عام 2003، كنتُ أتحسّس أطراف الخيوط التي تقودني لأخوض عالم قصيدة النثر، وكنت أشهد تآمراً من الحياة عليّ لأفعل، فأضحك في سرّي من هذا التآمر الإيجابي، وأتبع كل إشارة تومض لي لأخوضها وأكتبها وأكتب عنها، في مواجهة أعدائها الكثيرين ومعارضيها.
كنت طالبة في السنة الثالثة في قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بحمص، ومتابعة دائمة للنشاطات الثقافية في المدينة، لا سيما نشاطات اتحاد الكتاب العرب في مقرّه بحي الغوطة، أحد أشهر أحياء حمص.
حين وقعتُ على نصوص ديوانه "الصومعة والعنقاء" في جريدة العروبة التي تصدر وتوزع في حمص، صرت أنتظر يوم الخميس لأسارع باقتنائها، كي أقرأ ما كتب في صفحته الأسبوعية، والتي كان ينشر فيها نصوصاً من هذا الديوان الفريد قبيل صدوره.
لا أغالي إن قلت إن ديوان "الصومعة والعنقاء" أثّر في نصّي تأثيراً أساسياً، ومنحني طاقة استثنائية للانطلاق في عالم هذه القصيدة التي لم تكن تريد شيئاً من أحد سوى الشرعية.
رنّت أجراس ميلاد المسيح في يوم ولادة الشاعر السوريّ ممدوح السكاف، عام 1938، شيخ كتاب حمص، كما كان يلقب، لاسيّما وأنه ظل رئيساً لفرع اتحاد كتاب حمص على مدى سنوات عديدة، ليس من باب الاستبداد بالكرسي، بل بسبب الشعبية التي حاز عليها، تبعاً للحالة المميزّة المشهود له بخلقها في منبر رسمي معروف بتقليديّته في محافظات أُخر:
أجراس ميلاد السيّد المسيح تقرع في قلبي
هي أجراس ميلادي
في اليوم نفسه هويت معه إلى العالم
صعدَ هو.
في تلك الفترة، كان المشهد الشعري السوري يشهد غلياناً على صعيد بزوغ قصيدة النثر، وسط معركة عنيفة بينها وبين القصيدة الموزونة، بما فيها من قصيدة الشطرين وقصيدة التفعيلة اللتين كتبهما شعراء كثر، منهم الشاعر السكاف عبر دواوين عديدة أصدرها: "في حضرة الماء"، "فصول الجسد"، "الحزن رفيقي" وغيرها.
لذا كان من الملفت أن يصدر شاعر مثله، قضى سنوات حياته بين الأوزان، ديواناً يكتب على غلافه بكلّ جرأة "قصائد نثر"، مقدماً نصوصاً تضج بالجرأة شكلاً وموضوعاً، ليس هذا فحسب، بل إنه لنصرٌ يسجّل لقصيدة النثر في وقتها، أن يجاهر بها شاعر تفعيلة بمكانة الشاعر السكاف.
وحطّ طائر الفينيق... سنة على رحيل ممدوح السكاف الشاعر السوريّ الحمصيّ الذي عشق مدينته
أتمالك قلمي الآن وأحاول متابعة الكتابة عن شاعر حمصيّ عشق مدينته، ولم ينل حظه من الشهرة سورياً وعربياً، كونه ليس من الشعراء الدمشقيين أو المقيمين في دمشق، لكنّ الشاعر الذي في داخله لم تهمّه شهرة أو مجد، فظلّ ذلك الإنسان الهائم في شوارع مدينته القديمة:
أنا أحد عشّاق الظلّ
أحبّ الجلوس في المقاعد الأخيرة.
ليس من السهل أن أكتب ما أجّلت كتابته لسنوات طويلة عن شاعر وإنسان له الفضل على الكثير من أبناء وبنات جيلي، بل إنها لخيانة أن أفعل بعد أن غاب.
كنت ومجموعة من الأصدقاء الأدباء الشباب نواظب على متابعة أماسي اتحاد الكتّاب التي كان يحيك برنامجها بذوقه الشعري، مقدّراً الحاضرين، الصغير فيهم قبل الكبير، ونتشوّق لكأس الشاي عقب انتهائه، وهو طقس، كما أحبّ دائماً تسميته، حرص الأستاذ ممدوح، المعروف بأبي رضا، على تكريسه، مانحاً فرصة لطيفة للقاء الأدباء والمهتّمين.
قرأت معظم نصوص "الصومعة والعنقاء" في جريدة العروبة قبل أن أعرّفه بنفسي، بعدها تجرّأت وكتبت له رسالة حدّثته فيها عن هواجسي المتعلّقة بقصيدة النثر، وعن ارتعاشي فيما أقرأ قصائده النثرية، لأني لمستُ بينها وبين الإرهاصات التي تعتمل بداخلي تقاطعات عجائبية، وكأن هنالك ترتيب قدري بين صدور ديوانه هذا بالمزامنة مع فوران قصيدة النثر في دمي.
عقب انتهاء أحد النشاطات دنوت منه وقدّمت نفسي وأعطيته الرسالة، وأرفقت مع رسالتي تلك نصّاً بعنوان "أبجديّة الليل" كتبته في الفترة نفسها، لتكون هذه الرسالة فاتحة تعارفنا، ويبدأ بعد ذلك تواصل إنساني دام لسنوات عديدة، سمعت منه خلالها قصصاً عن شعراء عاصرهم، مثل علي الجندي ومحمد عمران وموريس قبق، وغيرهم ممن أعجب بتجاربهم الشعرية والحياتية، مثل شاعره الأقرب إلى روحه عبد الباسط الصوفي، الذي كتب عنه دراسة نقدية صدرت في كتاب عنوانه "عبد الباسط الصوفي الشاعر الرومانسي.. دراسة في حياته وشعره".
وهنا أستذكر حادثة حكاها لي عن الشاعر الحمصي الراحل موريس قبق، صاحب ديوان "الحبّ واللاهوت"، الذي أصدره واعتزل الشعر بسبب الظلم المجتمعي الذي وقع عليه عقب نشره، حيث روى أنه في أحد الأيام، وبينما كان هو وموريس يسيران في شارع الدبلان بحمص، لمح محمود درويش، فسارع بلهفة وأشار لموريس قائلاً: موريس انظر إنّه محمود درويش، لكنّ موريس مضى في طريقه دون أن يلتفت، وفي هذا دلالة على أن موريس حين قرّر اعتزال كتابة الشعر، اعتزل كل ما يمتّ لعالمه بصلة، قالها بغصّة واختنق صوته حزناً على صديقه.
أبو رضا الذي كان يخاطبني ويخاطب أدباء جيلي بلفظ بابا، مرحّباً بكل من يقصد روحه الطيبة المبدعة ليستهدي بها إلى طرق الشعر ومفاتيح أبوابه، كانت له مملكته الواقعة في أحد المباني القريبة من ساعة حمص القديمة، وتحديداً باتجاه طريق حماه، هي صومعته كما كان يسمّيها، ذلك المكان الذي انهمرت فيه قصائد مجموعته الاستثنائية، حيث كان يسارع كلّ مساء إلى هناك وهو يشعر أن أنهاراً تريد أن تفيض وتنسكب، واستمرّ به الحال هكذا شهوراً حتّى كانت "الصومعة والعنقاء".
اليوم وأنا أعود إلى نسخة قصيدة "أبجدية الليل" التي أرفقتها مع رسالتي له، وأعادها إليّ مع تشطيبات واقتراحات وبقايا صفوة تبغه، أفكر في هشاشة الحياة التي لطالما كتب عنها:
أوانٍ فخارية، زجاجية
معروضة على رصيف للبيع
حينما أشاهدها أفكر:
جسدي مثل أجسادها، سريع العطب.
امتلك ممدوح السكاف ما يكفي من الرؤيا ليكون من أنبياء الشعر، فمن يقرأ ديوانه "الصومعة والعنقاء" الذي كان آخر دواوينه، يلمس هذا، وأكثر الشواهد التي يتحدّث فيها عن موته، وكأنه كان موقناً أنه يقول في ديوانه الأخير هذا كلّ ما يريد قوله، لأنه سيصمت بعده ويكمل حياته لسنوات عديدة، ثم يرحل مثبتاً أنّه كان هذا آخر ما قاله شعراً.
ها هو ينهي آخر قصائده وعنوانها "شاعر يودّع قصائده":
أغادركم حزيناً حزيناً بلا ارتواء.
نعم، فمثل الشاعر السكاف لا يرتوي من الحياة ولا من الشعر. هكذا يحيا الشعراء وهكذا يموتون، على الرغم من أنه ربما أراد خلال هذا الديوان مواساة نفسه الحزينة حدّ التداعي، والتي استحالت أطلالاً وخراباً فقال:
عندما أموت
لن أحزن على نفسي كثيراً
لقد امتلأتُ بالحياة
وملأتها.
آخر مرّة رأيته فيها كانت يوم زفافي بحمص في 8 مايو/أيار 2011، حيث حضر مع زوجته، على الرغم من الوضع الأمني المريب يومها، إلا إن الموجع أنّ هذا الشاعر الحمصيّ حتى النخاع اضطر لترك مدينته، معشوقته الأزليّة "حمص" إثر حرب لعينة أحرقت منزله وصومعته وكلّ إرثه الروحي، وأحرقت كتاب "سفر العنقاء" الذي أهديته إيّاه.
"يا دهرُ قد طال البعاد عن الوطن... عُدْ بي إلى حمص ولو حشو الكفن/واهتفْ أتيتُ بعاثرٍ مردودِ/ واجعلْ ضريحي من حجارٍ سودِ"... سنة على رحيل الشاعر الحمصي ممدوح السكاف
ممدوح السكاف الذي لطالما أنشدني بيت نسيب عريضة بتوجّع وحسرة قبل الحرب بسنوات، كان حدسه يدلّه أنه سيلقى مصيراً مثل هذا:
يا دهرُ قد طال البعاد عن الوطن
هل عودةٌ تُرجى وقد فات الظّعن
عُدْ بي إلى حمص ولو حشو الكفن
واهتفْ أتيتُ بعاثرٍ مردودِ
واجعلْ ضريحي من حجارٍ سودِ
رحل في 3 مايو/أيار 2019 في أرض غريبة، لم يعد إلى حمص "ولو حشو الكفن"، ولم يكن قبره من حجارتها السود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 9 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت