لا يمتلكون رفاهية الاختيار. يقفون أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما يعانون من الجوع في بلداتهم في الضفة الغربية أو يعرّضون أنفسهم لخطر الموت بالكورونا داخل إسرائيل التي تسجّل معدّلات مرتفعة من الإصابة بالفيروس.
محمد الزغاري (40 عاماً)، من قرية جورة الشمعة في الضفة الغربية، هو أحد هؤلاء العمال. قبل نحو أسبوعين، ودّع عائلته وأطفاله الثمانية وانطلق للعمل في إحدى كسارات الحجارة في تل أبيب.
يقول في اتصال هاتفي مع رصيف22 إن الظروف المعيشية الصعبة دفعته لاختيار المبيت في مكان عمله، عقب قرار حكومي فلسطيني وآخر إسرائيلي بإعلان حالة الطوارئ والبدء بإغلاق تدريجي لمدن الضفة الغربية ومنع الدخول أو الخروج منها خشية انتشار الفيروس.
في 18 آذار/ مارس، خيّرت الحكومة الفلسطينية العمال بين البقاء في الضفة الغربية أو المبيت في أماكن عملهم في إسرائيل لمدة تتراوح بين شهر وشهرين، مع تأكيدها على وجود ضمانات من الحكومة الإسرائيلية بتوفير سكن مناسب وظروف حياتية جيدة لهم.
عشرات آلاف العمال تدفّقوا إلى أماكن عملهم في الداخل، لكن ما أن وصلوا حتى تكشفت الكارثة. فوفقاً لشهادات عمال تواصل معهم رصيف22 هاتفياً، لم تلتزم الحكومة الإسرائيلية والمشغلون الإسرائيليون بوعودهم، بل هنالك استغلال لهم، خاصة للعاملين في قطاع الإنشاءات.
يقول الزغاري بغضب: "بعد وصولنا إلى أماكن عملنا، فرض المُشغّل الإسرائيلي شروطه علينا: إما المبيت في الورش التي نعمل فيها أو الخروج والبحث عن مكان للسكن بالإيجار على نفقتنا الخاصة".
ويضيف أن ارتباطه بالتزامات مالية وأقساط بقيمة أربعة آلاف شيكل (1100 دولار)، بالإضافة إلى إغلاق الضفة من قبل الحكومة الفلسطينية، أجبرته على القبول بالبقاء في الورشة، في شقق غير مكتملة البناء، وفي "ظروف غير آدمية".
ويروي أن أغلب العمال ينامون على فرشات رفيعة يضعونها مباشرة على الأرض أو على "ألواح الدكت" (ألواح خشبية)، ولا يتوفر لهم داخل الورش مكان صحي للاستحمام ولا مطبخ لإعداد الطعام، مشيراً إلى أنهم يُغلقون النوافذ المفتوحة ببعض الأغطية وأحياناً بملابسهم.
"لا نملك رفاهية الاختيار"
"لم يكن لدي خيار آخر"، يقول ابن مدينة الخليل خالد البابا (45 عاماً). فعدم قبوله بظروف الإقامة مهما كانت سيئة يعني إخراجه من قائمة العمال الحاصلين على تصاريح رسمية وإحلال غيره مكانه.
يلفت إلى أن المشغل الإسرائيلي، خاصة في قطاع الإنشاءات والمقاولات الذي يعمل فيه منذ عشرين عاماً، يحرص على تسليم المباني في الوقت المحدد تجنباً لأية خسارة ممكنة، ويتابع: "لكي نحفظ فرصنا في العمل نضطر للقبول".
يُعيل البابا خمسة أطفال، إضافة إليه وزوجته، ويقدر التزاماته المالية شهرياً بقرابة 3000 شيكل (825 دولاراً)، بين مصاريف بيت وتعليم وصحة وأقساط ديون لتجار اشترى منهم مستلزمات ضرورية لبيته.
يقول بمرارة: "نحن لا نمتلك مصدراً آخر لتوفير قوت يومنا، ومكتب العمل ونقابة العمال التي تتقاضى منا أقساط تأمين صحي وتقتطع جزءاً من مستحقاتنا لا تُعيرنا اهتماماً، ولا تحاول إحقاق حقوقنا في أية أزمة نتعرض لها. فقط نواجه مصائرنا وحدنا".
مخاطر الإصابة
يقول ابن قلقيلية إبراهيم خليل هلال (32 عاماً)، ويعمل في مجال القصارة في ورشة بناء في تل أبيب، إن نسبة قليلة جداً من المشغلين الإسرائيليين وفّروا مساكن وغرفاً للعمال لضمان استمرارية عملهم وتجنب خسائر مالية إذا تأخر تسليم المباني.
ويضيف لرصيف22 أن المشغل الإسرائيلي منحه تصريحاً لمدة شهرين يضمن العمل والإقامة في ظروف مناسبة، ووفّر له ولستة عمال آخرين مسكناً في مدينة الناصرة بمقومات بسيطة من فرش وأغطية وأماكن للاستحمام وإعداد الطعام.
لكن ما يُقلق هلال هو سرعة انتشار فيروس كورونا في إسرائيل، ففي المبني الذي يقطنه هناك أربعة إسرائيليين مصابين به، إضافة إلى إجراءات الحكومة الإسرائيلية القاضية بإغلاق المدن وتخفيض عمل القطاعات الحيوية إلى 20% فقط، خاصة مع اقتراب عيد الفصح اليهودي.
لا يمتلكون رفاهية الاختيار. يقفون أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما يعانون من الجوع في بلداتهم في الضفة الغربية أو يعرّضون أنفسهم لخطر الموت بالكورونا داخل إسرائيل التي تسجّل معدّلات مرتفعة من الإصابة بالفيروس
يؤكد أن كل ذلك جعله يقرر إنهاء عمله خلال الأسبوع القادم والعودة إلى قلقيلية، ويقول: "الخشية ليست من حمل الفيروس بل من حالة اللوم الاجتماعي والملاحقة الأمنية التي تنتظرنا في الضفة الغربية، فالجميع يتهم العامل بالطمع والحكومة اعتبرتنا ثغرة لنشر الوباء في مختلف المحافظات"، مردفاً بلهجة عامية: "لكن ما يجبرك على المر إلا الأمر منه".
لا يختلف حال عامر فقهاء (45 عاماً)، من بلدة سنجل في قضاء رام الله، ويعمل في مصنع لتدوير النفايات في المنطقة الصناعية في عطروت، قرب حاجز قلنديا على الجدار الفاصل بين أراضي الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 48.
يؤكد فقهاء لرصيف22 أن ظروف المبيت التي وفرها مشغله الإسرائيلي جيدة نسبياً إذا ما قورنت مع ظروف مبيت العمال الذين يعملون في مشاريع داخل كحيفا وتل أبيب وغيرها.
لكن ذلك، يضيف، لا يخفف من "غصة الافتراق عن الأهل والأولاد خاصة في ظل الظروف الاستثنائية الحالية"، مؤكداً أنّه لا يُسمح له بالتجول أو مغادرة السكن إلا للذهاب إلى العمل.
برأيه، في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة في مناطق الضفة الغربية حيث فرص العمل قليلة، يبقى العمل في المشاريع الإسرائيلية في المنطقة الصناعية فرصة لتوفير متطلبات العيش والإيفاء بمستلزمات الحياة الإنسانية البسيطة.
يخشي فقهاء انتقال العدوى إليه، خاصةً بعد الإعلان قبل أيام عن إصابة 15 عاملاً في مصنع "جلات عوف1" الواقع في ذات المنطقة الصناعية في عطروت، ويؤكد أنّه على استعداد تام لترك العمل والخضوع للحجر الصحي في حال طالبتهم الجهات الرسمية بالعودة.
إعادة إلى الضفة
برغم أن إدخال العمال الفلسطينيين خلال الأسبوعين الأخيرين من آذار/ مارس لم يكن اعتباطياً، بل جاء بعد دراسة لتخطي الأضرار التي يُمكن أن تلحق بقطاع الصناعة والبناء في إسرائيل، إلا أن مرض بعض العمال نتيجة وضعهم في أماكن غير لائقة ومهددة للسلامة البدنية في ظل تفشي وباء الكورونا، جعل الحكومة الإسرائيلية تقرر تخفيض أعدادهم، والبدء بإجراءات إعادتهم إلى الضفة الغربية مجدداً.
"الخشية ليست من حمل الفيروس بل من حالة اللوم الاجتماعي والملاحقة الأمنية التي تنتظرنا في الضفة الغربية، فالجميع يتهم العامل في إسرائيل بالطمع والحكومة اعتبرتنا ثغرة لنشر الوباء في مختلف المحافظات"
وأكد محمد أبو الرب (38 عاماً) من سلفيت في شمال الضفة الغربية، ويعمل في مجال البناء في تل أبيب، أن اضطرار العمال للمبيت في الورش والمزارع والعراء تسبب رمض بعضهم، مضيفاً لرصيف22 أن "المشغل الإسرائيلي حين يشك بصحة أحد عماله يعمد إلى تسريحه وتسليمه إلى الشرطة التي تُقله إلى الحاجز الفاصل بين بلدته في الضفة الغربية وأراضي الـ48".
برأيه، يسعى المُشغل الإسرائيلي إلى الاستفادة من العامل لأقسى درجة بإجباره على العمل لساعات إضافية بدون أجر عنها، نظراً لعدم اضطراره للعودة كما في السابق إلى بلدته في الضفة الغربية.
ويروي أنه "إذا أصيب العامل بتدهور في حالته الصحية نتيجة الإجهاد والعمل المتواصل يتم التعامل معه بشكل غير إنساني وتبدأ إجراءات فحص الحرارة ومن ثم يُلقى به على الحواجز الإسرائيلية الفاصلة بين أراضي الضفة الغربية وأراضي الـ48".
وكان محافظ طولكرم، في شمال الضفة الغربية، قد قال لرصيف22 إنه خلال الأسبوع الماضي تسلم من حاجز جبارة العسكري جنوب طولكرم ثلاثة عمال فلسطينيين من طولكرم وسلفيت بعد تسريحهم من قبل مشغليهم الإسرائيليين بحجة الاشتباه بإصابتهم بفيروس كورونا المستجد.
وأضاف: "العمال الثلاثة كانوا في حالة إعياء شديد وتم حجرهم في مركز صحي في طولكرم إلى حين ظهور نتائج تحاليلهم".
عودة العمال تدريجياً
بعد الإعلان صباح الأول من نيسان/ إبريل عن إعادة 15 عاملاً فلسطينياً من إسرائيل إلى الضفة الغربية، بعد إصابتهم بفيروس كورونا، حاول رصيف22 التواصل مع وزارة العمل الفلسطينية للوقوف على الإجراءات التي سيتم اتخاذها من أجل حماية العمال.
وكيل وزارة العمل الفلسطينية في الضفة الغربية سامر سلامة قال إن همّ وزارته الأول حماية العمال من انتشار الوباء. وكشف عن مساعي حكومية لإيجاد صندوق للطوارئ وصندوق للتعويض يستفيد منه كافة المتضررين من الوباء معلقاً آمال تنفيذهما على توفير الأموال الكافية من المانحين.
وفي ما يتعلق بترك العمال أمام مصير مجهول في الأسابيع الأولى لانتشار الوباء في إسرائيل، أكد سلامة لرصيف22 أن القرارات التي تتخذها وزارته تتصف بالآنية واللحظية بما يتوافق مع حالة الطوارئ المعلنة، وقال: "السماح بذهاب العمال ومبيتهم كان في وقت لم يكن فيه الوباء منتشراً بشكل كبير في إسرائيل"، مضيفاً أنه "بين ساعة وأخرى قد تحدث مستجدات، وتضطرنا إلى اتخاذ إجراءات مغايرة".
الآن، يقيم في إسرائيل 15 ألف عامل فلسطيني، من أصل حوالي 50 ألفاً يعملون في مجالات البناء والمقاولات والزراعة والصناعة قرروا البقاء في الداخل، في آذار/ مارس الماضي.
يشير سلامة إلى أن العدد يتقلص تلقائياً وفقاً لحالة انتشار الفيروس في الداخل وإقدام الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ إجراءات حجر لمجابهة تفشيه.
ويضيف أنه خلال الأسبوعين القادمين وقبل عيد الفصح اليهودي، في منتصف نيسان/ أبريل، سيُعاد كافة العمال الفلسطينيين من الداخل إلى بلداتهم وقراهم في الضفة الغربية وسيتم إغلاق منافذ الوصول إلى الداخل، إلى حين تخطي الجائحة، لافتاً إلى أن العمال الذين سيعودون سيتم إخضاعهم للحجر الصحي.
يُذكر أن العمال الفلسطينيين العاملين في المنشآت الإسرائيلية يرفدون الاقتصاد الفلسطيني بملايين الشواكل شهرياً من خلال اقتطاع السلطات الإسرائيلية ضريبة ادخل من أجورهم وتحويلها إلى السلطة الفلسطينية عبر عائدات المقاصة، فيما يقتطع من أجورهم ما قيمته 93 شيكلاً (25 دولاراً) شهرياً للتأمين الصحي ويتم تحويلها إلى وزارة الصحة الفلسطينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين