أسابيع قليلة في العزل المنزلي في إطار تدابير الوقاية من الفيروس المستجد كانت كفيلة بإصابة الغالبية العظمى من الأشخاص بالضجر والتأفف، وسط تحذيرات يطلقها المتخصصون حول مخاطر الاستسلام لليأس.
ربما هذا ما دفع بالكثيرين إلى استدعاء بعض التجارب الملهمة لأشخاص تمكنوا من اجتياز سنوات طويلة من الإبعاد والعزل. وفي هذا السياق، تقدم تجربة المناضل والرئيس الجنوب إفريقي الأسبق نيلسون مانديلا الذي قضى 27 عاماً في زنزانة ضيقة لا تتجاوز المترين مثالاً يمكن الاستناد إليه.
في مقالة نشرتها مجلة "نيويوركر"، كتبت الصحافية روبن رايت: "عندما قال لي البروفيسور صمويل بول فيسيير إن ‘الأمور الكارثية أمر سيّىء حقاً للصحة العقلية، إذ تجلب الاكتئاب عن طريق القلق فيؤثر ذلك على جودة الحياة والوظائف المناعية‘، بدأت لعبة ذهنية لتحديد الأشخاص الذين عرفتهم أو تابعت قصصهم خلال سجنهم أو عزلهم أو نفيهم في ظروف أسوأ بكثير من هذه الظروف".
وأضافت: "تذكرت الكثيرين، بعضهم كان مشهوراً والكثير منهم غير معروف. أعادت كل واحدة من قصصهم تبيان ما يستطيع البشر تحمله والتغلب عليه في نهاية المطاف".
عزلة موحشة وملابسات كارثية
بدأت رايت قصصها بقصة مانديلا، قالت: "بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، كتبت عن حقبة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا حيث اعتقل مانديلا في زنزانة خرسانية رطبة في جزيرة روبن (في المحيط الأطلسي)، وهي مستعمرة سابقة للمصابين بالجذام حُوّلت سجناً".
وفي وصف هذه الزنزانة نقلت ما رواه مانديلا: "يمكنني المشي في زنزانتي ثلاث خطوات. وعندما أستلقي، يمكنني تحسس الحائط بقدمي ورأسي يلمس الخرسانة على الجانب الآخر. كان العرض نحو ست أقدام. كان عليّ اعتبار تلك المساحة الصغيرة بيتي ولم أكن أعرف مقدار الوقت الذي سأمضيه فيها".
سُجن 27 عاماً في زنزانة لا تتجاوز المترين محروماً من زوجته وأطفاله، عاش بلا هاتف أو إنترنت أو صحف، وأصيب بالسل… في أيام الحجر المنزلي، عودة إلى تجربة نيسلون مانديلا وكيف نجح في تجاوز الآثار النفسية لعزلته الطويلة
ومضت رايت في وصف عزلة مانديلا: "لم يكن لديه إمكان الوصول، كما نفعل نحن الآن، إلى الصحف والهواتف والتلفزيون"، بل لم تكن لديه رفاهية الحصول على ملابس نوم إذ "كتب ذات مرة مناشداً مأمور الحصول على ملابس نوم، لم يكن يسمح إلا للسجناء البيض بتلقيها".
ولفتت إلى أن عزلته ازدادت كآبةً ووحشة بعد القبض على زوجته عام 1969، إذ قال لأطفاله في رسالة: "قد تعيشون مثل الأيتام مدة طويلة".
وأشارت إلى إصابته عام 1988 بالسل، معربةً عن دهشتها لدى إصرار مانديلا عقب الإفراج عنه بعد 27 عاماً في "روبن آيلاند"، تحديداً وهو في الثانية والسبعين من العمر، على إعادة إنشاء أمة والفوز بجائزة نوبل للسلام.
تحدي "اعتياد الرتابة"
في مقال له عبر موقع "The conversation"، اعتبر الأكاديمي والكاتب جايفن إيفانز أن "روتين الملاكمة" ساعد في إنقاذ مانديلا جسدياً وعقلياً طوال فترة السجن، وربما طوال حياته.
ونقل إيفانز بعض نصائح مانديلا كما وردت في سيرته الذاتية "مسيرة طويلة نحو الحرية"، إذ قال: "لقد أطلقت العنان لغضبي وإحباطي على حقيبة (تدريب) الملاكمة، بدلاً من إخراجهما نحو رفيق (زنزانة) أو حتى نحو شرطي".
وكان مانديلا قد بدأ ممارسة الملاكمة وهو طالب في جامعة فورت هير، وزاد اهتماماً بها مع انتقاله للدراسة والعمل والنضال في جوهانسبرغ في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته.
رأى مانديلا بعد سجنه أن هذا الروتين مفتاح الصحة الجسدية وراحة البال، وذكر في سيرته: "الملاكمة تبدد التوتر، والتوتر عدو السكينة. وجدت أنني عملت بشكل أفضل وفكرت على نحو أكثر وضوحاً عندما كنت في حالة بدنية جيدة، وعليه، أصبح التدريب أحد الأمور الإلزامية غير القابلة للإلغاء في حياتي".
روتين يومي حافظ عليه نيلسون مانديلا طيلة 27 عاماً في السجن والعزلة وجلب لجسده الصحة ولعقله راحة البال… عودة إلى تجربته في التغلب على "الرتابة"
قبل سجنه، كان مانديلا يحرص على أن يتخلل أسبوعه: أربعة صباحات للجري، وثلاث أمسيات للتدريب في صالة الملاكمة.
"كانت تلك طريقته لإفناء نفسه في شيء آخر غير النضال"، كتب إيفانز. وأضاف: "قال إنه كان يستيقظ في الصباح التالي وهو يشعر بالانتعاش، ‘أخف وزناً عقلياً وجسدياً‘ و‘جاهزاً لخوض المعركة مرة أخرى‘".
وعند وصول مانديلا إلى السجن، سخر أحد الحراس منه بالقول: "هذه هي الجزيرة. هذا هو المكان الذي ستموت فيه". منذ ذلك الحين بات "اعتياد الرتابة" جزءاً من التحدي الذي ينبغي له مواجهته. قال مانديلا عن ذلك: "حياة السجن تتعلق بالروتين: كل يوم يشبه اليوم السابق. كل أسبوع مثل الأسبوع الذي سبقه. تتشابك الأيام والشهور والسنوات".
في السجن، أصبح لدى مانديلا روتين يومي من العمل اليدوي الشاق في حفر الحجر الجيري واستخدام المطارق الثقيلة لتحطيم الصخور إلى حصى.
بحسب إيفانز، كان هذا مرهقاً، لكن مانديلا قرر عدم اعتباره عذراً للتخلي عن روتينه التدريبي، لذا عكف منذ ذلك الحين على روتين يومي جديد لتمرينه يناسب ظروف السجن. كان يستيقظ في الساعة الخامسة صباحاً للتمرين داخل زنزانته الرطبة الضيقة، بدلاً من صالة الملاكمة. وكما روى: "حاولت اتباع روتين الملاكمة القديم الخاص بي للقيام بأعمال الطرق وبناء العضلات".
كان يبدأ بالجري في المكان 45 دقيقة، ثم 100 تمرين ضغط، و200 تمرين بطن، ونحو 50 انحناء عميق للركبة، فضلاً عن التمارين التي تعلمها في صالة الألعاب الرياضية.
كان مانديلا يداوم على ذلك من الاثنين إلى الخميس أسبوعياً، ثم يستريح ثلاثة أيام، وهكذا أمضى فترة سجنه كلها، بما فيها مدة الحبس الانفرادي.
وختمت رايت مقالها بأنها رأت مانديلا مرتين بعد انتخابه رئيساً لجنوب إفريقيا عام 1994. ولاحظت أنه "لم يكن منغمساً في فترة حبسه أو في ظروف الحياة أثناء عزلته أو الانفصال عن الأسرة والمجتمع أو مرضه"، مستنتجةً من ذلك أنه "تحمل كل ذلك وتخطاه ببراعة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...