كانت المرة الأولى التي أعترف فيها بأن كورونا تعيش داخل جمجمتي الصغيرة وتتنقل بين أفكاري، حين كتبت منشوراً في إحدى صفحاتي على السوشال ميديا، تساءلت فيه عن ماهية هذا الإحساس الدائم بضيق التنفس الذي بات يرافقني 24 ساعة متواصلة أحياناً، وأوجاعي التي تظهر فجأة عندما أفكر بهذا الفيروس اللعين الذي يدعى "كورونا" أو "كوفيد-19"، كما يحلو للبعض تعقيد تسميته.
وأعترف أيضاً أنني حين كتبت المنشور المذكور، كنت أعلم مسبقاً بأنني أتشارك هذا الشعور وكثير من الأصدقاء الافتراضيين والحقيقيين على صفحتي، ولم أتفاجأ بالردود التي وصلتني، الجميع مدرك أن سبب هذا الشعور هو "وسواس" كورونا، الفيروس الذي قد يستوطن أحدنا بصمت دون أن ندري، وربما ينتقل عبرنا لأشخاص نحبهم وآخرين لا نعرفهم أصلاً، ولكن "ماذا لو كانوا كباراً في السن ومناعتهم ضعيفة؟ ماذا لو قتلتُ، عن غير قصد، شخصاً أحبه، في حال نقلت العدوى إليه؟ ما هذا الذنب الكبير؟ وماذا لو كان الفراق بحد ذاته موجعاً إلى حد كبير؟ وماذا لو لم أتمكن من الانتصار عليه".
أنا التي فضلت المكوث في غرفتي الصغيرة، في بناء في إحدى شوارع بيروت، غادره أغلب قاطنيه الى القرى كي يبقوا مع عائلاتهم، يخرجون الى الطبيعة ويتنفسون هواء نظيفاً، بسبب خوفي الشديد من نقل العدوى الى والدي اللذين يعانيان من أمراض مزمنة، في حال كنت أحمل الفيروس. بقيت أتنقل بين شرفة المطبخ، حيث اعتدت أن أشرب كوب القهوة في وقت العصرونية، غرفة الجلوس، حيث أتابع نشرات الأخبار التي طغت عليها أخبار كورونا واقتصادنا المنهار وأزماتنا المعيشية، وغرفتي، حيث أكتب وأقرأ وأمضي معظم أوقاتي.
لكن بعد حجر دام أكثر من أسبوعين، تخلله استثناءات، كالخروج لشراء الأشياء أو للتنفس قليلاً، قررت زيارة منزل عائلتي، حيث مكثت لأسبوع تقريباً دون أن أحتك بهم كثيراً.
ماذا لو كانوا كباراً في السن ومناعتهم ضعيفة؟ ماذا لو قتلتُ، عن غير قصد، شخصاً أحبه، في حال نقلت العدوى إليه؟ ما هذا الذنب الكبير؟ وماذا لو كان الفراق بحد ذاته موجعاً إلى حد كبير؟ وماذا لو لم أتمكن من الانتصار عليه؟
بعدها عدت الى مكاني وأشيائي الخاصة، حيث اعتدت أن أكون مع نفسي، في غرفتي، في المبنى شبه المهجور (القصر). لكني أعترف أن وسواس كورونا ابتعد قليلاً عني هناك، ربما لأن لا حالات مثبتة الإصابة في قريتي وضواحيها بعد، أو ربما بسبب انشغالاتي الكثيرة فلم يتمكن من الاستفراد بي، لكن هذا ليس مهماً، فوسواس كورونا كان ولا يزال معي، خفّ قليلاً في مراحل معينة أو ازداد: النتيجة واحدة. عدت وعاد الضيق يعصر صدري.
قبل أيام، اتصلت بالخط الساخن الذي خصصته وزارة الصحة للطوارئ والاستفسار عن هذا الفيروس، أخبرت سارة التي أجابت على اتصالي بأنني أشعر بضيق في صدري وكأنني أعصره بيدي، وقبل أنّ تسألني سارعت قائلة: "لكن لا أشعر برشح ولا سعال وحرارتي ليست مرتفعة. أدرك أنني ربما أبالغ بالتواصل معك، لكن ماذا لو كان الفيروس صامتاً؟"، أردت أن أطمئنها بأنني بحال جيدة، وأخبرتها أيضاً بأنني سأراقب نفسي وأعاود الاتصال بها في حال ظهرت العوارض المفروضة أو المتوقعة.
سألتني سارة مجموعة أسئلة، لتخبرني بعدها أنني بحال جيدة، لا عوارض كورونا عليّ ولا داعي لمراقبة نفسي أصلاً، إذاً إنه الوسواس، عاد هذه المرة ولكن بقوة أكبر!
أقفلت الهاتف وانتابني شعور متضارب: ماذا عليّ أن أفعل؟ هل يجب أن أكون مسرورة لما قالته سارة، أو أستسلم لأفكاري؟ وماذا لو تركت الشك يدخل رأسي ليأخذ حيزاً الى جانب وسواسي القهري؟ حسناً، وما أدراها سارة أنني لا أحمل الفيروس؟ لا أحد يمكنه ضمان ذلك، ألم نسمع أن الفحص المخبري نفسه قد لا تكون نتيجته دقيقة أحياناً! فكيف يمكن أن تقنعني سارة بأنني على ما يرام ولا داعي للخوف!
في إحدى التعليقات التي كتبتها صديقة مقربة لي، كان مفادها بأننا بعد هذه العزلة سنحتاج لمساعدة معالج نفسي، أخبرتها حينها أن هذا أمر محتوم، ما قبل كورونا وما بعده، نحن الناجين ربما من هذا الفيروس، سنكون محكومين بالتعامل مع واقعنا الجديد كمرضى نفسيين
في اليوم التالي، حدثت صديق لي عما حصل معي، وأخبرني أنه حين يستوطن الفيروس جسدي، سأدرك من تلقاء نفسي أنني قد أصبت بكورونا، ولن أحتاج لأن أستشير أحداً آنذاك. هو الذي أخبره صديق له أن إصابته بالفيروس قد أنهكت قواه وجعلته غير قادر على فعل أيّ شيء، حتى أنه فقد شهيته للطعام، إضافة الى مروره بالعوارض الأخرى التي بات صغيرنا وكبيرنا يخافها ويدركها، "حسناً، إنه لأمر مطمئن بعض الشيء"، ففكرة أن يدرك الإنسان ما يجري داخل جسده من دون تدخل خارجي لأمر جيد، يقينا تبعات العدوى والإهمال كيلا تتفاقم حالتنا الصحية.. لكن ماذا بالنسبة للانهيار النفسي الحتمي لفترة الحجر الإلزامي؟
في إحدى التعليقات التي كتبتها صديقة مقربة لي، كان مفادها بأننا بعد هذه العزلة سنحتاج لمساعدة معالج نفسي، أخبرتها حينها أن هذا أمر محتوم، ما قبل كورونا وما بعده، نحن الناجين ربما من هذا الفيروس، سنكون محكومين بالتعامل مع واقعنا الجديد كمرضى نفسيين.
حتى الآن، لا أزال أذكر يوم الإعلان عن أول حالة كورونا في لبنان، لسيدة كانت في زيارة لإيران. حينها وصفني أحد الأصدقاء بالـ"مهلوعة"، ولليوم لا تزال كلمة وزير الصحة ترن في أذني "لا داعي للهلع"، ربما لن يصيبني الفيروس، هو احتمال من اثنين، لا أحد يعلم. نعم إنها فترة قاسية وصعبة للغاية فمن سيخلصنا جميعاً من هذا الوسواس!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت