معظم الناس محجورة في بيوتها. مطاعم وفنادق مغلقة بالكامل. لا سفر فالحدود مغلقة والمطارات لا تعمل وأحياناً لا تنقّل بين المدن داخل الدولة الواحدة. في دول عدة، صار الذهاب للتسوق في أقرب متجر يحتاج تصريحاً مكتوباً يجب إظهاره للشرطة. وكل هذا تفرضه قرارات حكومية تنص على محاسبة المخالفين. هذا هو الحال في معظم دول العالم.
ولكن في السويد الوضع مختلف بشكل كبير. تبنّت هذه المملكة الأوروبية استراتيجية مغايرة تماماً عن استراتيجيات كافة جيرانها الأوروبيين. فالحياة فيها، إلى حد كبير، لا تزال كما هي. أغلقت الجامعات والمعاهد وتركت المدارس الابتدائية والمطاعم مفتوحة.
أما الحكومة فتكتفي بإطلاق "نصائح" تدعو إلى التزام "مَن تظهر عليه أعراض المرض" بالبقاء في البيت، ودعت إلى عدم تجمع أكثر من 50 شخصاً، فيما منعت ألمانيا على سبيل المثال أي تجمع فيه أكثر من شخصين.
أثارت استراتيجية السويد حيال انتشار فيروس كورونا سجالات كثيرة. انتقدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واصفاً إياها بأنها "فاشلة"، مضيفاً أنه إذا انتهجها لتوفي في بلاده الملايين، فيما اعتبرها آخرون استراتيجية حكيمة، وحاول استغلالها بعض الداعين إلى عدم فرض قيود على الحركة مثل رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الذي أعاد تغريد منشور يشيد بسياسات السويد.
الاكتفاء بـ"التوصيات"
يقول البرلماني السويدي والقيادي في الحزب الاشتراكي الديمقراطي أندش أُستربَري إن بلاده تمتلك نظاماً صحياً يُعتبر بين الأفضل في العالم، وتتبع كل هيئات الدولة توصيات الخبراء في القطاع الصحي.
ولكن قبل تفشي كورونا، وصلت إلى البرلمان شكاوي عن مشكلات عدة في القطاع الصحي، منها نقص الموارد الطبية.
يؤكد أُستربَري لرصيف22 أن الاستراتيجية السويدية لمجابهة جائحة كوفيد-19 تهدف إلى "تقليل فرص انتشار الفيروس بأبسط الطرق التي تسمح باستمرار الحياة في البلاد دون تأثر الاقتصاد".
ويشرح البرلماني استراتيجية بلده بالقول: "في السويد، نكتفي بتوصية المواطنين بمنع التجمعات لإيقاف انتشار العدوى كخطوة أولى، وللعمل على ضمان الموارد للرعاية الصحية".
ويوضح أن "دعم الاقتصاد السويدي والشركات الصغرى في ظل هذه الأزمة له مساحة كبيرة من هذه الاستراتيجية"، ويضيف: "بجانب هذا كله، فإن نشر المعلومات عن كافة الإجراءات التي تقوم بها الحكومة لمحاربة الوباء هو عامل مهم لوقف انتشار الفيروس، فحرية تداول المعلومات تساهم في طمأنة المواطنين ونشر الوعي بينهم".
ويتابع: "أهم شيء هو تصعيد الإجراءات حسب الحاجة وليس استباقياً".
مقارنات عربية "غير مسؤولة"
يستغرب الحقوقي والخبير في قضايا السلام في مركز أولوف بالما السويدي الدولي، والذي عمل لسنوات في مؤسسات سويدية كبرى مرتبطة بوزارة الخارجية، ثائر كريم، تصريحات شخصيات عربية كنجيب ساويرس، ويصفها بأنها "غير مسؤولة"، مضيفاً: "مَن يتحدث عن استراتيجتنا عليه أولاً أن يقرأ معلومات صحيحة عنها".
يشير إلى أنه "في السويد، لا يمكن لرجل أعمال مهما كان شأنه أن يصرّح ناصحاً بأمور غير مختص فيها. الكل هنا يخضع لآراء الخبراء… وفي ظل أزمة مثل وباء كورونا يسترشد الجميع، وأولهم الحكومة، بتوصيات الخبراء في القطاع الصحي".
في الأساس، يعتبر كريم أنه "لا يمكن مقارنة الشعب السويدي بالشعوب العربية... فالشعب السويدي يثق ثقة كبيرة في حكومته وفي أبحاث خبراء القطاع الصحي ومسايرتهم لتوصيات منظمة الصحة العالمية، فيما أشكّ في أن هذا يحدث في الدول العربية".
"لا يمكن مقارنة الشعب السويدي بالشعوب العربية... فالشعب السويدي يثق ثقة كبيرة في حكومته وفي أبحاث خبراء القطاع الصحي ومسايرتهم لتوصيات منظمة الصحة العالمية، فيما أشكّ في أن هذا يحدث في الدول العربية"
ويضيف لرصيف22: "الحكومة السويدية لا ولن تتبنى سياسة الإجبار، كالحظر مثلاً، بالشكل المفروض في غالبية الدول العربية حالياً، وذلك لأن المسؤولية الفردية للشعب السويدي مرتفعة ولا يمكن مقارنتها بعادات الشعوب العربية".
ويتابع أن "السويديين كأشخاص ومؤسسات التزموا رأساً بتوصيات الحكومة بعدم إقامة التجمعات وإيقاف السفر من البداية، بدون فرض أو إجبار من السلطة. وبالعكس، فإن السلطة هنا مستحيل أن تستخدم الفرض والإجبار أو العنف لتطبيق مثل هذه التوصيات".
وظهرت في بعض الدول العربية تجاوزات من مواطنين لإجراءات الحظر "الإجبارية"، كمسيرة غريبة خرجت ضد الكورونا في الإسكندرية وشارك فيها العشرات واضعين أنفسهم أمام خطر الإصابة بالفيروس. ونزلت القوى الأمنية إلى الشوارع في دول عربية أخرى لفرض حظر التجوّل ومارست عنفاً غير مبرر على مواطنين، كما أظهرت فيديوهات من المغرب.
ولكن صحفاً سويدية كبرى انتقدت الاستراتيجية العامة التي تترك الأمر لمسؤولية المواطن الفردية، وكتب رئيس تحرير صحيفة "داغنس نيهتر": "لا يسعنا أن نكرر في السويد حالة اليأس التي عمّت بين سكان ووهان في الصين وبرغامو في إيطاليا. سيكون الأمر بمثابة مغامرة تنتهك المبدأ الأساسي للمجتمع. لا بد من اتخاذ تدابير أكثر صرامة، أو إخضاع السكان عموماً لاختبار الكشف عن الوباء".
وبرأي كريم، مما يساعد على استجابة المواطنين لتوصيات الحكومة أن السويد دولة مؤسسات، "بمعنى أنها دولة لا تحكمها حكومة فقط أو مجموعة محددة أو مؤسسة واحدة كما في معظم الدول العربية". فالحكومة، يضيف، تسترشد بتوصيات خبراء الصحة قبل تتبنى أي سياسة، وعليها الحوار مع المعارضة في البرلمان، وهذا ما يضفي صفة "الشرعية" على قراراتها.
ويوضح أُستربَري أن الحكومة، من أجل إغلاق أماكن عامة كمراكز التسوّق، تحتاج إلى قانون، ولذلك قدّمت للبرلمان مشروع قانون لإعطائها هكذا صلاحيات دون الرجوع إليه، "لكسب الوقت"، ويضيف: "هذا القانون هو فقط محدد في ظل أزمة كورونا ويتناول قرارات يعرف البرلمان سلفاً أنه لن يعارضها، فهو توفير فقط للوقت وليس توسيعاً لسلطات الحكومة".
"الوضع عندنا مختلف عن الوضع في الدول العربية"، يقول البرلماني الذي يمارس عمله من المنزل إذ "لم يعد لدينا في البرلمان أية لقاءات أو اجتماعات وجميعها تتم ونحن في البيت، عبر الإنترنت".
السويد VS دول الخليج
منذ بداية تفاقم أزمة انتشار وباء كوفيد-19، منتصف مارس/ آذار الماضي، ومع أول حالة وفاة في السويد بسببه، قال رئيس الوزراء ستيفان لوفين إن بلاده بدأت تدخل مرحلة جدّية من الأزمة وعلى مَن يستطيع العمل من المنزل ألا يذهب إلى مكان عمله.
يقول كريم إنه، منذ ذلك الوقت، أخذت جميع المنظمات والشركات تنصح العاملين فيها بالعمل من المنزل، وهو شخصياً يعمل منذ شهر عن بعد، دون أي خصم من راتبه.
"مع هذا، هناك قطاعات تأثرت بقوة وكثيرون فقدوا عملهم"، يتابع مضيفاً أن الدولة تحاول التعويض عليهم.
"الحكومة السويدية لا ولن تتبنى سياسة الإجبار، كالحظر مثلاً، بالشكل المفروض في غالبية الدول العربية حالياً، وذلك لأن المسؤولية الفردية للشعب السويدي مرتفعة ولا يمكن مقارنتها بعادات الشعوب العربية"
وأطلقت السويد حزمة مساعدات مالية تقدر بـ300 مليار كرونة سويدية (30.94 مليار دولار) لدعم الاقتصاد، إضافة إلى إجراءات كتخفيض الضرائب على الشركات.
وتشمل هذه المساعدات المهاجرين واللاجئين أو "السويديين الجدد"، كما يُطلق عليهم أحياناً في السويد، ممّن لديهم عمل ولكن عقودهم مدعومة من الدولة، ضمن خطة لترسيخهم في سوق العمل السويدي. ولكن ما زال كثيرون منهم مهددين بعدم تجديد إقاماتهم التي تستند على حصول اللاجئ على عمل ثابت لضمان التجديد، في وقت خسر العشرات منهم أعمالهم نهائياً.
وترتفع البطالة بشكل كبير يومياً بعد أزمة كورونا بحسب تقديرات مكتب العمل السويدي، وصرحت كيرستين هيسيوس، نائبة محافظ البنك المركزي سابقاً، بأن معدل البطالة سيزيد إلى ما بين 20 إلى 40%.
أما في دول الخليج الغنية والقادرة مادياً على تجاوز أزمة كوباء كورونا، فالمسألة مختلفة. تقول سميرة (اسم مستعار)، وهي مصرية كانت تعمل لسنوات طويلة في إحدى المؤسسات الحكومية القطرية، أنه تم تسريحها تعسفياً من عملها بداية نيسان/ أبريل، دون إخطارها مسبقاً.
وتضيف: "هناك العشرات من العاملين الأجانب في القطاع العام أو الخاص تم تسريحهم من عملهم دون أي إنذار وآخرون يذهبون إلى أعمالهم دون أخذ أية إجراءات احترازية للوقاية من الوباء، وقسم ثالث خُفّضت رواتبهم إلى النصف ويعيشون الآن ظروفاً اقتصادية عسيرة".
وفي الكويت، انتشرت عدة فيديوهات، وصفها البعض بالعنصرية، لشخصيات عامة كويتية تطالب بطرد العمالة الأجنبية من البلاد خوفاً من انتشار وباء كورونا.
مناعة القطيع المستترة
يعتبر كبير خبراء الأوبئة في السويد أندرش تيغنيل "أنه من المبكر الحكم على سياسية أي دولة حالياً بأنها صحيحة أو غير ذلك، والعبرة بالنتائج".
ولكنه يضيف: "مع ذلك، فإن النتائج الأولية لاستراتيجية السويد لمجابهة وباء كوفيد-19 إيجابية".
يأتي هذا التصريح على الرغم من انتقادات واسعة لعدم جاهزية المملكة لوباء عالمي، كما قال رئيس الحكومة نفسه، وظهور انتقادات واسعة للسياسة العامة بعد وفاة العشرات من كبار السن بالفيروس.
يؤكد تيغنيل أن السويد لا تتخذ سياسة "مناعة القطيع" ولكنها "تتمناها هي وكافة الدول، بمعنى أنه إذا أصيب مواطنو دولة ما بالفيروس واستطاعوا النجاة وتكوين أجسام مضادة ضده سيصبح المرض فيها، مهما انتشر، كالإنفلونزا، لا خطر كبيراً منه، ولكن حالياً لا تجرؤ السويد على اتخاذ هذه السياسة لأن أصحاب المناعة الضعيفة سيكونون الضحية، وهي تتّبع فقط استراتيجية تبطيء انتشار الفيروس خصوصاً أنه يبدو أن الوباء سيستمر لأشهر طويلة".
وعن عدم إغلاق السويد للمدارس الابتدائية، يقول أُستربَري: "قبل أن أكون برلمانياً، أنا معلّم، وأرى أن اتباع وزارة التعليم لتوصيات الحكومة بعدم إغلاق المدارس الابتدائية قرار حكيم، أما التعليم عن بعد للفئات الأكبر والجامعات فيُنفَّذ بامتياز الآن، خصوصاً أن لدينا تعليماً إلكترونياً متميزاً لا يوجد مثله في الدول العربية".
الجيش "للحماية فقط"
يتهم كثيرون الأنظمة العربية بأنها استغلّت أزمة الكورونا لفرض المزيد من هيمنتها على المواطنين ولتقييد الحريات. وفي دول عربية عدة، نزل الجيش إلى الشوارع لتطبيق حظر التجوّل، وتورّط ببعض الأعمال القمعية.
أما الجيش السويدي، فمع ظهور أزمة كورونا، سارع إلى بدء إجلاء كافة جنوده من العراق، حيث تشارك السويد في قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش، وسيعود كل الجنود في بداية أيار/ مايو.
وعن مساهمته في مواجهة الأزمة، يقوم الجيش السويدي بإنشاء مستشفيات ميدانية للإصابات الحرجة، بطلب من الحكومة، كما تساعد طائرات الهليكوبتر التابعة لوزارة الدفاع بنقل المصابين بين المدن لتخفيف العبء عن عاتق القطاع الصحي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...