في السابع من تموز/ يوليو 1928، سجلت ميّ زيادة زيارتها لضريح ابن الفارض، في مقال نُشر في جريدة الأهرام المصرية، بلغةٍ سرت كهرباءُ ابن الفارض فيها، وبدت مفتونة به فتنة جعلتها تصف سلطان العاشقين بالفريد، ليس بين شعراء العرب فحسب، بل بين شعراء الغرب كذلك، فقد أغمض عينيه عن جميع شؤون العالم ليحدّق في لب الحياة، وأعرض عن أغراض الدنيا وهوس المطامع، ليخلق من شعره صيحة واحدة، من الحب للحب، وهي كل الحب، فهو القائل:
إذا لاحَ معنى الحُسنِ في أيّ صورَة/ وناحَ مُعنّى الحُزنِ في أيّ سُورَةِ
يُشاهِدُها فِكري بِطَرفِ تَخيّلي/ ويسمعُها ذكرى بمسمَعِ فِطنتي
ويُحضرها للنَّفسِ وهمي تصوُّراً/ فيحسَبُها في الحِسّ فَهمي، نديمتي
فأعجبُ من سُكري بغيرِ مُدامة/ وأطربُ في سرِّي ومني طربتي
فيرقصُ قلبي وارتعاشُ مفاصلي/ يصفِّقُ كالشَّادي وروحيَ قينتي
كلّ شيءٍ في الوجودِ يمثّل صورة الحبيب
شهد ابن الفارض لنفسه بالسلطنة الوجدانية في مواضع كثيرة من شعره، فجعل نفسه إمام العاشقين ومحبوبه إمام الملاح، فهل كان حامل لواء الشعر الصوفي ورائده العربي؟ أم أنه مدين بخلود شعره لنزعته الصوفية، ولولا التصوف لانطمس ذكره وانصرف الناس عن الاهتمام به، كما تساءل زكي مبارك في بحثه الذي أنجزه عام 1934؟ هل وجهّت دراسة زكي مبارك أنظار القراء لدراسة أشعار ابن الفارض كما تمنّى؟
لماذا نالت دراسة محمّد مصطفى حلمي عن "ابن الفارض والحب الإلهي" ذيوعاً وشهرة رغم صدورها عام 1940؟ هل لأنها مكتوبة فوق روحها العلمية، بذوق المؤمن وأدب المتصوف، ويلمس فيها القارئ نفحات روحية صادقة استمدها المؤلف من روحية شاعرنا الصوفي، كما يصفها محمد خفاجي، الأديب الصوفي عام 1950؟ أو كما يقدّرها أبو الوفا التفتازاني، حسب إعلانه عن سبب إقباله على دراسة التصوف، قائلاً: "وقد حبّبني هذا الكتاب وأنا طالب بقسم الفلسفة بكلية الآداب في التصوف الإسلامي، ودفعني بعد تخرّجي إلى التخصص فيه، ولعل هذا نفحة من نفحات الحب سرت إليّ من ابن الفارض وباحثه المتصوف"، ومن هنا عاد للكتابة عن فتنة الحب لابن الفارض عام 1973.
ابن الفارض: قراءات لنصّه عبر التاريخ
عاش ابن الفارض حياة الحب الإلهي وتغنى به في رياض التصوف حتى أضحى لقبه بين الناس سلطان العاشقين. كتب عنه أهل الشرق والغرب، وترجم شعره إلى لغات عديدة، وتناول الباحثون ديوانه بالقراءة والتحليل والكشف عن مواطنه الجمالية وأبعاده الصوفية، وردّ منابته إلى الشعر العربي القديم، لذا من الصعب الحديث عما كُتب حول هذا الصوفي في مقالة أو بحث، وليس من باب المبالغة أن نقول إن عملاً إحصائياً لما كُتب عن ابن الفارض وشعره يستحق كتاباً مستقلاً، لذا ستركز هذه المقالة على قراءة غير مشهورة لابن الفارض وشعره، هي قراءة وحيد بهمردي، الأستاذ بالجامعة اللبنانية الأميركية.
عاش ابن الفارض حياة الحب الإلهي وتغنى به في رياض التصوف حتى أضحى لقبه بين الناس سلطان العاشقين. كتب عنه أهل الشرق والغرب، وترجم شعره إلى لغات عديدة
وحيد بهمردي قارئاً للعرفان والتصوف
في مثل هذه الأيام قبل عام مضى، عقدت دائرة اللغة العربية بالجامعة الأميركية في بيروت مؤتمراً للتصوف والأخلاق، كانت للدكتور وحيد بهمردي مشاركة فيه، تلا بعض أشعار الرومي الفارسية وأخذ يحلل بعضها بروح مرحة، جعلت الحضور منجذبين إليه بشكل لافت، خلف هذه الروح المرحة رصانة علمية وقراءة واسعة في مجالات شتى، ربما هذا ما حدا بأستاذته أمنية غصن، أن تصفه بـ"العزيز المشغول أبداً ودائماً، والمصرّ على قراءة ما لا يعنيه"/ ورغم شخصيتها الناقمة/الصادقة وجدتْ فيه "العزاء تلميذاً وأستاذاً وزميلاً" ورأت في بحثه الدراسي عن "المناحي الروحية في أدب جبران خليل جبران"، عملًا يستحق الاهتمام والمناقشة، فتلاه في قاعة الدرس طالباً، واحتفظت أستاذته بنسخة منه لأعوام طوال، وهو لا يملك نسخة منه!
ليس شرطاً لكي تكون قارئاً وعارفاً أن تُكثر من التصانيف، بعض الناس يرغب عن التصنيف ولا يلتفت إليه، قنع بعض الصوفية بذلك قديماً، وإن لم يكن بهمردي مؤمناً بطرق القوم، إلا أن فعله شبيه بفعلهم، فالسعي في منافع العباد شطر من تصوفهم، وهو ما نلمحه في عون بهمردي لكل طالب لمساعدته، كما نصّ على ذلك غير واحد من تلامذته في طليعة أعمالهم عن الدرس الصوفي، وسواء كان في الجامعة أو خارج أسوارها، كما فعل مع مؤلف معجم المصطلحات الصوفية بترجمته لبعض الاصطلاحات الفارسية، إلى جانب تجربته الأولى في الكتابة عن المناحي الروحية في أدب جبران، كتب بهمردي عن اللغة الصوفية ومصطلحها في شعر ابن الفارض، كما حقق رسالة السلوك في الأخلاق والأعمال وقدّم لها بدراسة تحليلية كشف فيها عن مواطن الاختلاف بين فكر الرشتي وسلوك القوم الصوفية وكشفهم.
تمثل رسالة وحيد بهمردي عن الفارض امتداداً لتقليد علمي في الجامعة الأميركية في بيروت، ففي عام 1934 ناقشت روز غريب أطروحتها عن ابن الفارض وتائيّته، مطلّة على عالم سلطان العاشقين لتعيد رسم معالم حياته من جديد، وتكشف عن مذهبه الصوفي، ما توافق فيه مع متصوفة الإسلام وما تناوله من أفكار صوفية بأسلوب مختلف، خاتمة لرسالتها بصورة للمعجم الاصطلاحي الفارضي. ويعود الاهتمام بابن الفارض مرة أخرى في الدائرة العربية بالجامعة الأميركية على يد نور سلمان 1954، فتنال شهادة أستاذ في العلوم عن دراستها "معالم الرمزية في الشعر الصوفي" ويحظى شعر ابن الفارض في هذه الدراسة باهتمام كبير منها.
هل المصحف أعظم من الله؟ هل يتحول أنبياء القرآن إلى رموز صوفية؟ ما هو مقام النبي محمد في عقيدة ابن الفارض؟ كيف تكوّن المصطلح الصوفي عند ابن الفارض؟ هل كانت الإشارة عند ابن الفارض أسلوب خفي للتعبير عن العقائد التي يجب السكوت عنها؟
يجدد الاهتمام بابن الفارض مرّة أخرى عام 1986 وحيد بهمردي، إلا أننا في هذه الدراسة نحظى بالمزيد من النقاش والتساؤلات التي تعيد الكشف عن مساحات مجهولة في حياة الشاعر "الصوفي"، لغته وتجربته الشعرية، مصدّراً عمله بردّ أغلب التجارب الصوفية إلى تعرّفها على الآراء والعقائد الهندية والفارسية واليونانية، وتأثرها بالمذاهب الباطنية كالإسماعيلية، متفقاً في ذلك مع محمد كامل حسين.
وإن ناقش البعض هذا الرأي عن مصدرية التصوف بأن قوام التصوف الإسلامي وأساسه قد بني على القرآن والحديث، فإن المفهوم الصوفي للأصلين، بحسب بهمردي، يختلف عن مفهوم الفقهاء والعوام، فتأويلات الصوفية تأويلات تُخرج هذه النصوص عن ظاهرها، وأغلب الأفكار المنثورة في التصوف غريبة عن العرب والعقل العربي، ولا تختلف الاصطلاحات الصوفية عن أفكار التصوف في كون جذورها يونانية/ إسماعيلية، "لهم اصطلاحات بينهم لا يعرف معانيها غيرهم"، وهدف هذه الاصطلاحات التقيّة والكتمان، وإن شرح الصوفية اصطلاحاتهم في كتب ورسائل، كما فعل الطوسي، القشيري، السهروردي وابن عربي. وسوف يتأثر لاحقاً بفكرة بهمردي عن "التقيّة في الإسلام" سامي مكارم، فقد دان له بالفضل والعرفان بالجميل لقراءته مسوّدة عمله وإبدائه الكثير من الملاحظات عليه.
لماذا ندرس ابن الفارض اليوم؟
دراسة أشعار ابن الفارض هي دراسة لطور الاكتمال والنضج في الشعر الصوفي، وسبب آخر يعود إلى أن أغلب شرّاح ديوان ابن الفارض قد عالجوا لغته ومصطلحاته في ضوء نظرتهم وفهمهم لتصوف ابن عربي، كما يلاحظ بهمردي، فلم ينظروا إليه مباشرة، بل عبر وسيط مهيمن، لذا جاءت دراسة بهمردي لبيان ما امتازت به أشعار ابن الفارض في التعبير عن أمور الحب الإلهي والتجلي والمشاهدة والوحدة، وما يشير إليه بهمردي من هيمنة أفكار ابن عربي على شرّاح ابن الفارض ينطبق تماماً على شرّاح مثنوي الرومي، وهو أمر التفت إليه غير واحد من الدارسين، من أمثال سيد حسين نصر، ويظهر جلياً لمن طالع أغلب شروحات الأنقروي لمثنوي الرومي.
هل كان ابن الفارض صوفياً؟ هل صحيح أن زهده لم ينل شيئاً من التركيز في كتب التراجم المعاصرة له؟ هل عاش تجربة الحب العذري؟ هل انتقل عشقه من الحسي إلى الإلهي؟ هل عاش حياة اللهو؟ هل كان محباً للرقص والغناء؟ هل كان للبيئة الشيعية أثر في ابن الفارض؟ هل تمثّل ببعض المعتقدات الإسماعيلية في حياته وأشعاره؟ هل كان ابن الفارض علوياً بالمفهوم العرفاني والإيماني أم كان معتنقاً للمذهب؟ كيف يمكن أن تكون أشعاره إلهاماً إلهياً نتيجة انجذاب ووجد وهي ذات خصائص بديعية؟ ما مدى علاقة ابن الفارض بابن عربي؟ وهل من علاقة بين رؤيته ورؤية المتنبي؟
هل كان ابن الفارض علوياً بالمفهوم العرفاني والإيماني أم كان معتنقاً للمذهب؟ كيف يمكن أن تكون أشعاره إلهاماً إلهياً نتيجة انجذاب ووجد وهي ذات خصائص بديعية؟ ما مدى علاقة ابن الفارض بابن عربي؟ وهل من علاقة بين رؤيته ورؤية المتنبي؟
هل يمكن اعتبار ابن الفارض شاعر الحب دون منازع؟ ما هي آية العشق التي كانت قبل ابن الفارض ونسخها بحبه؟ ما معنى الوحدة بين الحب والمحب والمحبوب؟ ما هو أثر الحجاز في عشقه؟ هل تساوت الأديان عند ابن الفارض فرأى عبادة الأحجار والكواكب والنار وغيرها من الطقوس شيئاً واحداً؟ ما المقصود بالاتحاد الذي يربطون ابن الفارض به ويعدّونه "شيخ الاتحادية"؟ هل تأثّر بهاء الله، مؤسس الدين البهائي، بأفكار ابن الفارض؟ ما هو أثر القرآن والحديث في لغة ابن الفارض وتعبيراته الصوفية؟ هل المصحف أعظم من الله؟ هل يتحول أنبياء القرآن إلى رموز صوفية؟ ما هو مقام النبي محمد في عقيدة ابن الفارض؟ كيف تكوّن المصطلح الصوفي عند ابن الفارض؟ هل كانت الإشارة عند ابن الفارض أسلوب خفي للتعبير عن العقائد التي يجب السكوت عنها؟
هل تساوت الأديان عند ابن الفارض فرأى عبادة الأحجار والكواكب والنار وغيرها من الطقوس شيئاً واحداً؟ ما المقصود بالاتحاد الذي يربطون ابن الفارض به ويعدّونه "شيخ الاتحادية"؟ هل تأثّر بهاء الله، مؤسس الدين البهائي، بأفكار ابن الفارض؟ ما هو أثر القرآن والحديث في لغة ابن الفارض وتعبيراته الصوفية؟
تجيب دراسة بهمردي على كثير من هذه الأسئلة في حياد علمي، فاتحة الباب لبحث أوسع، حول أشعار ابن الفارض وأثرها في الحركة الصوفية حتى القرون المتأخرة، وتنتهي عبر تحقيق ومقارنة واستقراء إلى اختراع ابن الفارض المصطلح الصوفي المركّب، الذي يمثل مرحلة متطورة في اللغة الصوفية للتعبير عن الأفكار المجردة، فقد أغنى ابن الفارض التراث الصوفي بعنصر كان يفتقر إليه لعدة قرون. وهكذا تكون دراسة اللغة الصوفية ومصطلحها في شعر ابن الفارض دراسة لطور البلوغ والنضج في الشعر الصوفي العربي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...