هل بوسع الموسيقا، حقّاً، أن تحرّك نفس المشاعر عند الأفراد وأن تصل إلى أحاسيس كافّة الناس، بمعزلٍ عن إرثهم الثقافي الخاص أو لغاتهم؟ هل بوسع أغانٍ شديدة الالتصاق بجذورها المحليّة، وبتقاليد شديدة الخصوصية والقِدَم، أن تخاطب جمهوراً معاصراً شكّلت وتشكّل العولمة الثقافيّة وعيه وذائقته؟ هل ما زال هناك مكان لغناءٍ ملتزمٍ بقضايا إنسانيّةٍ نبيلةٍ وقيمٍ ساميةٍ جامعة، في فضاءٍ تهيمن عليه النتاجات ذات الطابع التجاري، الترفيهي؟
يبدو أن الفنانة "ديما أورشو" قد اختارت الإجابة بـ "نعم" على كافّة هذه الأسئلة، كما يمكننا أن نستكشف في مشروع ألبوم "هدوة"، آخر نتاجاتها الفنيّة. لقد كان ذلك انحيازها الواعي وتحديها الرئيس، منذ البدء، فقد اختارت "ديما" أن تتصدّى لهذا النوع من القضايا والقيم في كافّة الأعمال التي ألّفتها، أو غنّتها، أو شاركت بأية صورةٍ من الصور فيها، عبر أكثر من عشرين عاماً من مسيرةٍ فنيّةٍ غنيةٍ وملأى بالإنجاز.
"هدوة": هدهدات للروح الجزعة الخائفة
من وحي محاولة تقديم التراث بقالبٍ عصريٍّ وعابرٍ لحدود اللغة واختلاف الثقافات، وتأريخاً لتراثٍ ثريٍّ وزاخرٍ بالمشاعر والقيم، ومساهمةً في تقديم فسحةٍ من الجمال والرقي من منطقةٍ باتت تُعرف بأنها بؤرة للصراعات والدم والحروب فحسب، أتى اختيار ديما لمشروع "هدوة"، والـ "هدوات" هي أغاني التهليل التي تغنّيها الأمهات، كما تسمّى باللهجة المحليّة لمنطقة دير الزور، في شمال شرق سوريا، وقد كان اختيارها موفّقاً من حيث كونه بالغ التأثير وبديهيّاً في نفس الوقت، فهذه الـ"هدوات" واحدة من الأساليب التي تنقل العواطف الأقرب والأكثر بديهيّةً إلينا جميعاً: الحبّ الأمومي، والرعاية، والحماية. إنها تهويدات تمّ استخلاصها من نبعٍ تاريخيٍ عميقٍ وطافحٍ بذاكرة الأحزان الناجمة عن العديد من الأخطار غير المتوقّعة، ومن المخاوف الكامنة في كلّ منعطف: مخاوف الحقيقة المُفجعة للحروب والنزاعات الأهليّة، والتي بدورها ولّدت حالةً من عدم اليقين والقلق، ظلّت تمتزج باستسلام كلّ من الأفراد والمجتمعات لشعورٍ طاغٍ بالعجز عن وقف الأخطار الداهمة.
لقد كانت "الهدوة" في ظلّ هذا الواقع، تمثّل خط الدفاع الأخير، والسلاح الوحيد المتبقّي للأمهات لحماية أطفالهن من شرور العالم وتقلّبات الأيام والظروف. لقد كنّ يغنينها من القلب، لعلّها تهدّئ من روع قلوب الأطفال المرتجفة خوفاً، وتزرع فيها بعضاً من الاطمئنان والسكينة، لكنها كانت كذلك تمثّل، بالقدر ذاته، هدهدةً لتهدّئ بها الأمهات مخاوفهن الوجوديّة الخاصّة بهنّ أيضاً، محاولةً حزينةً ونبيلةً لتطهير الروح المتعبة والمنكسرة، عبر الموسيقا.
على أن جميع هذه القطع تحمل كذلك بصمة ديما أورشو الخاصّة: ليس من خلال أدائها الصوتي الفريد وحسب، وإنما كذلك من خلال خياراتها الخاصّة كملحّنةٍ وموزّعٍة موسيقيّة، فديما تقوم بمقاربة التراث باحترامٍ، وتهتمّ بتسليط الضوء على الطابع الأصيل للقطع الموسيقّية، في نفس الوقت الذي تقوم بتقديمها في قالبٍ موسيقيٍ عصريّ، جذّاب، وعالمي.
أغانٍ محليّة بنكهةٍ عالميّة
وتقول ديما بإن "التدريب الكلاسيكي منحني المقدرة على التعامل مع قوالب موسيقيّةٍ متعدّدةٍ، وعلى المزج ما بين تقنياتٍ وآلاتٍ وأنماط موسيقيّةٍ متنوّعة، بأسلوبٍ منهجي ويحترم أصول وقواعد الموسيقا". كما كان لذائقتها الموسيقيّة الخاصّة دورٌ في التوجّه نحو هذا المشروع الأخير، فهي ابنة الشرق وموسيقاه وثقافته التي شكّلت وعيها وأحاسيسها وحساسيّتها الفنيّة، لتردف متحدّثةً عن التحدّي الذي اختارته لمشروعها "هدوة": "لذلك، فقد وقع اختياري على عملٍ أتمكّن فيه من التعبير عما يجول في روحي وعقلي، على صعيد التأليف أو الإعداد الموسيقي من جهة، كما على صعيدي الأداء والغناء، من جهةٍ أخرى".
وتنبع "الهدوات" في هذا الألبوم من ذلك التمازج الفريد للعديد من التقاليد الموسيقيّة، التي تشكّل بمجموعها جملة التقاليد الثقافيّة لكلٍّ من سوريا وبلاد ما بين النهرين، بعض هذه "الهدوات" هي مؤلّفات أصليّة لـديما أورشو، صيغت على أساس هذه التقاليد التي تعرفها ديما عن قربٍ وتتفاعل معها بعمقٍ غريزي. فمثلاً تعتمد هدوة "يا دايم" على تهليلٍ تقليدي من تراث منطقة حوران في جنوب سوريا، أما هدوة "حمودة" فهي من تراث منطقة الساحل السوري، أما الهدوة المسمّاة "هدوة" فهي من تأليف ديما أورشو متأثّرةً بتراث منطقة دير الزور الفولكلوري، وهدوة "نيني" هي تهليل دمشقي من القرن التاسع عشر، وأخيراً فإن قطعة "رحلة إلى الغوطة" هي مؤلّف جديد بالكامل، وعن هدوة "نوم حبيب" فهي قطعة من تأليف غابرييل أسعد ومستوحاة من التقاليد الآراميّة، بينما هدوة "لاي-لاي" هي تهليل من التراث الأذربيجاني القديم، وهدوة "نانا" هي تنويع على قطعةٍ من تأليف مانويل دي فالا بنفس العنوان، واردةٍ في عمله Siete Canciones Populares Españolas (سبع أغانٍ شعبيّةٍ إسبانيّة).
في حين أن قطعة "الدوار الثالث" هي عمل حديث من تأليف مانفريد لويشتر، قام بتأليفه علّه يحاول تهدئة مخاوفه الوجوديّة إثر حادثة الإعدام الرهيبة حرقاً، للطيار الأردني عام 2015، على يد تنظيم داعش. وما يضفي المزيد من التميّز والفرادة إلى هذه المجموعة هو أن هذه "الهدوات" مغنّاة بعدّة لغات: الآراميّة، إضافةً إلى مجموعةٍ من اللهجات المتنوّعة من كافّة المناطق السوريّة المختلفة، والإسبانيّة، والأذريّة، بالإضافة إلى قطعتين صوتيتين.
تقدم ديما أورشو قطعة حبّ من كل الأمهات: "هدوات" مغنّاة بعدّة بالغة، الآراميّة، والعربية والإسبانية والأذريّة
من حوران ومن منطقة الساحل السوري ومن دير الزور ومن دمشق: "موسيقا لكل من يملك آذاناً وقلباً"
"موسيقا لكل من يملك آذاناً وقلباً"
لم تضطرّ ديما أورشو للانتظار طويلاً لتجد جهةً منتجةً لهذا العمل الموسيقي الفنّي المتميّز، فقد صرّح المنتج الألماني مايكل دراير بأنه لم يتردّد ولو لحظةً في الموافقة على إنتاج هذا الألبوم، حيث كان "حلماً لدي العمل على إنتاجٍ فنّيٍ يكون صوتها الساحر هو قلبه" فهو يري في ديما "المغنّية الأبرز باللغة العربيّة" في رأيه، وعدا عن كونها موسيقيّةً على قدرٍ من التميّز والخصوصية، فهي مغنّية تمتلك "ببساطةٍ إمكاناتٍ لا حصر لها: عمق ودفء الإحساس وصدقه، والبراعة في الأداء، كلّ ما يمكن أن نحلم أن تمتلكه مغنية" وثمّة تاريخ من التعاون الموسيقي بين دراير وديما أورشو يقارب العشر سنوات، فقد تعاونا في مشاريع عديدةٍ، منها فرقة "حوار"، كما وفرقة Morgenland All Star Band، وأوركسترا Morgenland Chamber. وحينما جاءت ديما إليه بفكرة الألبوم والأغنيات، اندفع للعمل والتعاون معها بحماسٍ،
وهو يصف أغنيات الألبوم بأنها "في غاية النبل وإثارة المشاعر" وأنها "موسيقا تخاطب ببساطةٍ كل من لديه آذان وقلب"، كما لم تضطرّ ديما للبحث طويلاً عن موسيقيين تتعاون معهم في إنتاج هذه المجموعة من الأغنيات، فقد استطاعت أن تجمع حشداً من الموسيقيين العالميين ليتعاونوا معها في أداء أغاني هذا الألبوم: عازف الكمان والمؤلف التونسي جاسر حاج يوسف، عازف البيانو والمؤلف الأذربيجاني سلمان غامباروف، عازف الكونترباص الألماني روبرت لاندفرمان، عازف الإيقاع البولوني-الألماني المتميّز بودك يانكة، بالإضافة إلى عازف الأكورديون و المؤلف الألماني مانفريد لويشتر، وقد تمّ تسجيل الألبوم في ستوديوهات Fattoria Musica. الجدير ذكره أن العمل لم يحتج وقتاً طويلاً لكي يتمّ إنجازه، فبحسب دراير، كانت ديما قد وضعت برنامجاً موسيقياً لحفلٍ في قاعة "بيير بوليز" في برلين، وقد كان الخيار الوحيد هو القيام بأعمال التسجيل في اليوم التالي للحفل، ألا وهو ليلة رأس السنة الجديدة 2018، ويقول دراير في ذلك: إن تلك كانت "أفضل وأجمل بدايةٍ للعام الجديد"
"هدوة": بيان موسيقي وثقافي لهذا العصر
لعلّنا جميعاً قد نستفيد من تهليلةٍ مهدّئةٍ للأعصاب، ومن "هدوةٍ" يغنّيها صوت ملائكي مثل أمٍ محبّةٍ رؤوم، تحاول أن تهدّئ من روع أفكارنا الخائفة وتُطمئن أرواحنا المضطربة.
تقول ديما بإن مشروع "هدوة" نَبَع من "إيمانٍ راسخٍ بأن أعلى أشكال الفنون هي تلك التي تتمكّن من مخاطبتنا جميعاً، والتي تتمكّن من أن تتجاوز الحدود، الطبيعية منها أو المصطنعة، وتعيننا على إدراك تلك الروابط التي تربطنا ببعضنا البعض". تلك الفنون التي تتسّم بنفس القدر بعالمية النداء والانتشار، بقدر بقائها متجذّرةً في لغتها الثقافيّة الخاصّة بها، بلهجاتها الخاصّة، وبشِعرها وشاعريتها الخاصّتين. وتدرك ديما مدى صعوبة خلق هذا النمط من الفنّ، فهو "يتطلّب من البراعة والمقدرة بقدر ما يتطلّب الحسِّ العالي والحساسية" كما تقول.
وبحسب ما تصف ديما، فإن ألبوم ومشروع "هدوة" ليس أقل من "بيانٍ موسيقيٍ وثقافيٍ يأتي في لحظةٍ ثقافيّةٍ وشعوريّةٍ ملائمةٍ تماماً لعصرنا وزماننا الحاضر الذي نعيشه الآن، فزماننا نحن أيضاً، كما كان زمان السابقين علينا، هو كذلك زمان عصيب، فنحن نشهد كل يومٍ نموّ المخاوف القديمة وانفجار الكراهية والعنف، ونشهد كيف ينهش الذعرُ من انعدام اليقين، حياةَ العديد من الأبرياء في جميع أنحاء عالمٍ يتغيّر بسرعةٍ واضطراب".
لعلّنا جميعاً قد نستفيد من تهليلةٍ مهدّئةٍ للأعصاب، ومن "هدوةٍ" يغنّيها صوت ملائكي مثل أمٍ محبّةٍ رؤوم، تحاول أن تهدّئ من روع أفكارنا الخائفة وتُطمئن أرواحنا المضطربة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع