لطالما كانت الجزائر تفتخر في المحافل الدولية بعقيدة جيشها التي تمنع التدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى، لكنها الآن تتجه نحو إجراء تغيير دستوري يسمح لقواتها بالقيام بمهام عسكرية خارج الحدود.
فقد تضمنت مسودة التعديل الدستوري التي طرحتها رئاسة الجمهورية الجزائرية للنقاش مؤخراً، إجراء تعديل جوهري يمسّ بعض ما كان يُعتبر "ثوابت العقيدة العسكرية".
ونصت المادة 31 من المشروع على أنه "يمكن للجزائر في إطار الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية، وفي ظل الامتثال التام لمبادئها وأهدافها، أن تشارك في عمليات حفظ واستعادة السلام".
كما نصت المادة 91 منه على أن رئيس الجمهورية الذي يتولى مسؤولية الدفاع الوطني "يقرر إرسال وحدات من الجيش إلى الخارج بعد مصادقة البرلمان بأغلبية الثلثين من أعضائه".
أثارت هذه التغييرات المقترحة مخاوف ناشطين جزائريين من جر البلاد إلى صراعات عسكرية، أو التورط في الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا.
وتُبنى عقيدة الجيش الجزائري منذ الاستقلال عام 1962 على أن مهمة الجيش هي الدفاع عن حدود البلاد، وعدم إرسال أي قوات للقتال في الخارج، إلا أنه تم الخروج عن هذه القاعدة مرتين لدعم الجيش المصري في حرب عام 1967 وحرب تحرير سيناء عام 1973.
الفكرة ليست جديدة
لم تكن فكرة إجراء تعديل في عقيدة الجيش أمراً وليد الثورة أو الرئيس الجديد عبد المجيد تبون. فعام 2018، طرح الفريق الراحل أحمد قايد صالح، رئيس أركان الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع حينذاك، فكرة "تحيينها"، وقال بالعام إن تشريعات العقيدة العسكرية "تتم مراجعتها وتحيينها كلما تطلب الأمر ذلك لتتكيف مع متغيرات المعطيات الجيوسياسية وهي بذلك تمثل أسس سياسة الدفاع الوطني ومرتكزاً رئيسياً لصياغة الاستراتيجية العسكرية"، ما يشير إلى أن المؤسسة العسكرية الجزائرية تدعم هذا التغيير.
وفي 26 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أي بعد أسبوع من توليه منصبه، ترأس تبون اجتماعاً للمجلس الأعلى للأمن، وأصدرت رئاسة الجمهورية عقبه بياناً جاء فيه أن المجلس "درس الأوضاع في المنطقة وبوجه الخصوص على الحدود الجزائرية مع ليبيا ومالي"، و"قرر في هذا الإطار جملة من التدابير يتعيّن اتخاذها لحماية حدودنا وإقليمنا الوطنيين وكذا إعادة تفعيل وتنشيط دور الجزائر على الصعيد الدولي، خاصة في ما يتعلق بهذين الملفين، وبصفة عامة في منطقة الساحل والصحراء وفي إفريقيا".
واعتبر البعض أن انعقاد المجلس الأعلى للأمن، بعد سنوات من تجميد عمله بسبب مرض الرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، يُعَدّ إشارة واضحة على نية القيادة الجديدة لعب أدوار أكبر في القضايا الإقليمية وخصوصاً في ليبيا ومالي.
قانونياً، لا يوجد أي نص دستوري أو قانوني يمنع الجيش الجزائري من تجاوز الحدود، بل بالعكس، فالجزائر هي جزء من معاهدة الدفاع العربي المشترك التي تتحدث عن إرسال قوات عسكرية إلى الخارج بحال تعرّض بلد عربي للتهديد، وتربطها بتونس معاهدة تنص على مساعدتها عسكرياً بحال تعرضت لتهديد خارجي.
ولكن لطالما رفضت الجزائر إرسال قوات تمارس مهمات عسكرية خارج حدودها. فقد رفضت منذ عام 2012 المشاركة مع القوات الفرنسية في الحرب على الإرهاب في مالي والنيجر.
وفي السادس من كانون الأول/ ديسمبر 2017، اجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس الأركان الجزائري قايد صالح لحث المؤسسة العسكرية على المشاركة في تحالف محاربة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء، لكنه لم يحصل إلا على وعود بالتعاون الاستخباراتي دون نقل أيّ جندي جزائري لمحاربة مقاتلي الجماعات المتشددة هنالك.
وقبل نحو عام من ذلك، دعت السعودية الجزائر للمشاركة في القوة العربية المشتركة في اليمن، إلا أن الأخيرة رفضت وقال وزير خارجيتها السابق رمطان لعمامرة إن بلاده "لا ترى جدوى من المشاركة في أي قوة عسكرية عربية الآن، وعلينا قبل هذا حل الخلافات العربية العربية وتحقيق الإجماع".
وعام 2015، اقترحت مصر إنشاء قوة عربية مشتركة إلا أن هذه الفكرة اصطدمت بالعقيدة الجزائرية التي ترفض السماح بإرسال جنود إلى الخارج.
السادات رسّخ عقيدة الجيش الجزائري
يرى محللون جزائريون أن عقيدة الجزائر القاضية بعدم التدخل في الخارج ترسخت لدى العسكريين الكبار في الجيش الجزائري منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، أي بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، عام 1978.
يقول أستاذ القانون الدستوري في جامعة "وهران" بوبكر زردي: "اعتقَدَ الرئيس الراحل هواري بومدين أن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، استغل العرب من أجل تحقيق مشروع سياسي تم تحديده بدقة قبل مدة من حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وهو السلام مع إسرائيل".
رَسَت عقيدة الجيش الجزائري على عدم المشاركة في عمليات عسكرية في الخارج، وكان ذلك نتيجة لمعاهدة كامب ديفيد إذ اعتقَدَ الرئيس هواري بومدين أن أنور السادات استغل العرب... ولكن الآن، يطرح مشروع تعديل الدستور تغيير هذه العقيدة
ويضيف: "لهذا السبب قرر بومدين تغيير عقيدة الجيش الجزائري القتالية، وعقيدة البلاد الدفاعية، التي باتت قائمة اليوم على مبدأ عدم إرسال قوات جزائرية إلى خارج الحدود مهما كانت الظروف".
التعديلات ضرورية
يرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر توفيق بوقاعدة أن يد الجزائر كانت مغلولة في الدفاع عن أمنها ومصالحها، في ظل ما يحدث في جوارها الإقليمي وخاصة في ليبيا ومالي.
وبرأيه، فإن تقييم هذا الأمر هو الذي يدفع نحو انتهاج عقيدة عسكرية جديدة والتخلي عن العقيدة المرتبطة بعدم التدخل العسكري الخارجي.
وأضاف الكاتب والمحلل الجزائري لرصيف22: "حينما تم اختطاف الدبلوماسيين الجزائريين في مالي، عام 2012، استنفذت الدولة كل خياراتها السلمية دون أن تتمكن من إنقاذ أرواح أبنائها، وكان يمكن لعملية عسكرية للكوماندوس داخل مالي أن تحقق نتائج أكثر مما تحقق حتماً".
وفي نيسان/ أبريل 2012، اقتحمت جماعة مسلحة تابعة لفصيل "المرابطون"، وهو تنظيم إرهابي محسوب على "القاعدة"، القنصلية الجزائرية الواقعة في مدينة غاو، شمال مالي، أثناء تمرد اندلع هنالك، واختطفت سبعة دبلوماسيين جزائريين، لكن الجزائر رفضت التدخل العسكري لإنقاذهم ولجأت إلى خيار التفاوض السرّي.
وبعد أقل من عام، وبالتحديد في كانون الثاني/ يناير 2013، تسللت جماعة إرهابية من شمال مالي إلى ليبيا، ومنها إلى جنوب شرق الجزائر، واحتلت مصنعاً للغاز في منطقة "عين أمناس"، واحتجزت مئات الرهائن داخله قبل قتل 38 أجنبياً منهم. وكذلك الأمر، رفضت السلطات التدخل عسكرياً في مالي واكتفت بتشديد إجراءات الحماية على الحدود.
ويقول بوقاعدة: "تواصلت سلسلة التهديدات الأمنية الآتية من الجوار وخاصة من ليبيا، وتلقينا تهديدات من طرف جماعات متطرفة أخرى وجماعات تحرّكها أطراف دولية لا تتقاطع مصالحها مع مصلحة الجزائر".
"يد الجزائر كانت مغلولة في الدفاع عن أمنها ومصالحها، في ظل ما يحدث في جوارها الإقليمي وخاصة في ليبيا ومالي"، بسبب عقيدة الجيش الرافضة للتدخل العسكري الخارجي... مشروع تعديل الدستور الجزائري يقترح السماح للرئيس بإرسال قوات إلى الخارج
ويضيف أن هذه التحديات ترافقت مع وجود دول فاشلة تنتشر فيها الفوضى في المحيط الجغرافي للجزائر، و"هذا ما دفع إلى الإسراع في إعادة النظر في مبدأ عدم التدخل العسكري خارج الحدود".
ولفت المحلل الجزائري إلى أن التهديدات الأمنية الجديدة التي لم تعد تنحصر داخل الحدود، حتّمت على العسكريين ضرورة التعامل مع الواقع الجديد. ومن هنا، عمل معدّو الدستور على تعديل المادة 95 (توازيها المادة 91 من مشروع التعديل) "لتوظيف كل الإمكانيات المتاحة لتحقيق الأمن الوطني في المجال الحيوي، والتعامل مع الواقع الجديد على الحدود".
من جانبه، رأى الباحث والمحلل السياسي مالك بلقاسم أنه من الضروري القيام بهذا التغيير في الظرف الراهن، و"غير معقول أن تستمر بنود صيغت خلال حرب التحرير (ضد الاستعمار الفرنسي) وخلال مرحلة حركة عدم الانحياز التي ترفض التدخل في شؤون الآخرين".
وقال بلقاسم لرصيف22: "لا بد للجزائر أن تتكيف كدولة مستقلة مع التحديات التي تواجهنا سنة 2020، وبتقديري الأزمة الليبية كانت السبب الرئيسي في التوجه لتغيير عقيدة الجيش والسماح له بالتدخل خارجياً لأن الأمن القومي للجزائر كان مستهدفاً في العمق ولا يزال إلى اللحظة".
وتابع بلقاسم: "التحديات الإقليمية تفرض علينا التأقلم معها، ومن دون شك أن الجزائر لا تسعى إلى الحروب أو التهجم على الدول لكنها تريد قطع الطريق حول مَن يسعى إلى تأجيج الصراعات في المنطقة".
ورأى الكاتب والإعلامي الجزائري حفصي أحمد في تغريدة أن هذه "الخطوة تتماشى والمتغيرات الحاصلة وتفتح المجال للجزائر بأن تكون حلقة أساسية في صناعة القرار إقليمياً ودولياً".
جر الجزائر إلى صراعات؟
برأى توفيق بوقاعدة، "ستثير صياغة المادة الدستورية، بشكلها الحالي، الكثير من الجدل لدى أنصار العقيدة الحالية، إذ سيرون أن التعديل يتنافى مع المبدأ الذي كرّسته الدبلوماسية الجزائرية وتُرافِع من أجله في مختلف المحافل الدولية وهو مبدأ عدم التدخل في شؤون الغير".
وبرأيه، فإن النقطة الثانية المثيرة للجدل هي عدم تحديد أين يمكن التدخل، فالمادة المقترّحة أعطت سلطة التقدير لرئيس الجمهورية مع استشارة البرلمان، متسائلاً: "هل نفهم أن التدخل يمكن أن يكون في المنطقة العربية أو المغاربية أو الساحل الإفريقي أو كل إفريقيا؟".
وأضاف: "أرى أن على مناقشي مسودة الدستور إعطاء الأولوية لتحديد طبيعة التهديدات التي تستوجب التدخل والموقع الجغرافي لذلك، وتحديد أشكال التدخل، حتى لا تصبح المادة مبرراً لتحويل الجيش لخدمة أجندة أطراف دولية دون احتساب تداعياتها المستقبلية على خارطة المصالح الاقتصادية والوطنية للبلاد".
وحول المخاوف من أن يكون هذا التعديل باباً لصراع عسكري مع المغرب في قضية الصحراء الغربية ودعم جبهة "البوليساريو"، قال بلقاسم إن الأزمة المغربية سياسية ولا يمكن التوجه للخيار العسكري لأن هناك رابطاً قوياً بين الشعبين وهذا التعديل هدفه التعامل مع التهديدات العسكرية في المنطقة والتي من شأنها ضرب استقرار دول الساحل أما المغرب فبعيد عن هذه الفرضية.
وبتقدير بلقاسم، هذا التعديل لن يجرّ الجزائر للدخول في أحلاف أو إغراءات اقتصادية و"قد أثبتت هذا في عدة أزمات سابقة كانت معظم الدول العربية طرفاً في الصراع فيها باستثناء الجزائر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...