة، والمدينة ممتلئة بالقطط في الغرف والممرات، بجانب الناموس والحشرات التي تسكن الغرف معنا".
وتضيف سارة لرصيف22: "الشقة هنا 3 غرف، كل غرفة فيها 4 أفراد، يعنى 12 فرد يقيمون في مساحة لا تتعدى 70 متراً، ودورة مياه غير آدمية، لا يوجد سخان كهرباء، ومستوى السباكة متهالك، وحديد التسليح ظاهر للعين نتيجة التعري على الجدران".
وتابعت سارة: "في أول يوم ذهبنا للمسؤول عن المدينة نشتكى له سوء النظافة، وانعدام الرعاية، كان عايز يضربنا، وقالنا بلاش تتبطروا على النعمة! مش كفاية أنكم راجعين من بره وعايزين البلد توكلكم وتشربكم ببلاش، وكمان بدأتوها بشكاوى، اللي غاوي ينقط بطاقيته ويسكن على حسابه، وهي دي الفنادق فاضية من السياح، روحوا ادفعوا 25 ألف جنيه، واقضوا فترة الحجر، يا إما تقعدوا هنا مسمعش صوتكم".
"بندفع للحكومة من 6 سنين"
ما يضايق رجاء، ربة منزل (40 سنة)، عائدة من الكويت، وتخضع للحجر الصحي في المدينة الجامعية في جامعة القاهرة، الصورة التي يتبناها الناس عنها، كعائدة من دولة خليجية، لا تريد أن تنفق على الحجر الصحي، وتحمل الحكومة تكاليفها، كما يروج الإعلام.
تقول رجاء: "أنا مش متضايقة من مستوى النظافة، لأني كنت من سكان المدينة الجامعية قبل 20 سنة، حينما كنت طالبة بكلية الآداب وأعرفها جيداً، لكننا في ظرف مختلف، غير مسموح لنا بالخروج وبالتالي نحتاج لخدمة أفضل".
وتضيف رجاء لرصيف22: "اللي مضايقني أكثر من الخدمة والرعاية والنظافة هي الناس اللي بتهاجمنا، وتقول راجعين من بره وعلى قلبنا فلوس قد كده، مش عايزين نقعد في الفنادق، وبنجري على أبو بلاش، عايزه أقولهم إن زوجي موظف بسيط، وأنا كنت في زيارة له ولا أعمل هناك، فمن أين أوفر 20 ألف جنيه تكاليف الإقامة، رغم أنه كما أبلغونا إقامتنا مجرد إجراء وقائي، ولست مصابة أو حتى مشتبه بها في الإصابة".
وتضيف رجاء: "الناس اللي هاجمتنا وميعرفوش حاجة عن ظروفنا، ياريت يشوفوا البلاد العربية المجاورة كيف عاملت رعاياها العائدين من الخارج، أو يشوفوا مستوى الإقامة هناك ومقارنتها بمصر".
"المباني تحت التطوير"
ويعلق محمد السقا، مسؤول في المدينة الجامعية، بني سويف، على شكاوى بعض النزلاء في عدد من المدن الجامعية، في تصريح لرصيف22، قائلاً: "لابد أن نفرق بين شقين في تناول هذه الأزمة، وهما السلوك البشري والإمكانيات المادية، لم أسمع شكوى عن سوء معاملة، والشكاوى كلها تتجه نحو مستوى الإقامة، وهو أمر متعلق بالبنية التحتية التي تسعى الدولة في السنوات الخمس الأخيرة للنهوض بها، ويجب أن نتفهم أن تطوير هذه المدن يحتاج خطة طويلة الأجل، وهناك مدن بالفعل تم تطويرها مثل المدينة الجامعية ببني سويف".
يتابع السقا: "المدينة الجامعية في محافظة بني سويف تشبه المنتزهات بعد التطوير، واستقبلنا 1205 نزلاء قبل منذ بداية الأزمة، وتم توفير كافة سبل الراحة لهم، لكن نعترف أن بعض المدن الجامعية مازالت تحت التطوير وتحتاج بعض الوقت، كما أن هذا الظرف يواجه تحديات على دول كبرى، بكل ما لها من إمكانيات اقتصادية ومادية وصحية، فلا نقسوا على بلدنا".
"بعض المدن الجامعية مازالت تحت التطوير وتحتاج بعض الوقت".
فيما وصف مسؤول بالمدينة الجامعية لجامعة القاهرة، رفض الكشف عن اسمه، النزلاء الذين سربوا صوراً وفيديوهات لتدنى مستوى الإقامة، بـ"الخونة والعملاء"، يقول عاكساً تفكير مسؤولين حكوميين: "يجب أن نعترف أننا شعب يعاني من سلوكيات سيئة، هذه المدن كانت تحفة معمارية ومن فعل بها هم أولادهم الطلاب، لا يمكن للدولة أن تقدم مبنى سكنياً غير آدمي للطلاب، لكن مسؤولية الحفاظ على هذه المنشآت تقع على عاتق المواطن، سواء كان طالباً أو نزيلاً أو مريضاً".
وتابع المسؤول لرصيف22: "هؤلاء النزلاء اللي تكلموا عن الإقامة كان كل طموحهم أن يعودوا لوطنهم، وحينما وفرت لهم الدولة طيران للعودة، بدأوا يسوقون الحجج والمبررات لإعفائهم من تكاليف الحجر الصحي، وحينما وفرت الدولة لهم أماكن إقامة مجانية دون أن يدفعوا مليماً واحداً، بدأوا يشتكون من سوء الإقامة وسوء التغذية وسوء الرعاية، فهل جزاء الإحسان الإساءة".
"6 مليون عائد من الخارج"
ويقرّ الدكتور أيمن إمام، مدير الحجر الصحي في مصر، في تصريح لرصيف22 إلى أن الحكومة لجأت إلى تسكين العائدين في المدن الجامعية مجاناً، رغم تدنى مستوى بعضها، وذلك لـ"استيعاب العدد الكبير من المصريين العائدين من الخارج، وخاصة من الدول العربية".
"في أول يوم ذهبنا للمسؤول عن المدينة نشتكى له سوء النظافة، وانعدام الرعاية، كان عايز يضربنا، وقالنا بلاش تتبطروا على النعمة! مش كفاية أنكم راجعين من بره وعايزين البلد توكلكم وتشربكم ببلاش"
ويضيف إمام أن مطارات وموانئ مصر استقبلت أكثر من 3 مليون عائد في شهر مارس الماضي فقط، واستقبلت ما يفوق هذا العدد خلال شهري أبريل ومايو، وجميع العائدين لابد من إخضاعهم للحجر الصحي، وهذه الأعداد تفوق قدرة وزارة الصحة على استيعابها، فتم تحويل بعض المدن الجامعية لمستشفيات حجر صحي لاستيعاب ملايين العائدين، وكان هذا هو الحل الوحيد والأمن لجميع العائدين.
وترفض رجاء مثل هذه المبررات التي يسوقها مسؤولو الحكومة، تقول، منهية حديثها لرصيف22: "محدش يقول كل بلد ولها ظروفها، لأنه منذ 6 سنوات وكل حاجة في البلد بقت على حسابنا، ندفع للمستشفيات الحكومية عشان تجيب أجهزة، ندفع عشان نشترى سراير للعيانين، وندفع عشان تتبنى قصور رئاسية، وندفع الأكل والشرب بالغالي عشان نعيش، كمان عايزين تدفّعونا إقامة أنتم اللي فرضتموها وكأنها سبوبة ليكم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...